الاستراتيجية خلف الكليات الحربية الجديدة في الخليج

بقلم جان لو سمعان*

خلال العقد الأخير، أبصرت كليات حربية جديدة النور في بلدان الخليج العربي. في أيار (مايو) 2013، فتحت قطر كلية القيادة والأركان المشتركة، وبعد بضعة أشهر، أعلنت كل من الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان عن إنشاء كلية الدفاع الوطني. وحذت البحرين حذوهما في العام 2014 مع إطلاق الكلية الملكية للقيادة والأركان والدفاع الوطني. وفي العام 2017، دشّنت الكويت مركزاً تدريبياً إقليمياً تابعاً لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) يجمع الآن ضباطاً من المنطقة مع نظرائهم من “الناتو”. وفي غضون ذلك، أطلقت السعودية مشروعاً إصلاحياً طموحاً لإنشاء جامعة دفاعية، بوحيٍ من جامعة الدفاع الوطني الأميركية، على أن تتألف هي الأخرى من كليات عسكرية عدّة.
الكليات الحربية من هذا القبيل أمرٌ جديد في بلدان مجلس التعاون الخليجي. يختلف التعليم العسكري في هذه الكليات عن التدريب التكتيكي الذي يُلقَّن في الأكاديميات العسكرية لبلدان مجلس التعاون الخليجي بغية تزويد الجنود بمهارات القتال الأساسية. في المقابل، تهدف الكليات الحربية الجديدة إلى تحويل الضباط إلى مخططين استراتيجيين قادرين على ربط مهماتهم العملانية ببيئتهم الجيوسياسية والأهداف العليا للسلطات السياسية.
تعكس هذه الاندفاعة نحو التعليم العسكري في دول مجلس التعاون الخليجي خطوةً جديدة في نضوج القوات المسلحة الخليجية والسبل التي ينوي القادة السياسيون أن يستخدموا بها هذه القوات لدعم استراتيجياتهم في مجال الأمن القومي. وتُسلّط الضوء على الطموحات الدولية الجديدة لبلدان الخليج، لا سيما رغبتها في تحقيق استقلالية استراتيجية أكبر عن حلفائها الغربيين التقليديين. لهذه الغاية، هدفت إصلاحات سياسات المشتريات إلى تعزيز الإمكانات الداخلية لبلدان الخليج من طريق بناء مجمعات عسكرية-صناعية محلية مثل شركة الإمارات للصناعات العسكرية. بالمثل، الهدف من الكليات الحربية الجديدة في الخليج هو تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية عبر تهيئة النخبة المحلية للنهوض بمسؤوليات الأمن القومي.
بيد أن تحقيق هذه الأهداف يواجه تحديات عدة. التحدّي الأول يتعلق بنوع التعليم العسكري المنشود. فقد اتّبعت الكليات العسكرية، سواءً في الرياض أو الدوحة أو أبو ظبي، نموذجاً غربياً، ما يعني أن الضباط الخليجيين يدرسون تحاليل السياسات والكتابات الغربية عن الاستراتيجية، بما في ذلك النظريات الكلاسيكية لكارل فون كلاوزفيتز أو نيكولو مكيافيلي أو ثيوسيديديس. بيد أن وضع مقررات في الشؤون الاستراتيجية يتطلب خبرات لا تزال محدودة في الخليج. فالجيل الجديد من الضباط الذين هم في منتصف مسيرتهم المهنية في المنطقة مدرَّبٌ جيداً في الشؤون التكتيكية، لكنه لا يعرف الكثير عن الاستراتيجيات الكبرى والأمن القومي. بغية معالجة هذا الأمر، إعتمد بعض البرامج إلى حد كبير على استقدام مستشارين من الخارج، ما يتعارض مع الهدف الأقصى المتمثل بتعزيز الإمكانات الداخلية. علاوةً على ذلك، يفشل المستشارون الأجانب أحياناً في تكييف خبراتهم مع الاحتياجات المحلية. فعلى سبيل المثال، أشار مدرِّس أميركي إلى أن مواد المقررات التي يتولى تدريسها عن التخطيط الدفاعي في إحدى هذه الكليات الحربية تتحدث عن هيكلية سلسلة القيادة في الجيش الأميركي، والتي تختلف عن الهيكلية المحلية.
صعوبة استيراد تعليم عسكري مستمَد إلى حد كبير من التقاليد والخبرات الغربية، لا سيما الأميركية والبريطانية منها، لا تكمن فقط في اعتماد الخليج على رأسمال بشري خارجي، بل تترتب عن هذا الأمر أيضاً مضاعفات على العلاقات المدنية-العسكرية وعملية صناعة القرار في مجال الأمن القومي. تُهيّئ الكليات الحربية في الغرب قادة المستقبل العسكريين عبر تشجيعهم على تطوير نقاش استراتيجي مناسب، وترتيب أولويات التهديدات، وبلورة العقائد، واستباق الابتكارات المستقبلية (سواءً كانت تكنولوجية أو تنظيمية أو عقائدية). ومن شأن التعليم العسكري الفاعل أن يؤمّن أيضاً القدرة على المساهمة في الآلية المناسبة لصناعة القرارات بطرقٍ تنسجم مع السيطرة المدنية. في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث لطالما كان الجيش مجرد أداة – وليس فريقاً فاعلاً – في استراتيجيات الأمن القومي، يقتضي ذلك تغيير كيفية إعداد السياسات المتعلقة بالشؤون الاستراتيجية، وكيفية تفاعل القيادة العسكرية مع المدنيين.
يكشف هذا التحدي لماذا ولّدت التجارب الخليجية، حتى تاريخه، نتائج متفاوتة. لقد استُلهِمت كلية القيادة والأركان المشتركة في قطر من النموذج البريطاني المتمثل بالأكاديمية الدفاعية للمملكة المتحدة في شريفنهام. في البداية، اعتمدت السلطات القطرية على عدد قليل من المدرّسين الذين أُرسِلوا من كلية كينغز كولدج في لندن لتدريس المقررات، إنما لم يجرِ تجديد هذه الشراكة بعد انقضاء مدّة الثلاث سنوات التي حُدِّدت في العقد. وقد سرت تكهنات بأن السلطات القطرية تريد تملُّك البرنامج بصورة كاملة، الأمر الذي اعتبرت كلية كينغز كولدج أن من شأنه أن يقوِّض مؤهلاتها الأكاديمية.
أما الحكومة العُمانية فقد سلكت مساراً مختلفاً وقررت عدم البحث عن شريكٍ غربي، معوِّلةً بدلاً من ذلك على مواردها الذاتية لإنشاء منظومة محلية الطابع للتعليم العسكري. تمتلك سلطنة عُمان تقليداً عسكرياً أكثر رسوخاً بالمقارنة مع الدول المجاورة لها. لقد بادر السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد، وهو نفسه خرّيج إحدى الكليات العسكرية في المملكة المتحدة، إلى الاستثمار في التعليم الدفاعي المحلي قبل وقت طويل. وعلى الرغم من أنه تتم تقليدياً الاستعانة بضباط بريطانيين بمثابة مستشارين أكاديميين، إلا أن الضباط العُمانيين يفتخرون بإعلان تملُّكهم لتعليمهم العسكري.
تسعى هذه البلدان الخليجية جاهدةً أيضاً إلى تحقيق طموحاتها بالبناء على هذه الإندفاعة نحو إنشاء كليات حربية وطنية بهدف تعزيز التعاون الإقليمي على مستوى مجلس التعاون الخليجي. في العام 2015، أعلن قادة مجلس التعاون الخليجي عن خططٍ لإنشاء كلية دفاعية مشتركة لدول المجلس مقرها في الإمارات العربية المتحدة. في الواقع، هذه الفكرة مطروحة وتداولوا بها منذ العام 1984، في مسعى لمحاكاة الكلية الدفاعية التابعة لحلف “الناتو”، والتي تولّد هوية عسكرية جماعية لدى ضباط الحلف الأطلسي. وقد اصطدمت المقترحات السابقة لإنشاء قوات مشتركة تابعة لدول مجلس التعاون الخليجي، بالمخاوف من أن يُشكّل ذلك تعدّياً على السيادة الوطنية للدول الأعضاء. وتأتي المقاطعة الأخيرة والمستمرة لقطر وما أحدثته من تصدّع داخل مجلس التعاون الخليجي لتقلّل من آفاق قيام تعليم دفاعي جماعي. غير أن المسؤولين يتحدّثون عن استمرار اجتماعات العمل التي تشارك فيها جميع الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي (بما في ذلك قطر)، بهدف تدشين الكلية الدفاعية المشتركة بحلول العام 2021. ويتوقف مستقبل المشروع على تسوية الأزمة الإقليمية، غير أن عدم إلغائه في العلن يكشف عن الأهمية التي لا يزال التعليم الدفاعي المشترك على مستوى المنطقة يرتديها بالنسبة إلى بلدان مجلس التعاون الخليجي.
أخيراً، وبغية تحقيق الأهداف المتوخاة من هذه المبادرات للتعليم العسكري، ينبغي إحداث تحوُّل في الثقافات الاستراتيجية لهذه الدول، ما يتطلب سنوات – لا بل أجيالاً – من الجهود المدروسة والمتواصلة. لكن نظراً إلى أن الكليات الدفاعية الجديدة أنشئت على عجل، قد تبقى الثغرة قائمة بين الأهداف الرسمية والواقع. بهذا المعنى، ينبغي العمل خلال العقد المقبل على إنشاء ومؤازرة البيئات الحاضنة الضرورية لتعزيز هذه الثقافة. فيما يتطلع الضباط الخليجيون إلى التجربة الغربية، قد يتوقّفون عند المساهمة التي قدّمتها الكليات الحربية الأميركية في النقاشات عن السياسات المتّبعة في حملات مكافحة التمرد في العراق وأفغانستان. بالمثل، من شأن الكليات الحربية في دول مجلس التعاون الخليجي أن تحقق أهدافها عندما تصبح جزءاً من دوائر السياسات عبر توليد معارفها الخاصة التي تضعها في تصرّف صنّاع القرار – مثلاً عن الدروس العسكرية المستمدّة من حرب اليمن أو المواجهة الإقليمية مع إيران.

• جان لو سمعان أستاذ مشارك في الدراسات الاستراتيجية ملحَق بكلية الدفاع الوطني في الإمارات العربية المتحدة. الآراء الواردة في هذا المقال لا تعكس آراء كلية الدفاع الوطني في دولة الإمارات، ولا آراء مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية، ولا تُعبّر عن آراء حكومة معيّنة.
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى