إِليزابيتَّا سيراني: انقصافُ الريشة في أَوّل اللوحة

إِليزابيتَّا بريشتها (رسم ذاتي)

هنري زغيب*

يَقهر القدَر مرَّاتٍ كثيرة. يَقهر كثيرًا. يَقهر متوحشًّا في مصائره. وخصوصًا على المبدعين الحقيقيين: مؤَلِّفين موسيقيين ورسامين وشعراء انقَصفوا في ربيع عطائهم ليظلَّ ربيعهم عاصيًا على كل خريف.

هي هذه حال صبية إِيطالية موهوبة نشأَت بين الريشة واللون، وبَرَعت في عصرها لافتةً إِليها كبار القرن السابع عشر الإِيطالي. لكن القدر انقضَّ عليها قبل أَن تَتَبَرعَمَ زهرتُها السابعة والعشرون: إِليزابيتَّا سيراني (1638- 1665).

تخطيط لرسم ذاتيّ

موهبة في محترف

وُلِدَت في مدينة بولونيا (شمالي إِيطاليا) بكْر أُسرة الرسَّام وتاجر الفن جيوڤاني أَندريا سيراني (1610-1670) الذي تتَلَمَذ على الرسام المبدع في عصره غْويدو ريني (1575-1642) . نمَت في جو من الفن في محترف والدها الميسور الحال، فنشأَت على تربية ميسورة، ودرست الموسيقى والعزف على القيثارة والغناء والشعر والميثولوجيا والرسم.

صديق الأُسرة كارلو سيزاري مالڤاسيا (1616-1693: كبير مؤَرِّخي الفن في القرن السابع عشر) لاحظ موهبة إِليزابيتَّا المبكرة فأَقنع والدَها بتدريسها الرسمَ، إِذ النساء عصرئذٍ كُنَّ محرومات من التحصيل الأَكاديمية، ومن الدراسة في محترفات مخصصة للرجال فقط. تردَّد الوالد أَوَّلًا، مشكِّكًا في الأَمر، ثم رضي بأَن يُدخل ابنتَه ذاتَ الثلاث عشْرة إِلى محترفه تدرس وتعمل مع الرسامين. ثم اقتنع أَكثر فأَدخل بعدها شقيقتَيها باربرة وآنَّا ماريَّا، فيما ابنه أَنطونيو درس الطب وغادر البيت ولم يعُد إِليه.

كليوپاترا (وجه)

المسؤُولية المبكرة

في محترف والدها درست الرسم والتصوير والحفْر. وغنمَت من المكتبة العائلية فأَغنت ثقافتها الأَدبية والفنية والعلْمية. قرأَت باللاتينية والإِغريقية كتابات پلوتارك وأُوڤيد وپلين وبوكاسيو، وصقلَت ثقافتها الفنية بقراءَة كتب تقْنية متخصصة. وإِلى موهبتها البارعة في الرسم، اكتسبَت مع الوقت ثقافة عامة واسعة. في السابعة عشرة فتحَت دفترًا لأَعمالها راحت تدوِّن فيه اسمَ كل لوحة واسمَ طالبِها، فبلغَ المجموع في السنوات العشر التالية 190 لوحة، معظمُها بتأْثيرات مما كان سائدًا عصرئذٍ: أَساطير الميتولوجيا أَو فصول الكتاب المقدس.

سنة 1655 أُصيب الوالد بداء النقْرس سبَّب له جفافًا حادًا في مفاصله وتعذَّر عليه الرسم، فأَوكل إِلى ابنته إِليزابيتَّا إِدارة المحترف وهي لم تزل في السابعة عشرة. حملَت المسؤُولية بكل جدارة فيما أَكملت دراسة الرسم كي تتمكَّن من تلبية الطلَبات.

سنة 1658 تلقَّت أَول طلب من كنيسةٍ في بولونيا: لوحة تمثِّل اعتماد المسيح في نهر الأُردن. وُفِّقَت بارعةً في رسم الزيتية وأَعجبت طالبيها. هكذا أَقلعت مسيرة إِليزابيتَّا الفنية، ذاعت موهبتُها، توسَّعت شهرتها في المحيط، فتوالت عليها الطلبات لرسم وجوه أَصحابها، أَو رسْم لوحاتٍ تاريخية وميتولوجيَّة أَخذت مكانَها ومكانتَها في كنائس أَو لدى أَفراد من بولونيا وكذلك من فلورنسا وروما.

بياتريس تْشِنْتْشِي (وجه)

للنساء فقط

راحت الصبيَّة تعمل بجهد وضنى وشغَف، وعاشت منصرفةً إِلى الرسم في شبه انزواء واعتزال، بإِشراف والد متطلِّب في الدقة. لكنَّ شهرتَها وموهبتَها سبَّبتا لها الشكوك في إِمكانِ امرأَةٍ رسمَ زيتيات صعبة بهذه الجودة العالية والأَناقة المترفة، عصرَ النساءُ مبُعَدَاتٌ عن الدراسة الأَكاديمية. وكان على إِليزابيتَّا غير مرةٍ أَن تدفع عنها تلك الشكوك برسم زيتياتها مباشرةً أَمام زوارها في المحترف، لإِثبات قدرتها وموهبتها وبراعتها. وكان من أَبرز داعميها وطالبي لوحاتها ليوپولد دو ميديتشي (1617-1675) ابنُ قوزما الثاني وكبيرُ هواة جمع اللوحات الفنية في إِيطاليا عصرذاك.

انتقامًا من حرمان ربيباتها النساء دراسةَ الرسم في محترفات ذُكورية، أَسَّست سنة 1660 مدرسة للرسم مخصَّصة للنساء، استقبَلَت فيها شقيقتَيها باربرة وآنا ماريَّا، ونساءً أُخريات يُحبِبْن التدرُّب على الرسم، منهن: ڤيرونيكا فونتانا، لوكريسيا سْكارفاليا، جينيڤرا  كانتوفولي، درَسْنَ عليها وبَرَعْن بعدذاك في الوسط التشكيلي الإِيطالي.

في تلك السنة ذاتها، وحيال موهبته المبدعة وثبات قدرتها الفنية، تمَّ قبول إِليزابيتَّا في أَكاديميا القديس لوقا (أَقدم وأَشهر مؤَسسة للفنانين التشكيليين في روما. تأَسَّست سنة 1577 وتحوَّل اسمها لاحقًا إِلى “أَكاديميا الفنون الجميلة في روما”). وتميَّزت إِليزابيتَّا بموهبتها الفريدة فأَوكلت إِليها الإِدارة تدريس الرسم في الأَكاديميا، ما زاد من شهرتها أَكثر ومن إِقبال الطلبات على رسم اللوحات. وزاد مدخولُها وتمكَّنت من الانصراف إِلى هوايتها الأُخرى: الموسيقى، فتعلَّمت العزف على القيثارة ودرسَت أُصول الغناء.

سيف العدل تَشْهَرُهُ امرأَة

الغُرُوب الباكر

في عزّ انطلاقتها تلك، أُصيبت صباح 28 آب/أُغسطس 1665 بنوباتِ أَلمٍ فجائيةٍ قاسية. استدعَت عددًا من الأَطباء وصَفُوا لها مراهمَ لم تنفعْها فتُوفيَت مساء ذاك اليوم ذاته عن 27 ربيعًا، ودُفنَت في كنيسة الوردية (بازيليك سانتو دومينيكو في بولونيا) إِلى جانب غْويدو ريني أُستاذ والدها.

وعند تشريحها تبيَّنَت ثقوبٌ في معدتها أَشارت إِلى فرضية موتها مسمومة: كانت خادمتها لوسيا تولوميلّي قدَّمت استقالتها أَوّل ذاك الشهر لكن إِليزابيتَّا رفضتها. لذا اتُّهمَت الخادمة بتسميمها، فسُجِنَت ونُفَيَت. لكن والد إِليزابيتَّا عاد فاستدعاها إِلى بولونيا وغفَر لها. ودلَّ تشريح آخر على جرح في المعدة سبَّبَه ضغطُ الأَعصاب من عملها المتواصل الـمُضْني تلبيةً حاجاتِ أُسرتها، أَو استعمالُها في رسم زيتياتها صباغاتٍ تحوي حمض الزرنيخ.

انطفأَت لتُضيْءَ أَلوانُها

في القرن التاسع عشر صدرت عنها نُصوصٌ رومنطيقية افترض كتابها أَن إِليزابيتَّا توفيَت منتحرة بعد فشلها في قصة حب سرِّيّة.

ولكن… أَيًّا يكن سببُ موتها، تبقى ريشتُها شاهدةً على عبقريةٍ يُبعدُها النسيانُ عنّا، شعَّت وميضةً ثم انطفأَت، لكنما زيتياتُها باقيةٌ حتى اليوم خالدةً لا إِلى انطفاء.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى