“لبنان سيكون الأخير”
كانت الحكمة التقليدية قبل عقد من الزمان هي أن لبنان لا يمكن أن يُوقّع اتفاق سلام مع إسرائيل إلى أن تفعل سوريا ذلك أولاً. هل هذا لا يزال صحيحاً؟
فريدريك س. هوف*
لم تشهد فترة الأحد عشر يوماً من العنف الفلسطيني – الإسرائيلي في أيار (مايو) 2021 أي مساهمة قيّمة من لبنان. حفنةٌ من الصواريخ أُطلقت من جنوب لبنان تم اعتراضها إما من قبل نظام القبة الحديدية الإسرائيلي أو سقطت من دون ضرر في البحر الأبيض المتوسط وفي حقولٍ إسرائيلية غير مأهولة. وبالمثل، كانت الأعمال الانتقامية للمدفعية الإسرائيلية غير ضارّة. من الواضح أن “حزب الله” لم يكن ميالاً إلى تعريض نفسه أو لبنان للخطر من أجل حركة “حماس”. لقد ذكّرني تقاعسه بمحادثة أجريتها مع الرئيس السوري بشار الأسد قبل عقد من الزمن.
في صباح يوم 28 شباط (فبراير) 2011، أكّد لي الأسد، في محادثة فردية في قصر تشرين فوق دمشق، أنه مستعدٌ لقطع العلاقات العسكرية مع إيران و”حزب الله” مقابل السلام مع إسرائيل، إتفاقُ سلامٍ من شأنه، مع مرور الوقت، أن يُعيد السيطرة السورية على جميع الأراضي التي خسرتها لإسرائيل في حرب حزيران (يونيو) 1967. أكد لي الأسد أن إيران و”حزب الله” سيقبلان من دون أي اعتراض بسلامٍ سوري – إسرائيلي. وذهب إلى حد القول إن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وهي شريط ضيّق من الأراضي المرتفعة في مرتفعات الجولان المحتلة، هما في الواقع سوريتان، وأن الإدّعاء بملكية هذه الأراضي من قبل “حزب الله” والحكومة اللبنانية كان في الواقع خاطئاً وغير صحيح.
كما أكد لي الأسد أن السلام بين لبنان وإسرائيل سيتبع سريعاً في أعقاب معاهدة سلام سورية – إسرائيلية مُصدّق عليها بالكامل. وقال إنه نصح بالفعل رئيس لبنان بإعدادِ فريق التفاوض الخاص به. وأكد لي أن الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، لبناني عربي على أتم الاستعداد، في سياق السلام مع إسرائيل، لتحويل حركته المُدَجَّجة بالسلاح إلى حزبٍ سياسي حقيقي وسلمي. كان واضحاً لي أن الأسد يريد صحبةً للذهاب إلى السلام مع إسرائيل وأن لبنان، شئنا أم أبينا، سيأتي في هذه الرحلة.
كانت مهمتي الرئيسة في وزارة الخارجية الأميركية لمدة عامين تقريباً، بدءاً من نيسان (إبريل) 2009، التوسّط في السلام بين سوريا وإسرائيل والتخفيف من حدّة المواجهات المُسلّحة الدورية بين إسرائيل ولبنان. رسمياً، كُلِّفتُ أيضاً بالتوسّط في السلام اللبناني – الإسرائيلي، الذي كان، بعد كل شيء، مُكوِّناً أساسياً لهدفنا: سلام عربي – إسرائيلي شامل. في الواقع، لقد توسّطت في اتفاقٍ إسرائيلي – لبناني من حيث المبدأ على خط الفصل البحري في البحر الأبيض المتوسط، وهو اتفاقٌ كان من شأنه أن يُحدّد المناطق الاقتصادية الخالصة لكلٍّ منهما. لكن الفكرة القائلة بأن “لبنان سيكون الأخير” لتحقيق السلام مع إسرائيل – وهو الأمر الذي عبّر عنه مراراً وتكراراً الرئيس اللبناني آنذاك ميشال سليمان – كانت حكمة مقبولة تماماً قبل عقد من الزمن. ولكن هل إن الأمر لا يزال كذلك؟
عبارة “لبنان سيكون الأخير” لها تاريخٌ طويل مُتجذّر في الضعف الهيكلي لما أطلق عليه مايكل هدسون (الذي رحل أخيراً) منذ زمن بعيد “الجمهورية غير المستقرة”. حتى خط ترسيم الهدنة السلمي وغير المُسَيَّج أو غير المُسَوَّر إلى حد كبير والذي لا يحمل أي علامات في بعض الأحيان بين العامين 1949 و1967 لم يؤدّ إلى انقسام لبنان المُزمِن، محاولاً البقاء طافياً وعائماً في البحار المضطربة للقومية العربية، سعياً إلى تحقيق سلام رسمي مع جارته في الجنوب. بعد العام 1967، اتسعت هذه الانقسامات الداخلية، والتي تفاقمت بسبب الوجود العسكري الفلسطيني المتزايد. في حزيران (يونيو) 1982، أوقفت إسرائيل الحرب الأهلية اللبنانية لفترة وجيزة، حيث اجتاحت البلاد على أمل تدمير الوجود الفلسطيني المسلح، وإخراج الوحدات العسكرية السورية التي تدخّلت في العام 1976، وعقد سلام مع دولةٍ تهيمن عليها ميليشيا “القوات اللبنانية”، المارونية بغالبيتها، (التي شجّعت الغزو).
في البداية بدت حملة إسرائيل وكأنها تسير وفق الخطة الطموحة. تم نقل المسلحين الفلسطينيين إلى تونس. تعرضت الوحدات السورية في سهل البقاع والقوات الجوية السورية للضرب والتدمير. إنتُخب قائد “القوات اللبنانية” – بشير الجميل – رئيساً جديداً للبنان.
لكن الرئيس المُنتَخَب اغتيل في تفجير وجّهته سوريا، وخلفه شقيقه أمين.
استُؤنِفَت الحرب الأهلية، مع قيام سوريا بتنسيق المقاومة المُناهضة للحكومة في الخلفية. ضغطت إسرائيل والولايات المتحدة على الرئيس الجديد أمين الجميل للتوقيع، في أيار (مايو) 1983، على اتفاقٍ مع إسرائيل يُنهي حالة الحرب بين الطرفين. لكن “اتفاقية 17 أيار” هذه ستصبح بؤرة عداء بالنسبة إلى اللبنانيين المُسلّحين المُناهضين للحكومة المدعومين من سوريا وإيران. في آذار (مارس) 1984، رفض مجلس النواب اللبناني الاتفاق. لقد تعلّم اللبنانيون الذين أيّدوا اتفاق 17 أيار درساً مهمّاً: السلام بين لبنان وإسرائيل لا يمكن أن يسبق السلام السوري – الإسرائيلي. كان “لبنان سيكون الأخير” آخر تعبير عن هذا الواقع.
بعد عشر سنين من محادثتي مع الأسد – التي بدت لفترةٍ وجيزة أنها حفّزت التقدّم نحو محادثات مباشرة بين سوريا وإسرائيل وإبرام معاهدة سلام نهائية – دُمِّرَت سوريا. لقد قام الأسد بالتنازل عن مرتفعات الجولان وكل شيء وصولاً إلى “خط 4 حزيران/ يونيو 1967” لإسرائيل. آفاقُ محادثات السلام بين سوريا وإسرائيل معدومة: لا يوجد مُحاوِرٌ شرعي سياسياً من الجانب السوري. ربما سيأتي اليوم الذي سينتج فيه الانتقال السياسي في سوريا – بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2254 – حكومة سورية قادرة على التحدث باسم الشعب السوري بشأن مسائل الحرب والسلام. عندما يحل هذا اليوم السعيد، ربما تكون هناك حكومة في إسرائيل مستعدة للعودة إلى “الأرض مقابل السلام” في السياق السوري. لكن ذلك اليوم يبدو، في أحسن الأحوال، بعيد المنال. هل سيبقى لبنان إلى الأبد رهينة ما فعلته زمرة فاسدة عنيفة بسوريا؟
لا مصلحة لإيران ووكيلها اللبناني القوي “حزب الله” (بعبارة ملطفة) في السلام بين لبنان وإسرائيل. في الواقع، في ظل الظروف الحالية هما بالتأكيد سيُقدمان على قتل أي لبناني يقترح مثل هذا الشيء. أكثر ما يمكن توقعه من هؤلاء الفاعِلَين الآن هو السماح للحكومة اللبنانية بالانخراط في محادثات بحرية غير مباشرة مع إسرائيل. هل أي شيء ممكن أكثر من بعد؟
على الغالب لا. ولكن ماذا لو أشارت إسرائيل إلى لبنان بأن السلام الكامل، الذي يُلبّي احتياجات الطرفين، سيشمل نقل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا إلى لبنان؟ على الرغم من مطالبة الأسد بالأرض في العام 2011، يمكن لكلٍّ من لبنان وإسرائيل الاستشهاد باعتراف سوريا بادّعاء لبنان، الذي أدلى به وزير الخارجية السوري أمام الأمين العام للأمم المتحدة خلال محادثة هاتفية في العام 2000. هذا الاعتراف، وهو دعامة أساسية لوضع “المقاومة” الزائف المستمر ل”حزب الله”، يقرّ ضمنياً بحق إسرائيل في تسليم الأراضي إلى لبنان طواعية من دون الرجوع إلى سوريا، حتى في سياق الترتيبات اللبنانية – الإسرائيلية المقبولة بشكل متبادل.
سيكون هناك بالتأكيد العديد من القضايا الصعبة على إسرائيل ولبنان حلّها قبل التوقيع على معاهدة سلام. كيف يمكن تحقيق العدالة والفرص والكرامة للاجئين الفلسطينيين المُقيمين حالياً في لبنان؟ كيف يتم حل القضايا الحدودية المُعلَّقة (“الخط الأزرق”)، بما في ذلك بلدة الغجر المُقسَّمة تقنياً؟ كيف يُمكن ضمان أن لبنان – بالكاد دولة بالمعنى العملي – سوف يُنفّذ بفعالية تعهداته الأمنية في ما يتعلق بإسرائيل؟ كيف يتم حل القضايا القديمة المُتعلّقة بالمياه، خصوصاً في ما يخص نهر الحاصباني الذي ينبع في لبنان ويتدفق إلى إسرائيل؟ لا يتطلب حلّ أيّ من هذه الأمور عبقرية ديبلوماسية. لكن القائمة طويلة، مثلها مثل تاريخ العداء وانعدام الثقة بعد العام 1967.
ومع ذلك، إذا كان الأسد في شباط (فبراير) 2011 على حق – إذا كان نصر الله لاعباً سياسياً لبنانياً بحتاً – فهل سيكون زعيم “حزب الله” على استعداد لدعم مسارٍ ديبلوماسي لتحقيق النتيجة الإقليمية التي أعلن عنها منذ أكثر من عقدين، وهو ما نفاه الأسد؟ هل سيكون حراً للقول “نعم” كإجابة؟
إذا كان “نصر الله” وكادره القيادي، كما ادّعى كثيرون آخرون، مجرد وكلاء لإيران، فهل ستوجّهه طهران (إذا احتاج إلى تعليمات) لإلزام الحكومة اللبنانية بردٍ احتقاري وعدائي تجاه أي عرضٍ إسرائيلي؟ هل الحفاظ على “المقاومة” والوضع المسلح المصاحب لها أهم من سيطرة لبنان على الأراضي التي يُطالب بها؟
هل يمكن للولايات المتحدة، الحريصة على إيجاد طرق لمساعدة اللبنانيين على الخروج من الحفرة السيئة التي حفرتها لهم طبقتهم السياسية، أن تتناول الأمر مع إسرائيل ثم إيران (في سياق تخفيف العقوبات)؟ يبدو أن إيران، بعد كل شيء (بغض النظر عن وجهة نظر الأسد في العام 2011)، لها تأثير حاسم على “حزب الله”. وسوريا في عهد الأسد هي إلى حد كبير الشريك الأصغر في علاقاتها مع كل من إيران و”حزب الله”. وسوف يجبرانها على أيِّ شيء يقررانه.
إن احتمالات قيام إسرائيل (أو أي دولة أخرى) بأخذ بعض المبادرات الديبلوماسية الإبداعية أو إقدام إيران على السماح لأي شيء لائق برؤية ضوء النهار تبدو ضئيلة للغاية، إن كانت موجودة على الإطلاق. لكن واشنطن لا تخلو من التأثير في كل هذا، إلا إذا اختارت أن تكون غير فاعلة وغير مؤثّرة.
يُمكن لإدارة بايدن، ويجب عليها أن تحاول، تسهيل اتفاق مُتجدّد بين لبنان وإسرائيل بشأن المسائل البحرية، وهو اتفاق مؤقت يمكن بموجبه تعديل الشروط في حالة التطبيع الكامل بين الطرفين. يُمكنها أن تسعى بنشاط للتوسط في الخلافات اللبنانية – الإسرائيلية الأخرى (غالباً على طول “الخط الأزرق”) التي تُنتج العنف في بعض الأحيان. وبالنظر إلى الوضع السيىء الذي يجد فيه ملايين اللبنانيين أنفسهم، يمكنها أن تفكر بشكل أكبر وأوسع.
العقبات رهيبة، لكن لا يوجد قانون طبيعي يفرض على لبنان أن يظل في آخر الصفوف لتحقيق سلام مُشرّف وكامل مع جارته في الجنوب، سلام يضمن مصالح “الجمهورية غير المستقرة” ومواطنيها. قد يعتمد عليها إنشاء دولة لبنانية فاعلة وفعّالة في نهاية المطاف.
- السفير فريدريك هوف هو ديبلوماسي أميركي مقيم في كلية “بارد” (Bard College). شغل منصب سفير ومستشار خاص للمرحلة الانتقالية في سوريا في عهد الرئيس باراك أوباما.
- يصدر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع نشره بالإنكليزية في “نيو لاينز ماغازين”. يمكن متابعته عبر تويتر على: @FredericHof
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.