مَتاريسٌ في دَربِ الربّ

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

ذات ضجر، أحضر الطفلُ حقيبةَ ظهره، وملأها بالسندويشات والعَصائر، وقرّر أن يذهب في نزهة في الجوار بحثاً عن الإله. كان يعلم يقينا أن الله أكبر من منزله المليء بالألعاب والهدايا والصراخ والشؤون التافِهة. وكان يُصَدِّق أباه الذي لم يجُرّب عليه كذباً قط أن الله يملك مفاتيح السعادة وكنوز الراحة، وأن خزائنَ حبّه لا تَنفد أبداً. وحين أغلق الباب خلفه، شعر بإثارة ما بعدها إثارة، وملأ رئتيه بالشغف والتشوّق. كان يُدرك أن الله قريبٌ جداً، وأنه حتماً سيجده هنا أو هناك.

بعد أن أضناه السير، وجد الفتى نفسه بالقرب من حديقة صغيرة، فقرّر أن يُريح ظهره المَشدود إلى الخلف بحِمله الصغير، وأن يُخرِج قدميه للشمس والهواء حتى لا تتقرحا قبل أن يكمل مسيرته الطفوليه نحو الإله. وفوق العشب، رأى الطفل سيّدة شقّت التجاعيد أخاديد في وجهها الصبوح، وأشعل الشَيبُ رأسها الصغير. كانت المرأة تحمل إرثاً من جمال، وبسمةً تتفتّق عن أسنانٍ بيضاء وقلبٍ حنون.

تبادل الغريبان البسمة والنظرة، وشعر الطفل بشيء من الألفة تجاه سيدة المكان، وأخذ يقترب منها مادّاً يده بالطعام والعصير. فمَنَحته المرأة بسمة أظهَرَت نواجذها العتيقة، وربّتت فوق ظهره بيد معروقة دافئة. ولأن الطفل أراد أن يحظى ببسمة أخرى من ثغرها الرقيق، مدّ يده بعلبة ثانية من العصير. وظل الهاربان من زحمة الشؤون الصغيرة يتبادلان الطعام والشراب والبسمات من دون

أن يقول أحدهما شيئاً. وحين مالت الشمس نحو الغروب، قرّر الفتى أن يعود إلى قفصه المعتاد، لكنه استدار بعد بضع خطوات، وعاد ليُعانِقَ العجوز التي شاطرته طعامه وشرابه وبهجته.

ولما رجع الفتى، سألته أمه عن سبب تأخّره، فقال: “كنتُ في معيّة الإله”. ولمّا عادت العجوز إلى منزلها مُنشَرِحة الصدر سليمة الفؤاد، سألها ولدها، “أينَ كنتِ يا أمّاه؟” أجابت: “كنت بصحبة الإله يا بني .. لم أعرف من قبل أنه صغير السن هكذا!”.

يُمكننا أن نرى الله في هذا العالم المشحون بالمعاناة والآلام والآثام في عيني طفل، ووجه عجوز. ويمكننا أن نلمسه ونحن نُربّت فوق ظهرٍ يتيم أو رأسٍ مريض. ويُمكننا أن نُقبّله حين نلثم وجوه أمهاتنا وأكفّ آبائنا. مساكين هم أولئك الذين حبسوا إلههم في الصوامع والبيع والصلوات والكنائس والمساجد! ومعتوهون مَن أرادوا أن يُدافعوا عن الإله بالقتل وهتك الأعراض وسفك الدماء. وما غاب الإله عن نوادينا إلّا لارتفاع أصواتنا واختلافنا على أنبيائنا. والذين لم يجدوا الله في جلسة هادئة فوق العشب الأخضر، أو نظرة راقية نحو السماء الصافية، أو رقدة غافية فوق صخرة في فلاة، لن يجدوا الله في الكتب السماوية ولا في المحاريب والمعابد.

لا يحتاج الربّ إلى سيوفنا الصدئة وخيولنا العرجاء لندافع عن وجوده في ساحات ملكه، ولا يحتاج إلى عقائرنا المتآكلة لتصل كلماته إلى قلوب غلف وآذان صم. فالطيبون لا يُنَفّرون العباد من رب العباد، ولا يُقنّطون أحداً من رحمته التي وسعت كل شيء. لكنهم يأخذون بكل ما يجدونه في طريقهم من أيد رأفة بالناس ورغبة في إخراجهم من ظلمة البيوت وظلام النفوس وظلم ذوي القربي إلى ساحة الأنس به، وجميل الرغبة فيه. فالذين لا يجدون الله في نفوسهم، لن يجدوه في دور العبادة أو في متون الكتب.

يوماً خرج بوذا كما خرج الغلام بحثاً عن إله، لكنه عاد بعد سنوات من البحث العبثي، فلما سأله أحدهم: “هل وجدت الإله يا بوذا؟” أجاب: “لم أجد الإله، لكنني علمت الكثير عن بؤس الإنسان”. ومنذ عودته، قرر بوذا أن يكون يداً تُربّت على كتف الأطفال، وتُقدّم الطعام للمحتاجين والمساكين والأرامل. قرّر بوذا أن يحمل هَمّ الإنسان، فعرف الإله وعرَّف الناس به.

فأين نحن معاشر المُتَحدّثين باسم الإله، والمُمسكين بصكوك غفرانه وأسواط لهيبه من عَظَمَةٍ تتّسِع لكل الخلائق، وتشمل كل الناس؟ مَن ذا الذي يتألى على الله، فيدخل أحدهم جنّة نعيم، ويزجّ بالآخر في سقر؟ ومَن يضمن أن يبقى المؤمن مؤمناً حتى حشرجة الموت، أو يبقى الضال بعيداً قبل خروج الروح؟ وما أفسد كنيسة العصور الوسطى وآباءها المبطلين، وصرف الناس عن ملكوت الرب ورحمته إلّا الذين قَنَّطوا الناس من رحمة ربّهم وسدّوا في وجوههم سُبُل الأوبة وطرق الخلاص. فما هكذا تورد الإبل أيها الدعاة، ولا هكذا تعرف الدواب طريق المرعى.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى