“أزمةُ فرنسا”… سؤالُ الغَرب أيضًا

محمّد قوّاص*

إذا ما باتت نُخبٌ تتحدّثُ عن “أزمة فرنسا”، فإنَّ الجدلَ لن يقفَ عند حدود البلد، ذلكَ أنَّ فرنسا لطالما كانت فكرةً وفلسفةً ونمطَ عيشٍ تأثّرت بها القارة العجوز واخترقت تحوّلاتها التاريخية الكوكبَ أجمع. صحيحٌ أنَّ العالمَ تغيّرَ وأنَّ أُمَمًا تَصعَدُ وإيديولوجيات تتقادَم، إلّا أنَّ الوَجَعَ الفرنسي يُمثّلُ علّةً قد تتدحرجُ في زمن الفوضى صوبَ العالمِ عمومًا والغربِ خصوصًا.

نفخت الثورة الفرنسية (1789-1799) مسارًا مُمَرحَلًا تسرّبَ صوبَ رُقعةٍ كبيرةٍ توسّعت في العالم. وإذا ما تشكّلَ عالمٌ وُصِفَ بـ”الغربي” ما زال حتى يومنا هذا يتآلف وفق رزمةٍ من القِيَم، فإنَّ القواعدَ التاريخية لهذه المنظومة السياسية التي ابتكرت حلف شمال الأطلسي (الناتو) واجهتها العسكرية، قامت على أساسِ ترسانةِ قِيَمٍ بثّتها تلك الثورة في دساتيرِ الحُكمِ والحَوكَمة لدى دولٍ بقي نظامها ملكيًا وأخرى أحالته جمهوريًا.

تقومُ القِيَمُ الغربية على نهائيةِ الخيارِ الديموقراطي ومبدَإِ التناوبِ السلمي للسلطة واحترام الحريات كافة، بما يجعلها نقيضًا لنُظُمِ الديكتاتورية والتوتاليتارية والاستبداد. غيرَ أنَّ “أزمةَ فرنسا” تفضحُ عجزَ تلك القِيَم عن توفيرِ مبدَإِ العدالة والمساواة والاكتفاء بقيمةِ الحرية سبيلًا لتسويق ما يقيحُ من أمزجةٍ إيديولوجية جديدة أو مُستعادة، بما فيها تلك التي تفوحُ منها عنصريةٌ بغيضةٌ واستعلاءٌ عرقي مُقرِف يُفتَرَضُ، سواءَ في فرنسا أم في الولايات المتحدة أم في بريطانيا وغيرها، أن تكونَ قِيَمًا بالية وخارج الخدمة في هذا الزمن.

يُمثّلُ انفجارُ الشارع جرّاء تجاوزاتٍ يرتكبها رجال الشرطة نماذج خلل يجري تصديرها من الولايات المتحدة صوب بلدانٍ حليفة أخرى، ومنها فرنسا مثالًا. صحيحٌ أنَّ التجاوزَ فرديٌّ يرتكبهُ عنصرٌ من جهازٍ أمنيٍّ واسع، بَيدَ أنه دائمًا ينهلُ حوافزه من بيئةٍ مؤسّساتية مُحفِّزة وأحيانًا حاضنة تجدُ للإثمِ مُبرِّرًا وأسبابًا تخفيفية. غيرَ أنَّ حقيقةَ الحدث تكمنُ في الغُربةِ التي تعيشها الدولة ومؤسّساتها (حتى الحزبية والاجتماعية) عن واقعٍ باتَ شديدَ التعقّد والغموض.

تتعايشُ الديموقراطية الأميركية على مرِّ العقود التي تلت الحرب الأهلية (1861-1865) مع مسلّمة التمييز العرقي التي يُعانيها ذوو الأصول الأفريقية. ولطالما لم تبخل السينما الأميركية في تسليط الضوء على الظاهرة في جانبها التاريخي والراهن. غير أنَّ الأمرَ بقي وكأنه أمرٌ يستحقُّ السردَ لأنه من عاديات الولايات المتحدة التي وجب الاستسلام لها واعتبارها قدرًا نهائيًا. حتى أنَّ هوليوود نفسها وأكاديمية الأوسكار تعرّضتا للانتقاد بسببِ خلوِّ جوائزهما من وجوه السينما السود. وحين راحت الجوائز تصيب ولو عَرَضًا تلك الفئة من الممثلين، خرجَ مَن يشمتُ مُتشفِّيًا حين صفع الأسود ويل سميث زميله الأسود كريس روك أثناء حفلة توزيع جوائز الأوسكار في آذار (مارس) 2022.

حركة “حياة السود مُهمّة” انطلقت في أعقابِ مقتل الشاب الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض في مينيابوليس في الولايات المتحدة في 25 أيار (مايو) 2020. بعد 3 أعوام يقتل شرطي في فرنسا الفتى نائل المرزوقي (17 عامًا) في ضاحية نانتير في 27 حزيران (يونيو) 2023. وفي الحالتين ينفجّرُ غضب. وفي الحالتين يتدخّلُ القضاءُ ليكونَ حَكَمًا. وفي الحالتين يكشفُ المجتمع عن انقسامٍ بشأن قضية جريمة ومذنب وضحية يُفترَضُ أن لا تُسبب انقسامًا بما حملته من معطياتٍ وأدلّة.

وإذا ما اتّسَمَ المجتمعُ الأميركي بالعنف، سواء في تاريخِ تَشَكُّلِ البلد أم في شرعية اقتناء المواطنين للسلاح بصفته حقًا دستوريًا، فإنَّ الأمرَ لا ينسحبُ عادةً على المجتمع الفرنسي. غيرَ أنَّ البلدَ شهدَ خلال السنوات الأخيرة عددًا من الاحتجاجات، والتي وإن لا تخرج عن سياقٍ تقليدي تتيحه ثقافةُ البلد المطلبية والنقابية، غير أن اتّساعَ مساحةِ الفئات المُعترِضة واختراقها كل الطبقات الاجتماعية يكشفان عن أعراضِ علّةٍ بدأت ترقى إلى مستوى تاريخي في “أزمةِ فرنسا”.

تشكو فرنسا منذُ عقودٍ من تكلّسٍ في هيكلها السياسي والاجتماعي إذا ما جرت مُقارنةُ مسارها مع مسارات دول الجوار الأوروبي. تراجعَ أداءُ البلد الاقتصادي، انكمشَ حجم القطاع الصناعي، وارتبك مستوى الإنتاج التكنولوجي، وازداد مستوى العجز في ميزان المدفوعات. توقّفَ البلد عن تسجيل معدّلات نمو حققها في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وسبعينياته. باتت كتلة المهاجرين عبئًا بعدما فرغ البلد من استغلال قواها العاملة. فأعادت باريس اكتشاف علمانيتها وراحت على نحوٍ مُفرطٍ تُبالغُ في التسويقِ لمبدَإٍ لا يتماشى مع ما استجدَّ في هذا العالم. في هذا الوقت أيضًا أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 24 آب (أغسطس) 2022 “انتهاء زمن الوفرة”.

ليست معضلةُ فرنسا مع المهاجرين والإسلام والمسلمين وأهل الضواحي وحدهم. الأرجح أن فرنسا تتصارعُ مع نفسها وتبحثُ بعناءٍ عن هويةٍ بعدما فقدت استثناءها كحاملةٍ للواء “الثورة الفرنسية” وكميدانِ تلاقُحٍ للأفكار.

تصارع اليمين التقليدي (لا سيما بزعامة شارل ديغول) مع اليسار التقليدي (لا سيما بزعامة فرانسوا ميتران). تناوبا على السلطة، فعرفَ الناسُ رجالات وعقائد وبرامج تجيدُ التحدث لفرنسا والتخاطب مع العالم. شهدت البلاد انتفاضة أيار (مايو) 1968 (وكان لجامعة نانتير، المدينة التي قتل فيها الفتى نائل، نصيبٌ فيها). كان الحدث طلّابيًا انضمت إليه أسماء مثل جان بول سارتر ورفيقته سيمون دي بوفوار، وبول ريكور، وميشيل فوكو، وجيل دولوز، وألان باديو، وناتالي ساروت، ومارغريت دُورَاس، وبوتور، ولوفيفر، وفرانسوا مُورياك، وأندريه مالرُو وسواهم. فأين فرنسا اليوم من ذلك الزمن؟

تمرّدَ ديغول على الولايات المتحدة وأخرجَ بلاده من القيادة العسكرية لحلف الناتو. أسّست فرنسا وألمانيا ما بات يُعرَفُ بالاتحاد الأوروبي هذه الأيام. منعت باريس لندن في عهد ديغول من دخول النادي الأوروبي. واتّخذَت سياسةً عربيةً مُختلفةً عن السائد في العالم الغربي. كان فراتسوا ميتران أول رئيس يستقبل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حين درجَ أن تعتبره العواصم الغربية إرهابيًا يرأس منظمة إرهابية. وفي ما هو جريءٌ ومُتميّزٌ ومُستقلٌ ما يفقده ويفتقده فرنسيّو هذه الأيام.

تدور “أزمة فرنسا” على ضُعفِ فرنسا وليس على قوتها. تناقشُ نُخبُ البلد مسألةَ مَنعِ الحجاب في الفضاءات العامة، فيما امرأةٌ مُحجّبة تدقق في بريطانيا في جوازات سفر الواصلين. ويدور جدلٌ ساخطٌ بشأن اللجوء واللاجئين، فيما ألمانيا بزعامة أنغيلا ميركل تُظهرُ شجاعةً أخلاقية وتفتح أبواب البلاد أمام أكثر من مليون لاجئ في العامين 2015 و2016 في أوج أزمة اللاجئين، وبخاصة تلك الناجمة عن الحرب في سوريا.

خلال السنوات الأخيرة خرجت فرنسا تعبّر عن نفسها قبل أن تخرجَ الضواحي والمدن المهمّشة في الأسابيع الأخيرة. مثّلت احتجاجاتُ “السترات الصفر” (2018-2019) ظاهرةً فريدةً من نوعها في العالم وفريدةً من نوعها في فرنسا، من حيث إنها حراكٌ مُجتمعي خارجٌ عن سياق الأحزاب والتشكّلات السياسية والنقابية. وخلال الأشهر الأخيرة ثار الشارع ضدّ قانونِ إصلاحِ نظام التقاعد الذي فرض رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا. وحين تثور الضواحي بهذا المستوى من العنف والعبث، فذلك يعني، وفق مسار الاحتجاجات جميعها، أنَّ فرنسا فقدت تعقّلها، وأنَّ الدولة عاجزةٌ عن مخاطبة مواطنيها.

تُعبّرُ “أزمة فرنسا” عن أزمةِ الغربِ نفسه الذي يواجه “شرقًا” و”جنوبًا” أشدّ انسجامًا واتحادًا وتآلفًا من نماذج باتت ما بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها تُمثّلُ تعددّدًا فيها من الفرادة، بما قد ينفي عنها يومًا سمة المنظومة الواحدة. وفيما تنفضُ فرنسا هذه الأيام غبارَ الأيام الأخيرة الصعبة، يفقد البلد تميّزه داخل المجموعة الغربية ويبدو أكثر انصياعًا واتّساقًا مع قواعد ومعايير في العالم لطالما كانت فرنسا نقيضًا لها. وإذا ما شكّلت باريس يومًا بوصلة متمرّدة داخل المعسكر الواحد، فإنَّ الغربَ برمّته يتأملُ بقلقٍ حيرةَ تلك البوصلة وتعطّل اتجاهاتها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى