إِنتِخاباتُ قطر: جَدَلُ المُواطَنَة وسَطوَةُ القبيلة

تنظيمُ المُكوِّنات القبلية في دوائر شبه مُغلقة هو تكتيكٌ جديد في انتخابات دول الخليج. وستكون التجربة القطرية فضاءَ اختبارٍ لهذا الرهان.

الشيخ تميم بن حمد: بدأ الخطوة منذ أزمة الخليج في 2017

عادل مرزوق*

يتوجّه الناخبون القطريون في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أول مجلس للشورى بعد 17 عاماً من تعطيل الانتخابات النيابية. ينصّ دستور البلاد، الصادر في العام 2004، على انتخاب ثلثي أعضاء المجلس (30 عضواً)، فيما يُمنحُ أمير البلاد حق تعيين 15 عضواً.

تمتد صلاحيات مجلس الشورى إلى اعتماد أو رفض أو الموافقة على قوانين وموازنات الدولة، إضافة إلى ما يبحثهُ ويقترحهُ من قوانين، مروراً بمُساءلة الوزراء وحقّ الاستجواب، وصولاً إلى طرح الثقة (وفق المواد 109-110-111 من الدستور).  هذه الصلاحيات الواسعة تُقيّد بعضاً منها اشتراطاتُ موافقة الثلثين من مجموع أعضاء المجلس بما يشمل الأعضاء المُعَيَّنيين، كما أن لأمير البلاد صلاحيات دستورية تصل إلى حلّ المجلس واختصاص الأمير والسلطة التنفيذية بمهمة التشريع خلال فترة الحلّ.

المُشاركة السياسية: إختبار جهد

بعدَ تجربةٍ مُتواضعةٍ في ستينات القرن الفائت، كان صدور “النظام الأساسي المؤقّت المُعدَّل”في العام 1972 باكورة التأسيس لأول مجلس للشورى في قطر. سبق ذلك، توجيه نُخَبٍ سياسية واجتماعية عرائض طالبت بإصلاحات سياسية وإدارية، كانت أهمها عريضة العام 1963.

وعقب الأزمة الخليجية التي اندلعت في 5 حزيران (يونيو) 2017، بادر أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى التأكيد على بدء التحضير لإجراء انتخابات مجلس الشورى المُعطّلة. وقتئذ؛ فُسِّرَ قرارُ الأمير وتم تسويقه سياسياً، في الدوائر الرسمية والأهلية، بأنه جاء استجابة ومُتفاعلاً مع المشهد الوطني المُتماسك في مواجهة الأزمة.

ويقترن القول بأن انتخابات مجلس الشورى ستُؤسّس لتقدّمٍ وازن في مستويات المشاركة السياسية، ما يجعل قطر مؤهّلة لتحوّلٍ تدريجي نحو إمارة دستورية، بسقفِ توقّعاتٍ حَذِر يرتهن بما ستتمخّض عنه الفترة المقبلة وما سيرشَح من المشهد السياسي العام.

تطرأ في هذا السياق تساؤلاتٍ جوهرية بشأن طريقة تعامل مؤسسة الحكم مع مجلس الشورى المقبل، وعن مدى نجاعة التجربة وأهمية مخرجاتها. وعليه؛ يمكن القول أن قطر، على أكثر من صعيد، تمرّ باختبارِ جهدٍ شاق من شأنه أن يُحدّد ما إذا كان مجلس الشورى سيكون قادراً على تقديم تجربة برلمانية فريدة أو مؤهلة لتجاوز إخفاقات باقي تجارب دول مجلس التعاون الخليجي المُحبَطة.

وإذ تتموضَع قطر رابعة في مؤشر المشاركة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي الصادر عن البيت الخليجي للدراسات والنشر، يسرد المؤشر عديد التحديات الداخلية (طبيعة الحكم/ التوازنات القبلية/ تجذّر مفهوم الدولة الريعية/ المُمانعة المُجتمعية للاتجاهات الليبرالية وتعزيز الحريات الفردية). وبالتوازي مع تحديات الداخل؛ تضع تحديات خارجية تتعلّق بطبيعة صراعات الإقليم محددات وعوائق لا يمكن إغفال تأثيراتها في المشهد السياسي في قطر وفي بقية دول الخليج على حدٍّ سواء. يجدر القول هنا أن الهدوء الذي يطبع علاقة الدوحة بكلٍّ من الرياض وأبوظبي لا يعني، البتة، أن صفحات الأزمة الخليجية قد أُغلِقَت فعلاً.

القبيلة: من خيارِ المُواجهة إلى التنظيم

تُشيرُ مجموع القوانين المُنظِّمة للعملية الانتخابية في قطر إلى أن الدولة استبدلت خيار مواجهة المُكوّنات القبلية بخيار التنظيم والتعامل مع القبائل وقوّة مُحرّكاتها المُجتمعية كأمرٍ واقع. يظهر ذلك جليّاً في اعتماد أصول وأماكن تواجد العائلات والقبائل في تحديد الدوائر الانتخابية للناخبين، بل وفي بعض التسميات الرسمية للدوائر التي اعتمد تسميات عائلية وقبلية.

ومن خلال مراجعة قوائم المُرَشَّحين، نجد أن تصميم الدوائر يحسم بعضاً منها لقبائل مُحدَّدة (مثال: الدائرة (22) البوكوارة – الدائرة (29) الهواجر – الدائرة (16) آل مره)، فيما تتنافس القبائل الصغيرة والمتوسطة على دوائر أخرى (مثال: الدائرة (15) البو عينيين والخاطر). ولئن كان مُتعذّراً حصر القبائل وباقي المُكوّنات المُجتمعية (الحضر السنة، الهولة، الشيعة العرب والعجم) وتقسيمها على 30 دائرة (مجموع الدوائر الانتخابية)، إلّا أن الدولة اختارت هذا التشكيل مُراهِنَةً على أن الحق الدستوري للأمير في تعيين 15 عضواً، وهي – على الأغلب – المقاعد التي ستمنح، استدراكاً وترضية، للقبائل والمكونات التي قد لا يساعدها هذا التقسيم للدوائر على الوصول إلى مقاعد المجلس عبر بوابة الانتخاب.

يُكرّس هذا التقسيم الانتماءات القبلية على حساب المُواطَنة، وهو نقيضُ الخطاب الرسمي الذي يدعو الناخبين إلى تغليب الكفاءة على الاعتبارات القبلية، ويعيب هذا التقسيم أيضاً، ما يؤسّسه من خللٍ وتفاوت في توزيع الأصوات بين الدوائر تبعاً لتعداد الناخبين في كل قبيلة، كما أن عديد القطريين سينتخبون في مدن ومناطق لا يقطنونها بالأساس. قبالة ذلك، تجد الدولة أن هذا التقسيم يُجنّبها مواجهة اصطفافات القبائل ضد بعضها البعض والتداعيات الاجتماعية (نموذج الكويت)، وهو ما سُيقلل، بحسب الدولة، من احتمالات نشوء أيّ صراعات قبلية كانت الدولة عايشت مفاعيلها في الانتخابات البلدية.

تجدر الاشارة إلى أن تنظيم المُكوّنات القبلية في دوائر شبه مُغلقة هو تكتيكٌ جديد في انتخابات دول الخليج. وستكون التجربة القطرية فضاء اختبار لسلبيات وإيجابيات هذا الرهان ومدى قدرته على خلقِ تمثيلٍ عادلٍ لمُختلف المكوّنات الاجتماعية.

أول الطريق: من هو القطري؟

يُقدَّر تعداد القطريين بنحو 260 ألف مواطن ومواطنة (رقم تقديري يعادل 11% من مجموع السكان البالغ 2.5 مليوني نسمة). وفيما لا تقدم الجهات الرسمية تعداداً قاطعاً للقطريين المؤهّلين للترشّح والتصويت، تنصّ المادة رقم (80) من الدستور على شرط أن يكون المُرَشَّح لعضوية مجلس الشورى قطرياً بصفة (أصلية)، وهو يماثل التوجه المعتمد في كلٍّ من الكويت والإمارات وعُمان.

وفيما تمنع المادة (16) من قانون (38) لسنة 2005 بشأن الجنسية القطرية القطريين (بالتجنيس) من حق الترشح والتصويت. استثنى قانون رقم 6 (تموز/ يوليو 2021) حول تنظيم الانتخابات، القطري غير الأصلي (إذا كان جدّه قطرياً ووُلِدَ في قطر) وأقرّ له حق التصويت فقط. يُشار إلى أن قطر تعتمد صفة “القطري الأصلي” لمن استوطن البلاد قبل العام 1930 وحافظ على إقامته وجنسيته القطرية حتى تاريخ العمل بقانون الجنسية رقم (2) لسنة 1961.

رافق صدور القوانين المُنَظِّمة للعملية الانتخابية نقاشٌ مُجتمعي وجدلٌ واسع وصولاً إلى تجمّعات إحتجاجية لقبيلة “آل مره” طالبت بمراجعة هذه القوانين التي اعتبرتها تمييزاً عنصرياً وطعناً في مواطنتهم وأنها ذات خلفية سياسية (الانقلاب الفاشل 1996). سلّطت تجمّعات قبيلة (آل مره)، كونها الحدث الأبرز قبل توجّه الناخبين لاختيار مرشحيهم من بين 294 مترشحاً، الضوء على ملف المواطنة في قطر التي تعتمد – كما هو الحال في الكويت والإمارات – سياسات ترتكز على التفريق بين حَمَلَةِ الجنسية الوطنية، بين مواطنين أصليين يتمتعون بكل الحقوق ومواطنين (مُجنَّسين) يخضعون لقوانين مواطنة هشّة ومنقوصة. تُبرّر هذه الدول سياساتها باعتبارها دولاً ذات تعداد محدود وأن مساواة المُتجنّسين بالمواطنين الأصليين ستحوّلهم تدريجاً إلى أقلية وهو ما يُمثّل تهديداً وجودياً لطبيعة نظام الحكم والهوية الوطنية. قبالة ذلك، تنتقد منظمات حقوقية دولية هذا التوجّه وتعتبرها سياسات تمييزية خصوصاً أن بعض الاشتراطات تمتد لأبناء المُجنَّسين وأحفادهم من دون حد.

ذات المشهد يمكن ملاحظته في الكويت حيث تحصر المادة (82) من الدستور حقّ الترشّح لمجلس الأمة لمَن يحمل الجنسية “بصفة أصلية”، فيما يُحدّد قانون الجنسية الكويتيين الأصليين بأنهم “المتوطّنون في الكويت قبل سنة 1920″، كما يُمنَع أصحاب الجنسية المُكتَسبة من حق التصويت إلّا بعد انقضاء فترات مُطوَّلة. وكذلك هو الحال في دولة الإمارات التي تُحظّر على الإماراتي بالتجنيس الترشّح أو التصويت في الانتخابات (قانون رقم (17) لسنة 1972 بشأن الجنسية وجوازات السفر).​

وفي الوقت الذي استطاعت السلطات القطرية، مُستعينةً بالتواصل مع رموز القبيلة وقياداتها، امتصاص احتجاجات قبيلة (آل مره)، كما ويلاحظ ظهور أسماء مترشحين للقبيلة في الدائرة (16)، تُمثّل هذه القضية تحدياً جدياً ورئيساً أمام مجلس الشورى المُقبل وما إذا كان في استطاعته تعديل قانون الجنسية لعام 2005 الذي يزداد الجدل المجتمعي حول مدى دستوريته وتطابق أحكامه مع ما يقرّه الدستور من موادٍ تنصّ على ضمان أن القطريين يخضعون لمواطنة متساوية الحقوق والواجبات.

مجلس مُحافظين؛ بلا نساء

في مجتمع مُحافظ، دينياً وقبلياً، لا يبدو مُرجّحاً نجاح أيّ من المترشحات القطريات (29 مترشحة) في الوصول إلى المجلس عبر بواية الانتخاب. كذلك هو الحال بالنسبة إلى المترشحين من الليبراليين الذين سيكون تقديمهم برامج انتخابية لا تُساير توجّهات الناخبين المُحافظة تحدياً كبيراً في حدّ ذاته.

من المتوقع أن يكون للقبائل الكبيرة الكلمة النهائية في تقديم مُمثليها إلى مجلس الشورى، وهم – غالباً – شخصيات مُتّسقة ومُتجانسة مع الدولة وسياساتها. المُكوّنات المُجتمعية التي ستفشل في الوصول عبر الانتخاب سيكون لها أن تستفيد من المقاعد التي سيتولى الأمير تعيين شاغليها. وعليه، لا يتوقع أن تفضي النتائج إلى تشكيل مجلس خارج أو متمرّد عن سياسات الدولة ورغباتها. وهو ما يحيل إلى أن حلحلة ملف المواطنة وقانون الجنسية – أيًا تكن – لن تخرج عن رغبة الدولة وتفضيلاتها.

في المحصلة، تسعى قطر لتكون انتخابات مجلس الشورى إضافة جديدة لصورتها العالمية، وهي في ذات الوقت رافعة ودعاية وازنة تُواكب استضافة البلاد لنهائيات كأس العام المُقرّرة في آواخر العام 2022. رُغمَ ذلك، تُثير مجموع الموانع الذاتية في الدولة والمجتمع، الشكوك حول ما إذا كانت قطر ستُقدّم تجربة رائدة، تضمن إلى جانب دولة الرفاه والتنمية حق المواطنين في المشاركة السياسية وصنع القرار. وهي على أي حال المعادلة “الصعبة” التي لم تستطع أيٌّ من دول مجلس التعاون الخليجي المرور منها حتى الآن.

  • عادل مرزوق هو رئيس تحرير “البيت الخليجي للدراسات والنشر” في المملكة المتحدة، يمكن متابعته عبر تويتر على: @ADELMARZOOQ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى