هل تكون كالينينغراد نقطة الاشتعال التالية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا؟

هناك توترات روسية داخلية مشحونة تتعلق بموقع كالينينغراد داخل الدولة الروسية والتي تُعَدُّ أيضًا سببًا لإشارات فلاديمير بوتين العدوانية تجاه جيران روسيا الأوروبيين.

فلاديمير بوتين: هل تكون كالينينغراد رأس حربة له في الاتحاد الأوروبي؟

ألكسندر كلاركسون*

في أُمسيةٍ صيفية دافئة في تموز (يوليو) 2005، شهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى جانب المستشار الألماني آنئذٍ غيرهارد شرودر والرئيس الفرنسي في حينه جاك شيراك، عرضًا ضخمًا للألعاب النارية الذي كان يُمتّعُ حشدًا غفيرًا في مدينة كالينينغراد على بحر البلطيق. في ذكرى مرور 750 عامًا على تأسيس ما كان في يوم من الأيام مدينة كونيغسبيرغ البروسية، أقامت الحكومة الروسية، التي ورثت كالينينغراد بعد غزوها من قبل الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية، مهرجانات مُتقَنة للاحتفال بتاريخها المُعَقَّد.

بالنسبة إلى بوتين، تُمثّل كالينينغراد أهمية شخصية واستراتيجية على حد سواء باعتبارها المنطقة التي نشأت فيها زوجته في ذلك الوقت ورمزًا لعودة روسيا إلى وضع القوة العظمى من خلال التوسّع البحري بالقرب من قلب حلف شمال الأطلسي (الناتو). كأرضٍ حبيسة مُحاطة ببولندا وليتوانيا وبحر البلطيق تم تسليمها إلى جمهورية روسيا السوفياتية، ظلت كالينينغراد تحت سيطرة موسكو حتى بعد أن تم عزل حدودها عن بقية روسيا عندما أعلنت ليتوانيا استقلالها عند انهيار الاتحاد السوفياتي. في حين أن مشاركة شرودر وشيراك في احتفالات العام 2005 كانت تهدف إلى الإشارة إلى شراكة روسيا مع أقوى دول أوروبا، إلّا أن عدم وجود دعوات للقادة البولنديين أو السويديين أو الليتوانيين بعث بإشارةٍ تُنذر بالسوء حول مَن يعتقد بوتين أنه يحق له إتخاذ القرارات وله الكلمة الفصل حول بحر البلطيق.

في العقد الذي تلا ذلك، تبدّلت آمال الاتحاد الأوروبي الذي كان يعتقد في أن تطور كالينينغراد يُمكن أن يُرسِّخَ التعاون مع روسيا بسبب المخاوف بشأن كيفية استخدام بوتين لها كنقطة انطلاق لطموحاته الإمبريالية. أثارت التدريبات العسكرية الروسية التي تمارس عمليات إنزال برمائي مخاوف في السويد من أن وضعها المحايد قد يُغري موسكو بالاستيلاء على جزيرة غوتلاند على افتراض أن هجومًا على الأراضي السويدية لن يؤدي إلى ردٍّ سريع من “الناتو”. أدى القلق من أن الفرق الروسية المدرعة يمكن أن تستولي على “فجوة سوالكي” (Suwalki gap)- قطعة من الأراضي البولندية التي تفصل كالينينغراد عن بيلاروسيا – لفصل دول البلطيق عن بقية “الناتو”، ما دفع الحكومتين البولندية والليتوانية إلى تعزيز دفاعاتهما حول الأرض الحبيسة في السنوات التالية حتى الحرب الروسية-الأوكرانية الحالية. وقد مثلت التدريبات الأخيرة التي تحاكي الضربات النووية في أوروبا بواسطة صواريخ إسكندر الباليستية المتمركزة في كالينينغراد تصعيدًا إضافيًا في استخدام بوتين للمنطقة كوسيلة للضغط على الاتحاد الأوروبي.

في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، كان هذا التموضع العسكري الروسي حول بحر البلطيق هو الذي جذب أكبر قدر من الاهتمام من صانعي السياسة الغربيين. ومع ذلك، هناك أيضًا توترات داخلية مشحونة تتعلق بموقع كالينينغراد داخل الدولة الروسية والتي تُعَدُّ أيضًا سببًا لإشارات بوتين العدوانية تجاه جيران روسيا. بسبب الطريقة التي ضمت بها موسكو منطقة كالينينغراد في الأصل، كانت ديناميكياتها الاجتماعية الفريدة مصدر قلق استراتيجي للدولة الروسية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. إنها منطقة انتهى تاريخها قبل العام 1945 في قلب التقاليد البروسية إلى نهاية كارثية بعد هزيمة ألمانيا النازية. لتشديد قبضتها على بحر البلطيق، طردت السلطات السوفياتية السكان الألمان هناك واستبدلتهم بمستوطنين من جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي. خلال الحقبة السوفياتية، تم تثبيط أي نقاش حول الماضي الألماني للمنطقة بين سكانها الجدد.

ومع ذلك، بحلول سبعينات القرن الماضي، بدأ عددٌ قليل من المثقفين التعبير عن بعض الاهتمام بتاريخ كالينينغراد ما قبل السوفياتية. اكتسب هذا الاهتمام غير الضار بالماضي الألماني للمنطقة زخمًا مع انهيار الاتحاد السوفياتي. كان افتتاح القنصليات الألمانية والبولندية والليتوانية والعديد من المعاهد الثقافية الأوروبية بعد العام 1991 بمثابة فترةٍ طوَّرَ خلالها الاتحاد الأوروبي خططًا اقتصادية طموحة للمنطقة على أمل أن يؤدي ازدهارها إلى تشجيع اندماج روسيا على نطاق أوسع في المؤسسات الغربية. تَوَّجت إعادة إحياء الاهتمام بالماضي الألماني للمنطقة بتبنّي الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804) كبطلٍ محلي، وتم دمج هوية كانط مع مدينة كونيغسبيرغ في القرن التاسع عشر بسلاسة في هوية كالينينغراد المُمَيَّزة للقرن الحادي والعشرين.

على الرُغمِ من وجودِ مخاوف محلّية بشأن المطالب المُحتَمَلة للحصول على تعويضٍ مالي من قبل السكان السابقين الذين طردهم السوفيات، إلّا أن الآمال في الاستثمار الاقتصادي من ألمانيا قادت النخب التجارية والفكرية في كالينينغراد إلى البحث عن شراكة أوثق مع المؤسسات الأوروبية. تم تعزيز هذه الروابط أيضًا من خلال زيادة وتسهيل الوصول للسفر إلى الاتحاد الأوروبي التي مُنحت للكالينينغراديين، بما في ذلك من خلال خطط الزيارة بدون تأشيرة. والذي أقلق مسؤولي الدولة في موسكو بحلول أوائل العام 2010 هو أن الكثيرين من سكان كالينينغراد صاروا مُرتاحين ومُتَقَبِّلين للماضي الألماني في منطقتهم وأصبحوا على دراية ومعرفة بالاتحاد الأوروبي أكثر مما يعرفون عن “البر الرئيسي” الروسي.

سرعان ما ظهرت هذه الخصائص المُمَيزة لعلاقة كالينينغراد مع جيرانها الأوروبيين في موسكو على أنها تهديدٌ لموقع روسيا الاستراتيجي في بحر البلطيق. بينما ركّزَ بوتين سلطته في أيدي حكومةٍ مركزية في موسكو لتدمير قدرة النُخَب الإقليمية على تحدّي موقعه، تبخّرت المساحة المُتاحة لأبناء كالينينغراد لتطوير علاقاتٍ مُتبادلة المنفعة مع الاتحاد الأوروبي. كانت كالينينغراد في العام 2010 مسرحًا لحالات ناجحة من الاحتجاجات الجماهيرية التي أجبرت موسكو على سحب مُرشّحها لمنصب حاكم المنطقة، ما أدى إلى زيادة الشكوك داخل أجهزة الأمن الروسية حول المسار السياسي للمنطقة. حتى قبل استيلاء بوتين على شبه جزيرة القرم في العام 2014، كان الدعم الذي قدمه للمنظمات القومية الروسية الراغبة في ترهيب أي شخصٍ يُشتَبه في عدم ولائه بمثابة بداية لحملة قمع ضد المجتمع المدني في كالينينغراد.

وزعمت الأوساط القومية، مدفوعةً ببارانونيا بشأن ما اعتبرته ميولًا “انفصالية”، أن التدخل الألماني هو الذي يؤجّجها. لذا بعد العام 2014 أغلقت موسكو أي مبادرة تهدف إلى بناء روابط أوثق مع بقية أوروبا. وقد أدّت سياسة المواجهة التي ينتهجها بوتين، بالإضافة إلى القيود التي تم فرضها ردًا على جائحة كورونا، إلى خفض مستوى الوصول إلى الاتحاد الأوروبي الذي اعتاد سكان كالينينغراد عليه. منذ غزو أوكرانيا، استهدفت جهود الكرملين خلق جوٍّ من الحماس القومي للحرب في كالينينغراد بشكلٍ خاص في محاولةٍ لتعزيز العداء تجاه دول الاتحاد الأوروبي. مع احتواء كالينينغراد بواسطة التركيز الكبير للأفراد العسكريين، وجدت جهود الدعاية هذه صدى بين المدنيين المحليين الذين تربطهم صلات قوية بالجنود والبحارة الروس المشاركين مباشرة في العمليات العسكرية على الأراضي الأوكرانية.

قد تؤدّي هستيريا الحرب التي يُغذّيها نظام بوتين إلى قمع السخط في المدى القصير. لكن الضرر الاقتصادي الذي سبّبته حرب بوتين ضد أوكرانيا والعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي ردًا على ذلك قد تؤدي إلى تفاقم الضغوط التي كانت تتراكم أصلًا في كالينينغراد. بصفتها منطقة معزولة محاطة بأراضي الاتحاد الأوروبي، تظل كالينينغراد مُعرَّضة لتأثير تصرفات الاتحاد الأوروبي أكثر من أي جُزء آخر من روسيا. إن المدى الذي يتمتع به سكان كالينينغراد بالنسبة إلى الخبرة الواسعة في حياة الاتحاد الأوروبي أكثر من معظم سكان روسيا هو أيضًا مَصدرٌ للتميّز الثقافي الذي يمكن أن يُعيدَ تأكيد نفسه ضد الضغط من موسكو بطُرُقٍ مُتقلّبة.

الخصوصيات الجغرافية والتاريخية التي تُحَدِّدُ هوية كالينينغراد لا تعني أن هناك احتمالًا واقعيًا لهذا النوع من “الانفصالية” التي يعتبرها الكثيرون في روسيا تهديدًا. إن القلّة من النشطاء التي دافعت عن قضايا انفصالية هي هامشية ليس لديها أي تأثير سياسي أو ثقافي. ومع ذلك، مع تزايد الضغوط حول كالينينغراد، هناك مخاطر من أن مزيجًا من الإحباط الاقتصادي والاغتراب الثقافي من حكومة مركزية بعيدة قد يمتد إلى علامات استياء.

في حين أن نظام بوتين في مرحلة سابقة من تطوره ربما تعامل مع مثل هذه الاحتجاجات بعناية، ففي شكله الراديكالي الحالي هناك احتمال قوي أنه قد ينظر إلى المعارضة في منطقة ذات قيمة استراتيجية لروسيا على أنها تهديدٌ وجودي والرد بعنف في الطرق التي تؤدي إلى مزيد من التصعيد. إن المدى الذي أصبح معه خيال البارانويا من انفصالية كالينينغراد المدعومة من ألمانيا موضوعًا مشتركًا في الخطاب القومي والعسكري الروسي يفتح أيضًا مخاطر أن أيَّ صدام بين أجزاء من سكان المنطقة وسلطات الدولة يمكن أن تفسره موسكو بسرعة على أنه علامة على أن دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي يُخطّطان للاستفادة من المشاكل الروسية في أوكرانيا من خلال ما يسمى بالثورة الملونة في كالينينغراد.

بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، من الصعب معايرة المخاطر المحيطة بمدينة كالينينغراد. ظلت المنطقة هادئة لأن الشعور بالوطنية الممزوج بالقمع الصارم للنظام قد ردع أي تعبير علني عن المعارضة. ومع ذلك، فإن الأزمة المتفاقمة التي يواجهها سكانها تعني أن لديها القدرة على أن تصبح نقطة اشتعال جيوسياسية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا مثل أي شيء شهدناه حول أوكرانيا أو بيلاروسيا. في الوقت الحالي، يستحق المحللون والأكاديميون في بولندا وألمانيا وليتوانيا، الذين يمكنهم تقديم تحذيرات مبكرة من احتمال زعزعة الاستقرار في المنطقة، دعمًا واهتمامًا أكبر بكثير من مؤسسات الاتحاد الأوروبي.

ويتعين أيضًا على صانعي السياسات في الاتحاد الأوروبي النظر في ما يمكن فعله لاستعادة الروابط مع سكان مثل هذا الجزء المهم من مجتمع البلطيق. على الرغم من أن أوكرانيا تحتاج لأن تكون الأولوية الأساسية للاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي، فإن المجتمع القريب جدًا من قلب أوروبا له أهمية استراتيجية حاسمة ليس فقط لجيرانه المباشرين، ولكن أيضًا للاتحاد الأوروبي ككل. باعتبارها منطقة لا يرى سكانها أي تناقض بين الهوية الروسية والالتزام ببناء منزل أوروبي مشترك على أساس سيادة القانون، يمكن أن توفر كالينينغراد نموذجًا للمشاركة المستقبلية مع “البر الرئيسي” الروسي. يمكن أن تكون أيضًا رمزًا للتضامن الذي قد يساعد جميع شعوب البلطيق على بناء جسر إلى مستقبل أفضل وتحقيق ما أسماه إيمانويل كانط ذات مرة “حالة من القناعة وراحة البال تكون فيها الفضيلة مكافأة لها”.

  • ألكسندر كلاركسون هو محاضر في الدراسات الأوروبية في”كينغز كوليدج لندن”. تستكشف أبحاثه التأثير الذي أحدثته مجتمعات الشتات عبر الوطنية على سياسات ألمانيا وأوروبا بعد العام 1945، وكذلك كيف أثرت عسكرة نظام الحدود في الاتحاد الأوروبي في علاقاته مع الدول المجاورة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @APHClarkson
  • كُتِبَ هذا المقال بالانكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى