ماذا يعني إستقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية في المغرب؟

بقلم عبد اللطيف الشنتوف*

في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، إتّخذ المغرب قراراً بنقل سلطة رئاسة النيابة العامة من وزارة العدل التي تُعتبر جزءاً من السلطة التنفيذية إلى محكمة النقض المغربية المنتمية للسلطة القضائية. لا يمثل هذا الحدث مجرد إستبدال شخص بآخر أو مؤسسة بأخرى، بل يؤشّر إلى نهاية مرحلة إمساك السلطة التنفيذية بالنيابة العامة منذ إستقلال المغرب في العام 1956.
تنبع هذه الخطوة من الدعوات التي تُطلقها الحكومة والمجتمع الأهلي بصورة منتظمة من أجل إصلاح القضاء في المغرب، بما في ذلك إصلاح مؤسسة النيابة العامة بإعتبارها جزءاً منه. وقد ساهم “الربيع العربي” وإحتجاجات حركة 20 شباط (فبراير)، في تسارع وتيرة الدعوات المُطالِبة بإصلاح القضاء، وقد تجاوب الملك محمد السادس مع العديد من مطالب المتظاهرين في خطابه الشهير في التاسع من آذار (مارس) 2011. ثم جاء الإصلاح الدستوري الجديد في الأول من تموز (يوليو) 2011، والذي أعاد النظر في تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية لتشمل أعضاء من غير القضاة، وعمد إلى توسيع صلاحياته، وشدّد للمرة الأولى على مبادئ المحاكمة العادلة وحقوق المتقاضين.
لكن، بمجرد تنصيب الحكومة الأولى بعد “الربيع العربي” والمُنبثقة عن الإنتخابات البرلمانية التي شهدتها البلاد في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، طفا إلى السطح من جديد الخلاف حول موضوع إستقلال النيابة العامة، التي يتولاها الوكيل العام، بين مؤيّد لإستقلالها تماشياً مع الوضع الدستوري الجديد للسلطة القضائية في المغرب وبين معارضي إستقلالها الذين إعتبروا أنه يجب أن تظل تابعة للسلطة التنفيذية ضماناً لمحاسبتها من طرف البرلمان. وبعد نقاش إستمر حوالي خمس سنوات، أُقِرّ القانون التنظيمي رقم 106-13 في آذار (مارس) 2016 ممهِّداً الطريق أمام إستقلال النيابة العامة عن وزارة العدل، بعدما كان سبقَ للهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح العدالة في المغرب أن أصدرت توصية بذلك، بهدف الحصول على مساهمات من المجتمع المدني وسواه من الفاعلين في مجال العدالة. لكن تطبيق القانون التنظيمي أعلاه إستغرق عاماً كاملاً، لأن دخول هذا القانون حيّز النفاذ كان متوقفاً على تنصيب مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية من طرف الملك محمد السادس وأداء أعضائه اليمين القانونية، وقد تأخر هذا التنصيب إلى غاية السابع من نيسان (أبريل) 2017.
يذهب مؤيدو إستقلال النيابة العامة في المغرب، وهم القضاة وبعض الفاعليات الحقوقية والأكاديمية، إلى أن خطوة إستقلال النيابة العامة عن وزارة العدل كانت ضرورية نحو الإستقلال القضائي التام، وتالياً يمكن التفكير في آليات تضمن محاسبة ومراقبة النيابة العامة من قبل القوانين والمؤسسات وتطوير هذه المراقبة. كان الدستور المغربي الجديد للعام 2011 واضحاً في الفصل بين السلطات، وخُصِّص الباب السابع منه للسلطة القضائية التي تتكوّن من قضاة الحكم والنيابة العامة – الذين يتولون الإشراف على أعمال الشرطة والدرك المتصلة بالأبحاث القضائية – بحيث لم يقم تفرقة بينهما بخلاف العديد من الأنظمة القانونية في العالم التي لا تُعَدّ فيها النيابة العامة جزءاً من القضاء ومن شأن إستقلال النيابة العامة أن يجعلها في مأمن من التأثير السياسي الذي كان لدى وزارة العدل التي قد تخضع لتأثير الحزب السياسي الذي ينتمي إليه وزير العدل، وللغالبية البرلمانية التي تسانده.
علاوةً على ذلك، إعتبر مؤيّدو الإصلاح أن إشراف القضاء على النيابة العامة سيكون أكثر فعالية من الإشراف في ظل البرلمان. فعلى الرغم من أن البرلمان كان يتولى نظرياً الإشراف على النيابة العامة، إلا أنه لم يسبق له أن قام في وقت من الأوقات بمحاسبة النيابة العامة، ولم يسبق أن قدّم أيّ وزير للعدل إستقالته بسبب أخطاء إرتكبتها النيابة العامة. بموجب القانون الجديد، يستطيع المجلس الأعلى للسلطة القضائية – المؤلَّف من قضاة منتخَبين، وقضاة كبار من هيئات أخرى، فضلاً عن خمس شخصيات مستقلة يعيّنها الملك بشكل مباشر – أن يحاسب أعضاء النيابة العامة على أخطائهم المهنية التي يتضمنها القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة. هذا وقد أقرّ الدستور الجديد للمتقاضين بحقهم في الحصول على التعويض في حالة الأخطاء القضائية، كما أن قضاة الأحكام في المحاكم سيمارسون رقابة قضائية لاحقة على عمل النيابة العامة، هذا فضلاً عن التقارير السنوية التي ألزم القانون رئيس النيابة العامة بإعدادها ونشرها في الجريدة الرسمية، والتي سوف تُمكِّن المجتمع المدني والإعلام من فرض رقابتهما على النيابة العامة، وهي آلية مهمة تسهم في تدعيم الرقابة الشعبية على السياسات العامة في المغرب بشكل عام.
المتخوّفون من فكرة إستقلال النيابة العامة في المغرب هم في غالبيتهم من رجال السياسة، ولا سيما من الغالبية الحكومية السابقة في مجلس النواب المغربي (2011-2016)، إلى جانب بعض الهيئات المهنية التي للعديد من أعضائها إنتماءات سياسية أيضاً كجمعية هيئات المحامين في المغرب التي كانت تاريخياً توصي بضرورة إستقلال القضاء بشكل تام عن وزارة العدل، ولكن موقفها في العام 2013 جاء غير واضح بحيث طالبت بإبقاء النيابة العامة تحت وصاية وزارة العدل مرحلياً.
يعتبر معارضو إستقلال النيابة العامة أن الدستور المغربي للعام 2011، وإن جاء بمقتضيات عدة تهمّ إستقلال السلطة القضائية، إلّا أنه قصد قضاء الحكم وليس النيابة العامة. ينص الفصل 110 من الدستور على أنه “يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعيّن عليهم الإلتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها”، وبالتالي لم يوضّح إذا كانت هذه السلطة التي ستتبع لها النيابة العامة قضائية أم تنفيذية بل ترك أمر تحديدها لقوانين أخرى.
وفي نقطة أكثر أهمية، إعتبروا أن إستقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية سوف يجعل تطبيق السياسة الجنائية التي تقررها الحكومة مُتعذّراً لعدم وجود ما يُلزم الوكيل العام قانوناً بتطبيقها ومحاسبته على ذلك من طرف البرلمان، تماماً كما يفعل هذا بالحكومة حيث يأتي رئيس الحكومة وكافة الوزراء إلى البرلمان بشكل دوري للمساءلة والإجابة عن أسئلة البرلمانيين. ثم إنه لا يمكن أن يخضع الوكيل العام، بإعتباره شخصية قضائية معيَّنة مباشرةً من طرف الملك، للإستجواب من البرلمان كون ذلك يتنافى وإستقلال القضاء، بخلاف وزير العدل الذي يمكن محاسبته وإستفساره من طرف البرلمان في كل وقت وحين، بل ومحاسبته كذلك شعبياً من خلال الإنتخابات البرلمانية لكون وزير العدل يمثل كذلك حزباً سياسياً داخل الحومة المنبثقة من نتائج الإنتخابات.
بعدما أصبح إستقلال النيابة العامة في المغرب أمراً ناجزاً، ما يقف على المحك الآن هو ما إذا كانت النيابة العامة قادرة على إرساء توازن عبر حماية حقوق وحريات الإنسان والإنخراط في محاربة الجريمة، ومنها جرائم الفساد، من طريق الإجراءات العلنية والشفافة التي يجدر بها إتخاذها في إطار الإحترام التام للدستور والقانون بالإستناد إلى أفضل التجارب الدولية في مجال عمل النيابات العامة.

• عبداللطيف الشنتوف قاضٍ مغربي وأستاذ في كلية الحقوق في الرباط وسلا، ورئيس نادي قضاة المغرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى