حنينُ الخريف بريشاتهم (2 من 2)

هنري زغيب*

في الجزء الأَول من هذا المقال، عرضتُ سبع لوحات لسبعة فنانين خصَّصُوها للخريف، ونحن هذه الأَيام في قلب الخريف. لكنه، ولو انقضى، يبقى مخلَّدًا بريشات الرسامين الذين يتجاوزون فصلَه السنوي المحدود ليُبْقُوه ممتدًّا على جميع الأَشهر بعبقرية الفن الذي يتخطَّى جميع الفصول.

هنا الجزء الثاني الأَخير من هذا المقال وفيه سبع لوحات أُخرى لسبعة فنانين آخرين.

فردريك هاسَم: “البولفار في الخريف” (1888)
  1. الأَميركي فْردريك تشايلْد هاسَم (1859-1935)

هو من أَبرز الانطباعيين في عصره. سنة 1886 انتقل وزوجته مُود في الخريف من بوسطن إِلى باريس، فلَفَتَهُ طقسها الخريفي. وما إِن درس فترة رسم الوجوه في أَكاديميا جوليان حتى غادرها وانصرف إِلى رسم الطبيعة في مجموعة لوحات متتالية. وفي لوحته هذه عن الخريف رسَم امرأَة واقفة بين الأَشجار تتأَمل البولفار الفرنسي في طقس خريفي هادئ، وتنتظر العربة التي باتت قريبة منها. وواضح من اللوحة تأَثُّرُ الرسام باليوم الخريفي الباريسي المعتم والممطر تتناثر على رصيفه والطريق أوراقُ الخريف بين نقاط المطر التي يعكس بريقُها الغيومَ الداكنة.

هنري روسو: “برج إِيفل عند المغيب” (1910)
  1. الفرنسي هنري روسو (1844-1910)

سطعت شهرته في الرسم الذي يوحي أُسلوبه (على صعوبته) بأَنه ساذج وبدائي. هاجمه نقاد عصره غير أَنهم عادوا فتنبَّهوا إِلى طريقته التي أَثَّرَت في زمنه ولاحقًا في عدد من الرسامين. من نماذج فنه المتميز لوحة “برج إِيفل عند الغروب”، رسَمَ فيها برج إِيفل كما طالعًا من بين الأَشجار المتماوجة بين الأَصفر والبرتقالي، في طقس خريفي جميل ينعكس فوقُ على الفضاء، ويمتد انعكاسه تحت، في مياه نهر السين الجارية تحت الجسر. وكان يتباهى معتزًّا بأَنَّ له معلمةً واحدة هي الطبيعة، فانصرف لها.

بول غوغان: “مشهد في آرل” (1888)
  1. بول غوغان (1848-1903)

لوحته الخريفية “مشهد في آرل” تشتعل فيها أَمواج الضوء. ويرى النقاد أَنْ قد تكون إِحدى أوائل اللوحات التي رسمها في آرل، إِذ انتقل إِليها بدعوة ملِحَّة من صديقه فنسنت فان غوخ. هذا المنظر في الصورة وضعه غوغان في ناحية آليشان، وفيها مقبرة رومانية كبرى خارج سور مدينة آرل التاريخية. ومع أَن في البقعة أَضرحة، لم تبْدُ في اللوحة بل ظهرت قبة كنيسة قديمة على اسم القديس هونورا، تيَّاهة في وساعة الفضاء.

إِيغون شيلي: “أَربع أَشجار” (1917)
  1. النمساوي إيغون شيلي (1890-1918)

هو رسام تعبيري اشتُهر بكثافة لوحاته وجرأَتها، وبنرجسية متطرِّفة جعلَتْهُ يضع رسمًا له ذاتيًّا في أَوضاع مختلفة، بعضُها صادم. كان ضعيف البنْيَة فما احتمل جائحة الحمى الإِسبانية التي انتشرت في فيينا فتوفي عن 28 عامًا بعد زوجته بثلاثة أَيام. لوحته “أَربع أَشجار” من أَبرز أَعماله، ساوى في تأْليفها بين الخطوط الأُفقية والخطوط العمودية، وعرف كيف يزاوج بين النور والظل لإِطْلاع هذا المنظر على تلة نمساوية نائية تبدو وراءَها جبال بعيدة، وفي أَلوانها يتجلَّى واضحًا مذاقُ الخريف.

فاسيلي كاندنسكي: “الخريف في مورنو” (1908)
  1. الروسي فاسيلي كاندنسكي (1866-1944)

باكرًا غادر وطنه وانتقل إِلى أَلمانيا حيث وضع معظم أَعماله. بعد جولات له في أوروبا، عاد واستقر في مورنو (بلدة هادئة في مقاطعة بافاريا). أَحَب تلك البلدة وهدوءَها فرسم فيها عددًا كبيرًا من اللوحات، بينها لوحة الخريف في البلدة تحيط بها الجبال قريبها والبعيد. ولوحة الخريف بريشة كاندنسكي تتميز عن سواه من الرسامين الذين رسموا مناظر مشاهد ولقطات في الخريف، بأَنها من أَلوان باردة مع مزيج كثيف من الأَزرق، ما يجعل الخريف في تلك الناحية من وديان الأَلب أَقل حنينًا وحنانًا منه في لوحات سائر الرسامين الذين رسموا الخريف في باريس أَو آرل.

جان فرنسوا مِيّيه: “أَكوام البيدر في الخريف” (1874)
  1. الفرنسي جان فرنسوا مِــيّــيه (1814-1875)

اشتهر بلوحاته عن الريف الفرنسي. رسم الفلَّاحين والمزارعين بأُسلوبٍ كرَّسَهُ جعله رائد التيار الواقعي. وفي سنواته الأَخيرة انصرف إِلى رسم المناظر في الطبيعة. لوحته المنشورة مع هذا المقال واحدة من مجموعة كلَّفه بها سنة 1868 الصناعي والنائب الفرنسي فردريك هارتمان (1822-1880)، وتظهر فيها أَكوام القمح جاهزةً على البيدر بعد الحصاد، وفي خلفية الصورة بيوت باربيزون (بلدة في شمالي وسط فرنسا). كان رسم الأَكوام رائجًا في تلك الحقبة (اشتهر بها كلود مونيه) وموضوعًا شعبيًا في التداول، رغبه الرسامون لما فيه من التحدِّي في نقل جو الأَلوان والنور والظلال، وإِعطاء مسحة الحصاد في الخريف.

  1. الياباني كاتسوشيكا هوكوزاي (1760-1849)

قريبًا من جو لوحات مِيِّيه، كان جوُّ لوحات هذا الياباني في رسم الحقول والفلَّاحين. وهو موضوع مأْلوف في تاريخ الرسم أَينما كان، خصوصًا في فصل الخريف الذي هو في اليابان شبيه كثيرًا بالخريف في أُوروبا، خصوصًا مع تحوُّل أَوراق الشجر إِلى الاحمرار، وهو ما يظهر في لوحة هوكوزاي من تَدَرُّج في لون ورق الشجر من الأَخضر إِلى الأَحمر.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى