قُنبُلَةٌ مَوقوتَةٌ في فيينا؟

في الوقت الذي بدأ مؤتمر فيينا مناقشة الإتفاق النووي، يبدو أن هناك خلافًا بين الولايات المتحدة وإيران حول كيفية الوصول إلى إحياء هذا الاتفاق قد يثير منافسة متقلّبة قد تكون مُتفجّرة وخطيرة.

الرئيس جو بايدن: قوى كثيرة جمهورية وديموقراطية لن تُمرّر له أي اتفاق مع إيران

جورج بيركوفيتش*

ليست لكلِّ مشاكلِ الشؤون الدولية حلولٌ حيث تكون الأطراف المعنية على استعداد لاتباعها وتنفيذها في الوقت وبالطريقة اللازمتين للنجاح. كان للتحدّي النووي الإيراني حلّ، وهو خطة العمل الشاملة المشتركة، التي تم الاتفاق عليها في العام 2015. لم تكن مثالية، لكنها عملت على استقرار الأمور من خلال إبقاء إيران بعيدة من امتلاك أسلحة نووية. في أيار (مايو) 2018، أقدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الانسحاب منها تحت ضغط وتحريض بعض السياسيين الجمهوريين المُقربّين والمنظمات اليمينية. والآن تتجّه إيران وجيرانها، إلى جانب الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى، لمناقشة الأزمة النووية مع أمل ضئيل في التوصّل إلى نتيجةٍ مُستقرّة.

لمعرفة سبب استحالة حل الأزمة سياسيًا ، ينبغي الوضع في الاعتبار وجهات نظر ثلاث مجموعات من الخصوم.

وافقت إيران على خطة العمل الشاملة المشتركة بعد اثني عشر عامًا من المفاوضات المُتقطّعة التي أجرتها في أوقاتٍ مُختلفة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ ومع 3 دول من الاتحاد الأوروبي، فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة؛ ومع الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى ألمانيا. وفقًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجتمع المخابرات الأميركية، كانت إيران ملتزمة بشروط الصفقة. فقد حدّت من أنشطتها المُتعلّقة بالتخصيب، وعلقت المرافق المطلوبة، وحوّلت مفاعل الأبحاث، وأكثر من ذلك. في هذه الأثناء كانت بقية العالم تُزيل العقوبات التي تم تحديدها، على الرغم من أن الشركات ظلّت مُتردّدة في الاستثمار في إيران أو التجارة معها لأسبابٍ تتعلّق بالظروف السياسية والاقتصادية داخل البلاد، والخوف من العقوبات التي ستفرضها الولايات المتحدة في المستقبل.

بحلول الوقت الذي سحب ترامب بلاده من الصفقة في العام 2018، شعر القادة والمواطنون الإيرانيون أن الفوائد المرجوّة من خطة العمل الشاملة المشتركة لم تتحقّق. لقد كلّف فرض واشنطن لاحقًا للعديد من العقوبات الإضافية الاقتصاد الإيراني تريليون دولار، وفقًا لتصريح وزير الخارجية آنذاك محمد جواد ظريف في شباط (فبراير) 2021. وهكذا، عندما يُفكّر القادة الإيرانيون في إعادة الامتثال لخطة العمل الشاملة المشتركة أو أيّ قيود إضافية على برنامجهم النووي، فإنهم يطالبون بأن يتم تعويضهم عن الخسائر التي تكبدتها البلاد بسبب خرق أميركا للصفقة. كما أنهم يطالبون (لكنهم يعرفون أنهم لا يستطيعون تلقّيها) ضمانات بأن الولايات المتحدة لن تتراجع وتنسحب من الاتفاق مرة أخرى.

من وجهة نظر العدالة الأساسية وعلم النفس السياسي، من الصعب المُجادلة ضد الموقف الإيراني.

المجموعة الثانية من الخصوم في هذه الدراما تشمل الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى الحكومة الإسرائيلية وجيران آخرين لإيران. تقرّ هذه المجموعة بدرجاتٍ متفاوتة بأن الولايات المتحدة خرقت الاتفاقية، ثم تقول، بشكل أساسي: “لا يمكن فعل أي شيء عما حصل، دعنا نُركّز على المشكلة المطروحة بين أيدينا”.

بالنسبة إليها، تكمن المشكلة الآن في أن إيران قامت بتخصيب اليورانيوم إلى ما هو أبعد من حدود خطة العمل الشاملة المشتركة – في النسبة المئوية لليورانيوم عالي التخصيب، وفي عدد ونوعية أجهزة الطرد المركزي المُستَخدَمة، وفي المخزون المتراكم. كما أنها لم تتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بطرق عدة، على عكس ما تطلبه خطة العمل الشاملة المشتركة. بالإضافة إلى تراكم القدرات المادية والمواد، فقد اكتسب الموظفون الإيرانيون أيضًا خبرة لا تُقدَّر بثمن.

وبالتالي، يشكّ هؤلاء الخصوم في أن العودة “المجردة” إلى خطة العمل الشاملة المشتركة ستكون كافية لتحقيق الهدف الأساس المتمثل في إبقاء إيران بعيدة من امتلاك أسلحة نووية، إذا قررت ذلك. إنهم يريدون من إيران قبول قيود أكثر أو أطول أمداً مما كانت عليه في خطة العمل الشاملة المشتركة. من وجهة نظر القدرات المادية ومنع الانتشار النووي، من الصعب المجادلة ضد هذا الموقف.

تضم المجموعة الثالثة من الخصوم فصائل كبيرة في واشنطن، مُستَرشِدًة بمؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، وربما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إن لم يكن جيران إيران الآخرون. إنهم يريدون انهيار النظام الإيراني – أو على الأقل ضغوط اقتصادية وسياسية وسرية قصوى لا هوادة فيها على الحكومة والشخصيات الرئيسة في وكالاتها النووية والصاروخية واستعراض القوة. بالنسبة إليهم، فإن الاتفاق النووي الذي يُخفّف الضغط على إيران من دون تغييرات إيجابية أوسع في سلوكها الإقليمي هو أمرٌ غير مرغوب فيه. تؤثّر هذه المجموعة في جُزءٍ كبير من الكونغرس الأميركي بطرق من شأنها أن تفرض تكاليف سياسية كبيرة على الرئيس جو بايدن إذا وافق على ترتيبٍ نووي من النوع الذي قد تطلبه إيران.

إذا كانت وجهات النظر الموصوفة أعلاه قريبة من أن تكون دقيقة، فمن الصعب أن نرى كيف ستتمتع القيادة الإيرانية وإدارة بايدن بالشجاعة السياسية أو القدرة على تزويد بعضهما البعض بما يكفي مما تحتاجان إليه لحلّ الأزمة الحالية. إن إيران “بحاجة” إلى أكثر مما تلقته من خطة العمل الشاملة المشتركة الأصلية، لكن الإدارة الأميركية تشعر بأنها غير قادرة سياسيًا على تقديم المزيد. في الواقع، لا يمكنها أن تضمن لإيران أن الإدارة المقبلة في غضون ثلاث سنوات لن تكسر ترتيبًا وتُعيد فرض عقوبات واسعة النطاق. “تحتاج” الولايات المتحدة وغيرها إلى أكثر مما أعطته إيران في خطة العمل الشاملة المشتركة، لكن القادة الإيرانيين يشعرون أنهم سيبدون حمقى لأنه لا يوجد سبب للاعتقاد بأنهم سيحصلون على المزيد في المقابل.

ما يجعل هذا الوضع مأسويًا هو أن قادة إيران لم يقرروا ما إذا كانوا يريدون فعلاً صنع أسلحة نووية أم لا، كما أكد ويليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية، في 6 كانون الأول (ديسمبر). لكن إذا لم تستطع إيران الحصول على حصة كبيرة على الأقل من الإنصاف الاقتصادي الذي تشعر أنه عادل، ويمكن الحصول عليه من خلال الاستمرار في تعزيز قدراتها النووية، وسيستمر منطق الضغط الأقصى في توجيه الولايات المتحدة، ومن خلال عقوبات ثانوية أخرى، ستعمل إيران عندها على زيادة قدراتها في دوامة تصعيد يمكن أن تكون لها ثلاث نتائج أساسية.

إحداها أن القادة الإيرانيين سيقررون أخيرًا تصنيع أسلحة نووية. يمكنهم تحديد أنهم بحاجة إلى نفوذ الأسلحة النووية لإجبار الآخرين على تقليل الضغط عليهم. على الأرجح سيتم الكشف عن هذا الجهد من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة أو كليهما. لا يستطيع المرء معرفة ما سيحدث بعد ذلك، لكن من المعقول الاعتقاد بأن إيران ستتعرّض لهجومٍ على نطاقٍ وكثافةٍ لم تشهدهما منذ الحرب مع العراق خلال الثمانينات الفائتة. مثل هذه الحرب ستكون لها تأثيرات غير متوقّعة ليس فقط على إيران وإسرائيل والولايات المتحدة، ولكن أيضًا على جيران إيران العرب. كما أن امتلاك أسلحة نووية لن ينهي العقوبات الدولية.

قد تكون النتيجة الثانية بأن يُقرّر القادة الإيرانيون أنهم لا يكتسبون فوائد عسكرية أو اقتصادية أو سياسية مفيدة من المواد والقدرات النووية التي يكتسبونها، وبالتالي ينبغي عليهم القيام بما يُرجّح أن يخلق عملية مستدامة لتخفيف العقوبات وتحقيق استقرار العلاقات الخارجية. بعبارة أخرى، تقر إيران وتوافق على خطة العمل الشاملة المشتركة الإضافية، مقابل وعود بتخفيفٍ فوري للعقوبات الرئيسة. بالنظر إلى الديناميكيات التي تؤثر في مطالب الولايات المتحدة والنفسية الواضحة للمرشد الأعلى علي خامنئي والحكومة الجديدة، من الصعب التخيّل أن قادة إيران سيكونون مُستعدّين للمقامرة على هذا النهج.

النتيجة الثالثة – والتي تبدو على الأرجح لأنها تتطلب قدرًا أقل من الشجاعة والمخاطرة من واحد أو أكثر من الخصوم – هي أن يستمر الجميع في التصرّف كما فعلوا خلال السنوات القليلة الماضية (ومن 2002 إلى 2009). ستواصل الولايات المتحدة وشركاؤها تقديم أقل مما يعتقد القادة الإيرانيون أنه عادل بالنسبة إلى القيود المطلوبة منها. ستواصل إيران زيادة أنشطتها النووية وأنشطتها الأخرى بطرق تُنذر بالخطر. سيظل الوضع بشكلٍ عام غير مستقر للغاية، وغالبًا ما يكون على عتبة أزمة أو حرب.

من المُغري الاعتقاد، بالتأكيد، أن حكومة الولايات المتحدة أو القوى الأوروبية الكبرى لن تدع هذا الوضع يتحوّل إلى قنبلة موقوتة. سينتفض أحدهم  ويتّخذ إجراءاتٍ تؤدّي إلى حل. ومع ذلك، لا يبدو أن هذا التفاؤل مبرَّر.

لنأخذ كوريا الشمالية على سبيل المثال. لقد طوّرت تلك الدولة بشكل مطرد قدراتها النووية على مدى الثلاثين عامًا الماضية، حيث حاولت ست إدارات أميركية والعديد من الحكومات المتحالفة والأمم المتحدة التفاوض  أو فرض عقوبات عليها في الغالب ل”نزع السلاح النووي”. تستمر هذه الدولة في بناء واختبار صواريخ أكثر خطورة والحصول على المزيد من مواد التفجير، لكن الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية لم تُغيّر نهجها في “نزع السلاح النووي” تجاهها بأي طريقة من شأنها عكس الاتجاهات السلبية بشكلٍ كبير ودائم. زادت كوريا الشمالية من قدرتها بالنسبة إلى ردع الجهود العسكرية الهجومية لتدمير نظامها، لكنها لم تستطِع إزالة العقوبات الواسعة التي تُبقي شعبها فقيرًا ومتخلفًا. تستمر كوريا الجنوبية واليابان ودول أخرى في العيش في ظلّ هجومٍ نووي محتمل من حكومةٍ يصعب التكهّن بسلوكها.

لنتأمّل معاناة الفلسطينيين وما يُسمّى بعملية السلام. أو كشمير والهند وباكستان. هناك أمثلة أخرى، أيضًا، على التحديات الدولية الكبرى التي يمكن أن تندلع في شكل حرب، حتى في حربٍ نووية، والتي تكون الحكومات الأكثر انخراطًا فيها غير راغبة سياسيًا أو غير قادرة على حلّها. تبدو التسوية والتكيّف خطيرَين أو غير مقبولَين أكثر من استمرار المنافسة المُتقلّبة.

وهذا هو الحال مع إيران وبرنامجها النووي. إلى أن تندلع حربٌ، وربما حتى بعد ذلك، لا يُعاني الأميركيون بشكلٍ ملحوظ من العقوبات المفروضة على إيران، الإيرانيون وحدهم يُعانون. إذا كان البعض بريء، فهذا خطأ حكومته لمواصلة التمسّك ببرنامج نووي عديم الفائدة. يبدو أن الشخصيات السياسية تعتقد “سنكون بخير”. قد تصبح هذه الطريقة في رؤية الأشياء منتشرة بشكل متزايد في الولايات المتحدة حتى تظهرُ إيديولوجيةٌ وقيادةٌ جديدتان في الحزب الجمهوري من شأنهما أن تسمحا بالتسويات الوطنية والدولية اللازمة لنجاح الديبلوماسية من الحزبَين.

  • جورج بيركوفيتش نائب رئيس في كارنيغي، يعمل بشكل أساس في قضايا الإستراتيجية النووية وعدم الانتشار، الصراع إلسيبراني، والنهج الجديدة للإدارة الدولية للقطاعين العام والخاص للتكنولوجيات الاستراتيجية. يمكن متابعته عبر تويتر على: @PerkovichG
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى