لبنان…الحرب الأهليَّة المُستدامة (1): حَربُ اللبنانيين وحَربُ الإسبان!

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسباب والظروف التي جعلت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهليةٍ مُتواصِلة منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى اليوم. ويجري فيها تقديم الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجل استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعد والتنابذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، وربما بطرقٍ أخرى مختلفة. كما تطرح إشكاليات التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعضِ المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

قديمًا وحديثًا، وقعت في أنحاءٍ عديدة من العالم مئاتٌ من الحروب الأهلية الطاحنة والمُدَمِّرة لأسبابٍ عديدة ومختلفة، لكن معظمها لم يَطُلْ كثيرًا. ويُمكِنُ القول إنَّ الحربَ الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) هي من أطولها زمنيًا إن لم تكن أطولها على الإطلاق (وما زالت مستمرة بطرُقٍ أخرى). والملاحظ، في جميع الحروب الأهلية القديمة والحديثة، أنَّ كلَّ حربٍ منها تُختمُ على زَغَلٍ بتسوياتٍ مُلَفَّقة، من غيرِ مُصارحة بأدقِّ التفاصيل، لتُشَكِّل اعترافًا بالمسؤولية، لا تؤدّي إلى مصالحة حقيقية مانعة لعودة الحرب، أو حتى لاستمرارها بطُرُقٍ أُخرى مانعة لتسويةٍ ثابتة ونهائية غير قابلة للجدل والطعن.

ومن بين الحروب الأهلية الحديثة، اخترتُ الحربَ الأهلية الإسبانية (1936 – 1939) للمقارنة بالحرب اللبنانية، مع أنها كانت أقصر منها زمنيًا بكثير، إنْ لجهة الفظاعات الهمجية التي ارتُكِبَت فيها، أو لجهة حجم التدخّلات الخارجية في مجرياتها الميدانية، وذلك من خلال ما ورد عنها في كتاب “التاريخ في مقتطفات”، الصادر في لندن عن دار “كاسل” للنشر في العام 2004 (الذي يشمل خمسة آلاف سنة من التاريخ العالمي). وفي ما يلي أبرز أوجه المقارنة:

القطبان الرئيسيان في الحربَين الإسبانية واللبنانية اسمهما “حزب الكتائب” (الفالانج). والقول الشائع في لبنان ان الشيخ بيار الجميل الجدّ عندما أسس “حزب الكتائب اللبنانية” استلهم في ذلك تجربة حزب “الفالانج” الإسباني، مما عزَّز الزعم، المُغرِض ربما، أنَّ “الفالانج اللبناني” تأسّس على فرضيّة حتمية الحرب الأهلية.

استحضارُ التحريض الديني لإعطاءِ مُبَرِّرٍ وجودي للحرب، كما ورد على لسان مطران برشلونة أثناء التصويت في انتخابات شباط (فبراير) 1936، مما أطلقَ شرارة الحرب الأهلية بفوز أحزاب الجبهة الشعبية اليسارية، التي استصدرت تشريعات جذرية أهمّها الإصلاح الزراعي، ما استفز كبار مالكي الأراضي والكنيسة الكاثوليكية. (هنا أيضًا تصحُّ المُشابهة بين برنامج “الجبهة الشعبية الاسبانية” التي ضمّت كل أحزاب اليسار، وبين برنامج “الحركة الوطنية اللبنانية” بقيادة كمال جنبلاط، والتي ضمّت أيضًا جميع أحزاب اليسار).

فقد قال مطران برشلونة في موعظته قبيل الانتخابات: “إنَّ كلَّ صوتٍ للمُرَشَّحِ المُحافِظ هو صوتٌ للمسيح”!

إثارة المسألة الديموقراطية. في المجلس النيابي الإسباني السابق، في شهر حزيران (يونيو) 1936، وَقَفَ خوسيه ماريا جيل روبلز، زعيم التحالف الكاثوليكي لأحزاب يمين الوسط، ليُعلِن: “إن إسبانيا في فوضى وتخبُّط، ونحنُ اليوم نحضر جنازة الديموقراطية”. (من كتاب رونالد فريزر “دم اسبانيا: تجربة الحرب الأهلية 1936 – 1939” الصادر في العام 1979).

الإشارة أو الشرارة. يتّفق اللبنانيون على أنَّ أول إشارة أو شرارة للحرب الاهلية هي الهجوم الكتائبي المسلح على بوسطة عين الرمانة في يوم 13 نيسان (أبريل) 1975، وقتل ركَّابها من الفلسطينيين. أمَّا في إسبانيا، فقد كانت الإشارة رسالة إذاعية مُشَفَّرة بثَّها الجنرال إميليو مولا تقول: “في جميع أنحاء اسبانيا الجوُّ خالٍ من الغيوم”، مُطلِقًا بذلك بداية الانتفاضة الوطنية التي بها بدأت الحرب الأهلية في 18 تموز (يوليو) 1936. (من كتاب إيفان مايسكي بعنوان “ملاحظات اسبانية” الصادر في العام 1966. والكاتب كان سفيرًا للاتحاد السوفياتي في لندن في وقت اندلاع الانتفاضة العسكرية في المناطق الإسبانية من المغرب العربي، وامتدادها تاليًا إلى البرِّ الإسباني).

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متنابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى