لنا نعمةُ الآتي وعليهم لعنةُ الشعب

بقلم هنري زغيب*

هاتَفَني من عاصمة أُوروپية كبرى، سائلًا رأْيي في مشاركةٍ سُئِلَها عن حدَث ثقافي سيجري في بيروت. لم يكُن سؤَالُه عن الحدَث ذاته بل عن صوابية توقيته في هذه الأَيام الْمُرَّة، والناس منشغلون بهموم الرغيف والدواء والليرة.

لم أُفكِّر ثانيةً واحدة: “طبعًا تشارك”، صافحتُه بالجواب، وفصَّلتُ قناعتي فبادَر.

طبعًا يشارك. لِمَ لا؟ الْمُرَّة هي أَيام السياسة في لبنان، وسياسيُّوها فاسدون مُفْسدون، فاسقون مفْسقون، عابرون زائلون مهما طَغَوا وبَغَوا، وستجرف الأَيام الآتية أَحداثَهم الفاجرة وأَسماءَهم المقرفة ووجوهَم اللعينة وأَشكالَهم الإِبليسية وذكراهم الشيطانية، وتطمُرُهم لعناتُ الشعب تلاحقهم حتى قبورهم المكلَّسة النتنة.

طبعًا يشارك. كيف لا؟ العمل الثقافي عابرٌ أَزمنةَ السياسة، وهو أَبقى وأَرقى وأَنقى من أَيِّ عملٍ سياسي، وهو خالدٌ في الزمان والسياسيون فانون في النسيان. مَن يذكر وزيرًا أَو نائبًا أَو رئيسًا من زمن موزار أَو شكسپير أَو غوته أَو دانته؟ كان في زمانهم رؤُساء ووزراء ونوَّاب وسياسيون فاسدون، فأَين هُم اليوم؟

طبعًا يشارك. وهل ننسحب؟ وإِن انسحبنا، لِمَن نترك الميدان؟ لهؤُلاء القادة؟ أَشباه رجال يتحكَّمون بشعبنا ووطننا ولا يدركون، أَو يتجاهلون، كم انهم مكروهون منبوذون ملعونون من شعبنا وسينقَضُّ عليهم قريبًا حتى جحورهم وأَوكارهم ومخابئهم وينهال عليهم بلعنات غضبٍ أَقوى من أَي سلاح.

طبعًا سنبقى ويرحلون. لأَنهم بالسياسة يعملون لانتخابات مقبلة على قياس قطعانهم وأَتباعهم ومحاسيبهم ورعاعهم، وبالثقافة الإِبداعية نعمل لأَجيال مقبلة على قياس لبنان الوطن الذي تأْنف حتى بلاطة الاستقلال في نهر الكلب من تذكُّر أَسمائهم اللعينة.

طبعًا سنبقى. والصالح من أَعمالنا هو الخالد في ذاكرة مستقبلٍ تحفظ أَعمال جبران والريحاني ونعيمة ومصطفى فروخ وعمر الأُنسي وخليل وسعيد تقي الدين والأَخوين رحباني ووليد غلمية وتوفيق الباشا وزكي ناصيف وسواهم، وأَعمالهم أَعلى من محاصصات السياسيين وطوائفياتهم ومذهبياتهم ورئاساتهم وحكوماتهم وپرلماناتهم وحساباتهم الصغيرة الحقيرة التافهة مثلهم.

طبعًا سنبقى. إِن ريشة رسام لبناني أَو إِزميل نحات لبناني أَو نوطات مؤَلِّف لبناني أَو كتابات شاعر أَو ناثر لبناني مبدع، أَبقى من أَيِّ تصريح سياسي أَو موقف سياسي أَو “إِنجاز” سياسي لا يرتفع إِلى مستوى الوطن ولا يقدِّم خدمة لأَجيال لبنان المقبلة.

طبعًا سنبقى. واغتذاؤُنا من “النبي” و”قلب لبنان” و”مرداد” و”جبال الصوَّان” وكلِّ عملٍ خالدٍ من مبدع لبناني نعبر به الزمان إِلى غدٍ للبنان تُشرق شمسُه على جيل لبناني ناصع غير مسيَّسٍ عميانيًا ولا مستزلمٍ قطعانيًّا، واعٍ أَن طغمة هذه السُلطةِ الحاكمةِ جيلَ آبائه لا تستحقُّ شرف أَن تَحكُم لبنان الآتي.

طبعًا يشارك، وجميعُنا نشارك في تنصيع وجه لبنان الثقافي الْمُشرق منارةً في ذاكرة الشرق، ولتخسَأْ صغائر حُكَّام وزعماء وسياسيين أَوكَلَهم الشعب مصيرَه فعملُوا لمصائرهم ومصائر نسلهم المقرف، ولم يَسعَوا إِلى مصير شعب لبنان.

عابرون زائلون تافهون، قليلةٌ عليهم لعنةُ الشعب، وكثيرةٌ لنا نِعَمُ لبنان تنتظرُ الأَنقياء منَّا على صدر تلَّةٍ زاهية من بهاء لبنان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى