بايدن وحربُ اليمن: السياقُ الطويل لتحوّلاتِ الموقف الأميركي

قرارات الرئيس الأميركي جو بايدن المتعلقة باليمن لا تُمثّل قطيعة مع الإدارات السابقة. هي خطوة إضافية في سلّم الانتقال البطيء من موقع الداعم لأحد أطراف الحرب إلى موقع الوسيط الساعي لإنهائها.

دونالد ترامب والأمير محمد بن سلمان: الأول دعم الثاني بشكل كبير

سلطان العامر*

في الرابع من شهر شباط (فبراير) 2021، ألقى الرئيس الأميركي جو بايدن كلمته الأولى بشأن سياسته الخارجية تحت عنوان “موقع أميركا في العالم”، وفيها أعلن ثلاثة قرارات متعلقة بسياسة الولايات المتحدة إزاء حرب اليمن: إنهاء الدعم الأميركي لكافة العمليات العسكرية الهجومية وما يتعلق بها من صفقات تسليح، ودعم جهود الأمم المتحدة لحلّ النزاع، وتعيين تيم لندركينغ مبعوثاً رئاسياً خاصاً لليمن. هذه القرارات تعني ابتعاد أميركا عن خانة الداعم لأحد أطراف الحرب ومزيداً من الاقتراب إلى دور الوسيط الساعي إلى إنهاء الحرب. هذه القرارات لا تمثّل قطيعة مع سياسة كل من الإدارتين السابقتين لإدارة بايدن. ذلك أنها في حقيقة الأمر استمرار لعملية تغيّر بطيئة بدأت في الأشهر الأخيرة من عمر إدارة باراك أوباما لتتابع نموها خلال فترة دونالد ترامب حتى وصولها لحالتها الراهنة مع قرارات بايدن.

وكما سيظهر، من خلال تتبّع أهم محطات الدعم الأميركي للحرب، فإن أغلب عناصر هذا الدعم كانت قد أوقفت قبل وصول بايدن للسلطة، وأن التحوّل التدريجي في واشنطن من التأييد والدعم إلى المعارضة ووقف الدعم والوساطة جاء نتيجة عاملين رئيسين متداخلين: الأول هو النشاط والضغط الدؤوب الذي مارسته المنظمات الحقوقية والإنسانية لإيقاف زيادة أعداد الضحايا المدنيين، وتفاقم الأوضاع الإنسانية في اليمن المرتبطة بالحرب. أما العامل الثاني فهو زيادة الاستقطاب السياسي في واشنطن، سواء على مستوى المؤسسات، بين الكونغرس والرئاسة، أو على مستوى الحزبين، وتحوّل حرب اليمن، ومعها العلاقات السعودية-الأميركية، لإحدى ساحات هذا الاستقطاب.

كانت الحرب في اليمن منذ اللحظة الأولى لانطلاقها مرتبطة بالعلاقات السعودية-الأميركية وتطور الأحداث داخل السعودية. فالمملكة قررت قيادة التحالف العربي في 26 آذار (مارس) 2015 استجابة لطلب من الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي بعد انقلاب حركة أنصار الله (الحوثيين)، إلّا أن الإعلان جاء من واشنطن بواسطة سفير المملكة آنذاك عادل الجبير الذي أخبر بانطلاق أولى العمليات العسكرية باسم عاصفة الحزم، ليعقبه بعد ساعات قليلة بيان من البيت الأبيض يؤكد فيه دعم إدارة الرئيس أوباما للتحالف العربي وتقديم بلاده للدعم اللوجستي والاستخباراتي وتأسيس خلية التخطيط المشتركة.

بعد أسبوعين من انطلاق الحملة، أيدت إدارة أوباما قرار مجلس الأمن رقم 2216 الذي يطالب الحوثيين بالتراجع عن الانقلاب والأعمال العسكرية والعودة إلى المبادرة الخليجية وآليتها ومخرجات الحوار الوطني. وبعد أسبوع من قرار مجلس الأمن، أعلنت الرياض انتهاء عملية عاصفة الحزم باعتبارها حققت أهدافها وبدء عملية إعادة الأمل. بعد هذا التغيير بأيام، صدرت أوامر ملكية بإقالة ولي العهد آنذاك الأمير مُقرن بن عبد العزيز بناء على طلبه، وتعيين وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف وليّاً للعهد، وتعيين وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان وليّاً لوليّ العهد.

لم تنتهِ الحرب بصدور قرار مجلس الأمن وتغيير مسمى العملية. فمع استمرارها بدأت تتصاعد حصيلة الضحايا المدنيين وتتفاقم الأزمات الإنسانية من مجاعة وأوبئة وفقر، ومعها تصاعدت انتقادات مؤسسات الإغاثة والمنظمات الحقوقية والأمم المتحدة. وابتداءً من شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2015، وجدت هذه الانتقادات طريقها نحو الكونغرس حيث أعرب بعض أعضائه عن انتقادات لإدارة أوباما عندما أخطرتهم نيتها بيع دفعة جديدة من الأسلحة لمساعدة السعودية في الحرب، ورُغم تأجيل الموافقة على الصفقة، إلّا أنها مرّت.

وفي كل شهر تخوضه الحرب، يزيد تعمّق الأزمات الإنسانية، ومعه المعارضة للحرب داخل واشنطن. لم تقف السعودية مُتفرّجة أمام نمو هذه الظاهرة، بل تبنّت مقاربة مُتعدّدة الأبعاد لتأكيد سرديتها عن الحرب والمحافظة على تأييد واشنطن والمجتمع الدولي لها. شملت هذه المقاربة، حملة علاقات عامة، وإطلاق برامج إغاثية وإنمائية في اليمن تحت مظلة مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية الذي تأسس بعد الحرب بأسابيع عدة، ومزيداً من التعاون العسكري مع الولايات المتحدة لتفادي استهداف المدنيين.

كان نجاح تطبيق هذه الاستراتيجية محدوداً، فبعد سنة من انطلاق الحرب، أدرجت الأمم المتحدة التحالف العربي ضمن قائمتها في ملحق تقريرها السنوي عن الأطفال والنزاع المسلّح. حمّل التقرير التحالف مسؤولية استهداف قرابة نصف المدارس والمستشفيات ومقتل أكثر من 60 في المئة من الألفين طفل الذين قضوا أثناء الحرب. إعترضت السعودية على التقرير مُعتبرةً إياه غير مُستَند على معلومات صحيحة، وبعد أيام قامت الأمم المتحدة برفع اسم المملكة من التقرير، الأمر الذي لاقى موجة كبيرة من الانتقادات من المؤسسات والمنظمات الإنسانية، وبعد يومين من رفعها صرّح الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون أن الرفع جاء نتيجة ضغوط سعودية بسحب أموالها التي تدفعها دعماً لبرامج الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي نفاه مبعوث المملكة في الأمم المتحدة.

إلّا أن الحادثة الرئيسة التي بدأ معها مسلسل خفض الدعم العسكري والاستخباراتي واللوجستي الأميركي للتحالف العربي في اليمن كانت حادثة قصف الصالة الكبرى التي وقعت في 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2016 عندما استهدفت ضربتان جويتان للتحالف قاعة عزاء في صنعاء أدّت إلى مقتل أكثر من 150 وإصابة أكثر من 500 شخص. في البداية نفى اللواء الركن أحمد عسيري، المتحدث باسم التحالف حينها، مسؤولية التحالف عن الحادثة، لكن بعد يومين، أعلن التحالف فتح تحقيق بالحادثة. انتهى التحقيق بعد أسبوع، وجاءت نتيجته أن القصف نجم عن معلومات مغلوطة من مسؤولين يمنيين، تم العمل بناء عليها دون موافقة من قيادة التحالف.

أدّت هذه العملية لعاصفة من الإدانات والانتقادات من المنظمات الحقوقية والأمم المتحدة وصولاً إلى الحكومات الحليفة. فمن جهتها، أدانت إدارة أوباما الضربات وتوعّدت بمراجعة دورها في الحرب، وبعد شهرين، أعلنت أنها ستعلّق بيع مجموعة من الأسلحة للسعودية، وستُقلل مستوى مشاركة المعلومات الاستخباراتية، وستزيد تدريبات القوات الجوية السعودية لتحسين ممارسات الاستهداف المستقبلية. بالمقابل، ستستمر أميركا بتزويد طائرات التحالف بالوقود جوّاً، وبيع بعض الأسلحة، ومشاركة الاستخبارات في ما يتعلق بالتجاوزات على الحدود السعودية-اليمنية.

ساعد انتخاب ترامب على إبطاء عملية تخفيض الدعم، لكنه لم يوقفها. أما فترة رئاسته، فقد ساهمت بتحويل حرب اليمن إلى ساحة رئيسة للصراعات المؤسساتية والحزبية داخل أميركا وعلامة رئيسة للعلاقات السعودية-الأميركية. وكما هو معلوم، ازداد التقارب بين إدارة ترامب والحكومة السعودية منذ توليه الرئاسة، فالسعودية كانت محطة زيارته الخارجية الأولى، والتي ألقى خلالها خطاباً تعهّد فيه بفتح “فصل جديد” من العلاقات بين البلدين، وأنه لن يفرض نمط الحياة الأميركية على الآخرين. لم يغيّر هذا التقارب سياسة تخفيض الوجود الأميركي في المنطقة، التي بدأت منذ السنة الأخيرة من عهد جورج بوش الابن وأكملها أوباما، ولا في تزايد صفقات الأسلحة بين البلدين، ولا في التوافق التقليدي بين الولايات المتحدة والسعودية على اعتبار أن إيران وحلفاءها والحركات الجهادية تهديدات مشتركة.

لكن تركيز التغيّرات التي أحدثها هذا التقارب تمثّلت في اهتزاز التوافق الحزبي التقليدي داخل أميركا حول دعم العلاقات السعودية-الأميركية، وتعديل سياسة تخفيض الوجود الأميركي في المنطقة لتتماشى مع المصالح السعودية، وأخيراً، عدم التدخل في السياسات الداخلية السعودية وخصوصاً في ما يتعلق بملفات حقوق الإنسان وما شابه. لكن ما أنتجه هذا التقارب هو تعديل سياسة تخفيض الوجود الأميركي في المنطقة لتتماشى مع المصالح السعودية، بالإضافة لعدم التدخل في السياسات الداخلية السعودية وخصوصا في ما يتعلق بملفات حقوق الإنسان وما شابه. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فإن هذا التقارب لعب دوراً في اهتزاز التوافق الحزبي التقليدي داخل أميركا حول دعم العلاقات السعودية-الأميركية.

إقترن هذا التوافق، بالإضافة إلى عوامل أخرى، مع تحوّلات كبيرة في المملكة. لقد وفّرت هذه التغيّرات في السياسة الأميركية مساحة كبيرة للسعودية للتحرّك داخلياً وخارجياً. فالفترة بين زيارة ترامب وحتى نهاية العام 2018، شهدت عدداً من التحوّلات. داخليا، تمت إقالة الأمير محمد بن نايف من ولاية العهد وتعيين الأمير محمد بن سلمان مكانه، وإطلاق سياسات الانفتاح الاجتماعي في ملفات مُتعلّقة بالمرأة والترفيه والسياحة وتقييد صلاحيات مؤسسات الضبط الديني، وكذلك استكمال العمل على مشاريع التحوّل الاقتصادي الضخمة المندرجة تحت رؤية 2030، وفي الوقت عينه تزايدت حملات الاعتقالات ضد دعاة ومثقّفين وناشطين وناشطات من مختلف التوجهات الفكرية. أما خارجياً، فقد تمثّلت التغييرات بتعمّق العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة وفتح باب التقارب مع العراق، وقطع العلاقات مع إيران ثم قطر.

أما في ما يتعلق بالحرب في اليمن، فإن إدارة ترامب أجرت مراجعة شاملة لسياسة إدارة أوباما، وقبل انتهاء هذه المراجعة في تموز (يوليو) 2017، قرر ترامب السماح ببيع الأسلحة التي علّق بيعها أوباما في الشهر الأخير من ولايته. وعندما انتهت المراجعة، أعلنت إدارة ترامب أنها ستستمر باتباع سياسة إدارة أوباما في ما يتعلق باليمن مع إضافة هدف “إنهاء الحرب وتفادي صراع إقليمي ومعالجة الوضع الإنساني وحماية الأراضي السعودية”. إلّا أن هذا الاستمرار بالدعم قابله ازدياد في حدّة المعارضة للحرب داخل واشنطن مع تزايد أعداد الضحايا وتفاقم الحالة الإنسانية. ففي نهاية العام 2017 عندما أغلق التحالف العربي كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية لليمن ردّاً على إطلاق الحوثيين لصاروخٍ باليستي تجاه المطار الدولي في الرياض، تزايدت الانتقادات من قبل وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية على تأثير هذه الخطوة في الأوضاع الإنسانية مما حدا بإدارة ترامب للضغط على السعودية التي استجابت برفع الحصار.

تضافرت حادثتان رئيستان في موسم الانتخابات الأميركية النصفية من آب (أغسطس) إلى تشرين الأول (أكتوبر) في العام 2018 لرفع حدة المعارضة في واشنطن للحرب وتخفيض الدعم الأميركي لها ودفعها أكثر باتجاه لعب دور الوسيط الساعي إلى إنهاء هذه الحرب. الحادثة الأولى كانت الضربة الجوية التي استهدفت حافلة مدرسية في ضحيان بمحافظة صعدة اليمنية في 9 آب (أغسطس) والتي نجم عنها مقتل عشرات الأطفال، أما الحادثة الثانية فهي مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. كان حجم التحالف المعارض للحرب الذي تشكل في هذه الفترة هائلاً لدرجة دفعت إدارة ترامب لأن تدعو جميع الأطراف إلى هدنة في نهاية تشرين الأول (أكتوبر)، وبعدها بأسبوعين أعلنت إيقاف تزويد طائرات التحالف بالوقود جوّاً.

إلّا أن هذا لم يكن كافياً، فقد قام مجلس الشيوخ ذو الأغلبية الجمهورية بتمرير قرار يُلزم الإدارة بالانسحاب كلّياً من الحرب في شباط  (فبراير) 2019، ثم قام مجلس النواب ذو الأغلبية الديموقراطية بالموافقة عليه. إلا أن ترامب رفض المُصادقة على القرار واستخدم حق النقض، وعندما عاد القرار لمجلس الشيوخ لم يستطع تحقيق شرط الـ67 صوتاً الضرورية لتجاوز حق نقض الرئيس. إلّا أن حجم التوافق عليه في كلا مجلسي الكونغرس ومن كلا الحزبين يعكس صورة مُغايرة جداً عن موقف الكونغرس من الحرب عند انطلاقها. وعندما خسر ترامب الانتخابات، نشط في وضع العراقيل أمام بايدن حتى لا يعود للاتفاق النووي مع إيران، وكانت إحدى هذه العراقيل هو تصنيف حركة الحوثيين حركة إرهابية. إلّا أن هذا التصنيف لم يستمر لأكثر من شهر، فبالإضافة لقرارات بايدن المُتعلّقة بالانسحاب من الحرب ورفع غطاء الدعم الديبلوماسي، أضاف لها قبل أيّام قراراً يقضي برفع حركة الحوثيين من قائمة الإرهاب.

وكما يتضّح من هذا التتبع، فإن قرارات بايدن المتعلقة بالشأن اليمني لا تُمثّل قطيعة مع الإدارات السابقة له بقدر ما هي خطوة إضافية في سلّم الانتقال البطيء من موقع الداعم لأحد أطراف الحرب إلى موقع الوسيط الساعي إلى إنهاء الحرب. نتائج هذه الخطوة، حتى الآن، محدودة إن لم تكن معكوسة. فرُغم أنها في جانب كبير منها تمثّل استجابة لضغوط داخل واشنطن، إلّا أنها لا تبدو كافية لإرضاء الجبهة المناهضة للحرب في واشنطن، والتي بدأت تطالب إدارة بايدن بتوضيح آليتها في التفريق بين عمليات التحالف الهجومية والدفاعية.

ومع تشابك هذا الملف بمسألة نشر التقرير الاستخباراتي الخاص بمقتل خاشقجي، وسياسة بايدن تجاه إيران، والضربة العسكرية في سوريا، فإنه من المرجح أن يستمر تماسك هذه الجبهة وضغطها لمزيد من الخطوات. أما في جزيرة العرب، حيث تدور أحداث الحرب، فقد جاء الرد المباشر لقرارات بايدن في تصعيد الحركة الحوثية لهجماتها على المملكة، وتوسّع عمليات مدّ نفوذها داخل اليمن، وليس واضحاً حتى الآن في ما إذا كانت هذه التحركات محاولة من الحوثيين لتحسين موقعهم التفاوضي في مباحثات إنهاء الصراع، أم أنها نتيجة استشعارهم أن القرارات الأميركية أضعفت التحالف، وبالتالي حافزاً لاستكمال الانقلاب. أيّا يكن الأمر، فإن وقف الدعم عن التحالف لا يبدو أنه يعني بالضرورة حلول السلام.

  • سلطان العامر هو باحث سعودي ومرشح لنيل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جورج واشنطن. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: alamer@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى