عبد اللّهيان في لبنان: مُنافَسَةٌ إيرانيّة دوليّة لا عرب داخلها

محمّد قوّاص*

رُغمَ ما يُمثّله “حزب الله” من نفوذٍ صلبٍ ومُستقرٍّ لإيران في لبنان، إلّا أن لزيارة أي مسؤول إيراني إلى بيروت وقٌع يكشفُ مستوى المنافع الجادة التي يمكن لطهران أن تصرفها من رصيدها المُتراكم في هذا البلد. يُمسِكُ الحزب بقرارِ الحكم ومسارات السلم والحرب، ويتمتّع، بسبب تلك الهيمنة، بهجر “الموانع” العربية للبلد لصالح احتكار إيران لنفوذٍ تودُّه أن يكون كاملاً وحصرياً. ومع ذلك بقيت علاقة إيران رديفة لسلوك حزبها داعمة لخطابه الإيديولوجي البليد، ولم تنجح في نسجِ علاقاتٍ سويّة صلبة بين بيروت وطهران.

غير أن شيئا ما تغيَّر في مقاربة نظام الجمهورية الإسلامية لملفات المنطقة كما دور ووظيفة إيران الإقليمية والدولية. صحيح أن وجهة القرار الأولى يمسك بها مرشد الثورة علي خامنئي أياً كانت هوية رئيس الجمهورية وطبيعة الحكومة في طهران، إلّا أن ديناميات جديدة في إدارة السياسة الخارجية برزت بشكل نافر بعد تبوُّء إبراهيم رئيسي منصبه رئيساً للبلاد.

بعد مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك وادعائه المتواضع أن دول العالم كانت تتسابق للقائه هناك، جال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللّهيان على موسكو وبيروت ودمشق، حاملاً، بصعوبة، خطاباً جديداً من الصعب الإيمان بتحوّلاته. زار الرجل العواصم الثلاث مُستخدِماً لغة الدولة لا الثورة في ما هو رفع من مستوى الودّ والتعاون، وخفض من مستوى التهديد والوعيد. ولئن يتحرك في موسكو ودمشق داخل ميادين سهلة القواعد روتينية المواقف، تفضح زيارته إلى لبنان انتقالاً مُتكلّفاً -لا مصداقية له حتى الآن- إلى سلوك يسعى إلى نسج علاقات ندّية مع الدولة اللبنانية. يَعِدُ الرجل بعلاقاتٍ تتأسّس على الصفقات التجارية والمشاريع والاستثمارات التي تتحرّى دخول إيران من الأبواب الرسمية والقانونية، بديلاً من سلوك معابر التهريب، والاتّكال الوحيد على حزبها في لبنان.

وبغضّ النظر عن قدرة إيران على الإيفاء بعروضها وقدرة بيروت على فتح أبوابها لإغراءات طهران، فإن الوزير الإيراني يتحرك بأريحية داخل واحدة من “العواصم الأربع” التي سبق لمنابر إيرانية أن بشّرت بها ساقطة داخل النفوذ الإيراني في المنطقة. وفي ظل الغياب العربي الشامل عن الساحة اللبنانية، فإن طهران تستفيد من خلوّ الساحة من أي منافس إقليمي، وتزهو بأن المنافسة في لبنان باتت مع دول العالم الكبرى.

وفي حديث عبد اللهيان عن رغبة بلاده في المساهمة في إعادة إعمار مرفإِ بيروت وبناء معامل الكهرباء وتشييد مترو أنفاق وسكك قطارات وضخّ منتجات طبية وغذائية كما “تشريع” تصدير النفط ليدخل أسواق لبنان وفق المسالك الإدارية اللبنانية العادية، ما يقترح أن تدخّلَ إيران في منافسة مع الأطراف الدولية، لا سيما فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة (وحتى الصين)، التي اهتمت خلال السنوات الأخيرة في عرض استثماراتها وخدمات شركاتها للانخراط داخل مشاريع البنى التحتية التي بات تأهيلها عاجلاً لانتشال البلد من أزمته التاريخية.

شملت جولة الوزير الإيراني لقاءً بدون أي مفاجأة جمعه بالسيد حسن نصر الله، زعيم “حزب الله”، على ما هو تقليدي ومعتمد في زيارات المسؤولين الإيرانيين إلى لبنان. ولئن يُصنّف عبد اللهيان بصفته وزيراً لخارجية الحرس الثوري الذي يُعتبر “حزب الله” امتداداً لبنانياً له، إلّا أن ما صدر عن اللقاء جاء ُمكمّلاً للسياق “الدولاتي” الذي جاء الوزير الإيراني يعظ به هذه المرة في لقائه مع رؤساء لبنان ومسؤوليه. بدا ل”حزب الله” أن استراتيجيات طهران الجديدة التي حمل الوزير بذورها حيال لبنان، تمنح الحزب مُبرّرات إضافية تُسهّل له تسويق الهيمنة التي يمارسها على البلد مند انسحاب وصاية دمشق وانكفائها.

يُمثّل عبد اللهيان نمطاً مُستجِدّاً في السياسة الخارجية الإيرانية كان رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي قد تعهد بها. تقصّد رجل الديبلوماسية الإيرانية الأول أن يتناول مفاوضات فيينا بصفتها أمراً ثانوياً وليست أساسية في اهتمامات وأولويات طهران. تُعوّل إيران على نسج وترشيق علاقاتها مع دول الجوار، وتروح تسوق في كل مناسبة (وخصوصا في المناسبة اللبنانية) للحوار الجاري مع السعودية بصفته بطاقة مرور لدى دول المنطقة. أعلن الرجل في بيروت عن تقدّمٍ إيجابي قد تحقّق في حوار البلدين، وسمع من كافة المنابر الرسمية اللبنانية دعماً وتشجيعاً لهذا الحوار لما لمآلاته من تداعيات مباشرة على لبنان وأزماته.

تستشرف إيران تحوّلات راديكالية في المنطقة وتقرأ بها دوراً مُتقدِّما لها. انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان، وتنهي مهامها القتالية آخر هذا العام في العراق. وتلقي واشنطن كثيراً من الغموض حول مستقبل وجود قوّاتها في سوريا، وتُقدّم أعراضاً ملتبسة عن انكفاء استراتيجي عن ملفات الشرق الأوسط. تستبشر إيران خيراً يجرّ مزيداً من المياه إلى طواحينها الإقليمية.

تتراجع بقوة احتمالات الحروب التي تُهدّد كينونة النظام في طهران وديمومته. الأمر يخفف من حالة التوتر والتوجّس الدفاعي، ويرفع من مستويات ترف التوسّع وفق معايير الاستقرار حتى لو كان وهماً. على أن تفاؤل طهران المُصطَنع يهدف إلى إلقاء ظلال من العتمة على مُستَجدّ الهلع الذي يتقدم من أفغانستان وآذربيجان، والذي تُظهر امتدادته وتشعباته جدّية انقلاب في موازين القوى المُحيطة بإيران.

غادر عبد اللهيان بيروت ليوزّع شيئاً من البذور الطازجة في دمشق. أُعلن بعدها في واشنطن عن أن وفداً أميركياً (جديداً)، برئاسة نائبة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند، سيزور لبنان من ضمن جولة تقوم بها المسؤولة الأميركية على روسيا وبريطانيا أيضاً. في بيروت من اعتبر أن زيارة الوزير الإيراني انتهت كما انتهت قبلها زيارات مسؤولين إيرانيين، وأن كل الجعجعة حول المشاريع والاستثمارات لا تقدم طحناً ولا تعدو كونها هامشاً دعائياً مُملّاً. وفي بيروت من ما زال يرى في زيارة الوفد الأميركي المقبلة وقبلها وبعدها زيارات الفرنسيين والألمان والروس وممثلي البنك وصندوق النقد الدوليين متناً حقيقيا يتيح أو يحرِّم أي هوامش طارئة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: (@mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى