الأزماتُ الماليّة والاقتصاديّة والمَعيشيّة تُنعِشُ الجهادية في لبنان

معلومات كثيرة انتشرت أخيرًا بأن تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) عاد إلى لبنان، وقد يأتي ذلك في أسوأ الأوقات بالنسبة إلى المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية.

الجيش اللبناني: هل ما زال في مقدوره مجابهة أي تحدّ متطرف كبير؟

مُهنَّد الحاج علي*

في الأسابيع الأخيرة، أعربت تقارير إعلامية لبنانية، تستند في معظمها إلى مصادر أمنية، عن قلقها بشأن احتمال قيام تنظيم “الدولة الإسلامية” بهجمات. في العام الفائت، غادر شبّانٌ، يُقدّر عددهم بـ 35-40، منازلهم في شمال لبنان للانضمام إلى صفوف التنظيم الجهادي في سوريا والعراق، حيث تلقوا تدريبات ويرسلون الأموال إلى عائلاتهم. وبحسب ما أفادت المعلومات، تم إيقاف مجموعة أخرى بعد أن نبّه الآباء قوات الأمن. كما ألقى الجيش اللبناني القبض على ناشطٍ في تنظيم “الدولة الإسلامية” استخدم الاسم المستعار “البغدادي” وكان على صلة بمؤامرات تفجير.

لا تزال الأعدادُ صغيرة بشكلٍ عام مُقارنةً بالمئات الذين انضموا إلى التنظيم والجماعات المسلحة الأخرى خلال الصراع السوري. لكن هناك نقصًا في الوضوح بشأن العدد الحقيقي والهدف الفعلي ل”الدولة الإسلامية”. وهل ستقتصر نشاطات هؤلاء الرجال على سوريا والعراق أم أن هناك خططًا لعملياتٍ في لبنان؟ في الشهر الماضي، تم القبض على شابٍ يبلغ من العمر 17 عامًا تم تجنيده عبر الإنترنت ووُجِّهَت إليه تهمة التخطيط لشنِّ هجومٍ في الشمال.

إن شدّة الأزمات المُتعدّدة في البلاد قد تجعل تعقّب الرجال أمرًا صعبًا. وبحسب ما ورد، غادر العديد من اللبنانيين وبعض اللاجئين الفلسطينيين منازلهم، والافتراض هو إما أنهم انضموا إلى “الدولة الإسلامية” أو قاموا برحلةٍ غادِرة بالقارب إلى تركيا أو أوروبا. يُقدَّر عدد اللبنانيين المسجونين في تركيا لدخولهم بشكل غير قانوني بالعشرات وهو آخذٌ في الازدياد.

يواجه لبنان أسوأ أزماته المالية والاقتصادية على الإطلاق. وقد تضرّرت رواتب وموازنات الجيش والقوى الأمنية بشدّة حيث فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها. وهذا يثير الشكوك حول ما إذا كانت هذه المؤسسات لديها الوسائل لمواجهةِ تحدٍّ أمني خطير. ومن علامات التغيير أن التهديد الأمني ​​يبدو الآن أكبر خارج مخيمات اللاجئين الفلسطينيين منه في الداخل، حيث إن الفصائل العاملة مع حركة “فتح” الفلسطينية تحصل على تمويلٍ أفضل من الجيش اللبناني وقوات الأمن التي تتطلّب مساعداتٍ إنسانية.

قبل الأزمة التي بدأت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، شهدت المخيمات الفلسطينية اشتباكاتٍ مُتزايدة وصعود الجماعات الإسلامية المتطرفة. لا تزال مجموعات عدّة منها نشطة، لكنها محصورة جغرافياً و”خاضعة للسيطرة”، حيث لا تزال “فتح” وتفرّعاتها مُهَيمنة. وبحسب اتفاق القاهرة لعام 1969 بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فإن مخيمات اللاجئين بقيت بعيدة من متناول الجيش اللبناني وقوّات الأمن التي تُنسّق مع لجنة الفصائل الفلسطينية بقيادة “فتح” لاحتواء الأنشطة الجهادية والإجرامية داخل هذه المناطق. وبينما ألغت الحكومة اللبنانية الاتفاق لاحقًا، استمر تطبيق الأسلوب المؤقت الذي وضعته في ما يتعلق بالوضع الأمني ​​في المخيمات، باستثناء استيلاء الجيش على مخيم نهر البارد في العام 2007.

إن مشاكل لبنان المتعدّدة الطبقات تُعقّد الحملة على مجنّدي “الدولة الإسلامية” الجدد. وظهر ذلك جليًّا في طريقة تعامل الأجهزة الأمنية مع عشرات الشبان الذين مُنِعوا من مغادرة البلاد للانضمام إلى التنظيم. وبحسب ما أفادت مصادر في الشمال، أعيدوا إلى عائلاتهم مع تحذير. أحد التفسيرات الذي قدمته قوات الأمن هو أن الشباب كانوا مدفوعين بدرجة أقل بالإيديولوجية وأكثر بالرواتب التي كانوا يتوقعون أن يتقاضوها. وكان تفسيرٌ آخرٌ عمليًا أكثر: قوات الأمن ليست لديها الوسائل لإدارة المجنّدين بمجرّد وضعهم في نظام السجون المُنهَك. وكدليلٍ على ذلك، حدث في العامين الماضيين هروبان كبيران من السجون في لبنان.

في العام 2019، كانت لدى الجيش وقوات الأمن موارد أكثر، وكان ردّ فعلها سيكون مُختلفًا. أما راهنًا، فتتزايد المخاوف من أن الجيش يفتقر إلى القدرة والمعنويات لمواجهة تحدِّ إسلامي مُتطرّفٍ آخر، على مستوى القتال ضد مسلحي “فتح الإسلام” في مخيم نهر البارد للاجئين أو عملية فجر الجرود ضد تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” في العام 2017. في الوقت نفسه، لا يبدو أن هناك تحدياتٍ من هذا النوع تلوح في الأفق حاليًا، حيث يسيطر الجيشان السوري واللبناني في الغالب على حدود لبنان الشرقية إلى جانب “حزب الله”.

ومع ذلك، لا يزال تهديد “الدولة الإسلامية” معقولاً ومُحتَمَلًا، لا سيما وأن الاتجاه الإقليمي يشير إلى عودة ظهور التنظيم بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. في 9 تشرين الثاني (نوفمبر)، استضافت مصر اجتماعًا استثنائيًا لمنتدى المخابرات العربي، الذي أسسته القاهرة هذا العام كهيئةٍ مُتعدّدة الأطراف لتبادل المعلومات الاستخباراتية. ناقش رؤساء استخبارات من 22 دولة عربية، بما فيها لبنان، استيلاء طالبان على أفغانستان واحتمال عودة التشدّد الإسلامي. إن عودة “الدولة الإسلامية” إلى الوجود حقيقة واقعة كما تُوحي الهجمات خلال الأسابيع الماضية. في شمال العراق، نفّذ تنظيم “الدولة الإسلامية” سلسلة من الهجمات في وقت سابق من هذا الشهر، وسيطر على بلدةٍ لمدة 24 ساعة، حتى استعادها المقاتلون الأكراد. في شرق سوريا، شنّ التنظيم أيضًا سلسلة من الهجمات الناجحة، استهدفت جنودًا وعمال نفط ومستشارًا عسكريًا إيرانيًا، من بين آخرين. إذًا التهديد حقيقي ومتزايد في سوريا والعراق حتى لو ظلّ محدودًا في لبنان.

إن عودة تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى لبنان سيكون مُناسبًا أيضًا للطبقة السياسية اللبنانية، من ثلاث نواحٍ. أوّلًا، أيُّ عنفٍ يُبرّر تأجيل الانتخابات البرلمانية في العام المقبل ويُقلّل الضغط الدولي لتنظيمها في موعدها. وهذا من شأنه أن يُساعدَ “حزب الله” وحلفاءه في الحفاظ على أغلبيتهم الحالية في البرلمان لفترة أطول من فترة الأربع سنوات. ثانيًا، تتوقّع عندها الطبقة السياسية مزيدًا من المساعدات الإقليمية والدولية لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، من دون الاضطرار إلى إدخال إصلاحات وتلبية شروط المانحين الدوليين. وثالثًا، إن إحياء “الدولة الإسلامية” وأيّ عنف ينجم عن ذلك من شأنه أن يساعد على إعادة اصطفاف السكّان خلف القيادات الطائفية الفاسدة في البلاد والسياسات الطائفية بشكلٍ عام. وهذا من شأنه أن يُقوّض أيّ دافعٍ للتغيير في البلاد.

قد يكون تهديد “الدولة الإسلامية” حقيقيًا ومُثيرًا للقلق. لكنه أيضًا مناسبة سياسيًا للقادة الطائفيين في لبنان. في بلد سعى فيه هؤلاء القادة إلى تحقيق مصالحهم وبقائهم في مناصبهم على جبل من المعاناة الإنسانية الشعبية العامة، يمكن أن تكون ظاهرة “الدولة الإسلامية” قريبًا أكثر من مُجرّد هجماتٍ ضد المدنيين.

  • مهند الحاج علي هو مدير الاتصالات وزميل في مركز مالكولم إتش كير كارنيغي للشرق الأوسط. يمكن متابعته عبر تويتر على: @MohanadHageAli

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى