معضلة الإقتصاد المقاوم الإيراني: لا يستطيع النمو في ظل العقوبات

في العام 2014 طرح المرشد العام للثورة في إيران آية الله علي خامنئي نظرية “الإقتصاد المقاوم” كحلٍّ من الحلول الناجعة للمشاكل الاقتصادية العويصة التي يتخبط فيها اقتصاد الجمهورية الإسلامية.

الرئيس حسن روحاني: الإقتصاد المقاوم لن يتحقق في عهده

بقلم جواد صالحي أصفهاني*

عندما تم التصديق على انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة في كانون الثاني (يناير)، إرتفعت قيمة العملة الإيرانية مقابل الدولار بنسبة 20  في المئة. كان الكثيرون من الإيرانيين يأملون أن يعني فوز بايدن العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 وإزالة حملة “الضغط الأقصى” التي جعلت الأزمة الاقتصادية العالمية المُصاحبة لوباء فيروس كورونا الوضع أسوأ بشكلٍ لا يُقاس بالنسبة إلى الإيرانيين العاديين. ولكن في غضون أسبوع من تولي بايدن الرئاسة، أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين أن واشنطن لا تزال “بعيدة” من الانضمام إلى الاتفاق النووي. في طهران، إستجابت أسواق العملات بسرعة وعاد الدولار إلى الإرتفاع.

تبيَّن أن إدارة بايدن ليست في عجلة من أمرها لإصلاح الأمور مع الجمهورية الإسلامية. ولم يُظهر قادة إيران اهتماماً كبيراً بالعودة السريعة إلى المحادثات مع الولايات المتحدة. لقد أضرّت العقوبات بالاقتصاد الإيراني بشكل لا يقبل الجدل، لكن من غير المُحتمل أن البلدين كانا سيصلان إلى مثل هذا المأزق لو لم يكن لديهما فهمٌ مختلفٌ للغاية حول كيفية تأثير العقوبات على آفاق البلاد في المدى الطويل.

صعّدت الولايات المتحدة الضغط في 2018 ومنذ ذلك الحين تُراقب مؤشرات الانهيار الاقتصادي الإيراني. لكن بعض أقوى القادة الإيرانيين كان يراقب مجموعة مختلفة من الإشارات: إن الدولة ستخرج من الأزمة باقتصاد أكثر مقاومة للضغوط الخارجية، وبالتالي فهي معزولة عن العقوبات الأميركية المستقبلية. كلا الجانبين يلعبان لعبة الإنتظار. لكنهما بذلك يقرآن إشارات مختلفة. يفهم البعض في الولايات المتحدة ألم الناس العاديين على أنه قنبلة موقوتة ستضطر الحكومة الإيرانية في النهاية إلى نزع فتيلها. لكن مكتب المرشد الأعلى لإيران يضع عينه على اللعبة الطويلة، حيث قد تكون المعاناة قصيرة الأمد ثمناً يستحق دفعه مقابل الاكتفاء الذاتي في المدى الطويل.

لدغة العقوبات

في الواقع، تحقق العديد من التوقّعات الأميركية المتشدّدة بشأن الاقتصاد الإيراني، ولكن بطريقةٍ كلّفت الشعب الإيراني كثيراً ولم تكسب الولايات المتحدة سوى القليل جداً. تسببت العقوبات في انخفاض قيمة العملة الإيرانية، والتضخم، والتدهور الاقتصادي، ولكن ليس الإنهيار. كما أدّى تصاعد الاستياء بالفعل إلى احتجاجات. لكن هذه قوبلت بقمع مميت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 ولم تجعل السلطات في طهران أكثر خضوعاً.

لقد تراجعت مستويات المعيشة في إيران، تدريجاً في البداية ثم انخفضت دفعة واحدة. إبتداءً من منتصف التسعينات الفائتة، تمتّعت البلاد لمدة 15 عاماً بمستويات معيشة مرتفعة وانخفاض كبير في معدل الفقر. ثم فرض الرئيس باراك أوباما عقوبات ثانوية على إيران في العام 2011، ما أدّى إلى عقدٍ من التدهور الاقتصادي الذي تسارع خلال رئاسة دونالد ترامب. تم القضاء على المكاسب السابقة التي حققتها البلاد: في فترة الإثني عشر شهراً المُنتهية في 20 آذار (مارس) 2020، وجد الإيرانيون أنفسهم قادرين فقط على شراء القدر عينه، في المتوسط​​، الذي كان يشترونه قبل 15 عاماً. وتعرضت الأسر الريفية لمزيد من التراجع حتى العام 1998. وازدادت معدلات الفقر. إنضمّ أكثر من 4 ملايين شخص إلى صفوف الفقراء منذ العام 2012، ثلاثة أرباعهم منذ أن أعاد ترامب فرض العقوبات على إيران عند انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في 2018.

كان كثيرون من مؤيدي العقوبات الأميركية يأملون في أن تؤدي هذه الإجراءات إلى إثارة غالبية الإيرانيين ضد حكومتهم. لكن العقوبات لم يكن لها هذا التأثير. وفقاً لاستطلاع رأي حديث، “يُعارض الإيرانيون بشدة التفاوض مع إدارة بايدن قبل عودة الولايات المتحدة إلى الامتثال الكامل لـ [الاتفاق النووي]”.

في العام 2011، حاول الرئيس الإيراني آنذاك محمود أحمدي نجاد تهدئة آلام العقوبات وتخفيف أثارها على الناس من خلال إصدار تحويلات نقدية لمواطني البلاد. في المقابل، لم تقدم حكومة الرئيس حسن روحاني الكثير من المساعدة. لقد أصابت عقوبات ترامب المصدر الرئيس للدخل الحكومي، عائدات النفط، بطريقة أشدّ وأصعب بكثير من سابقاتها، ولم يفعل روحاني كما سلفه لأنه لا يؤمن بالمساعدات والإعانات. مع ذلك، تستمر التحويلات النقدية التي بدأت في العام 2011، لكنها تساوي الآن 19 دولاراً فقط للفرد شهرياً في تعادل القوة الشرائية بالدولار الأميركي، بانخفاض عن 90 دولاراً في بدايتها. أما التحويلات الحكومية الأخرى، التي يتأهّل لها الفقراء بشكل أساس، فهي أصغر، حيث يبلغ متوسطها 6 دولارات شهرياً لأدنى 20 في المئة من توزيع الدخل.

الطبقة الوسطى لم يكن حالها أفضل بكثير. قبل إعادة فرض العقوبات في العام 2018، كان يمكن تصنيف ما يقرب من 60 في المئة من الإيرانيين على أنهم من الطبقة الوسطى بناءً على نفقاتهم الاستهلاكية. في 2019-2020، يمكن تصنيف أقل من 50 في المئة على هذا النحو.  لقد انحدر نحو 8 ملايين إيراني إلى الفئات ذات الدخل المنخفض منذ العام 2011، ثلاثة أرباعهم خلال حملة الضغط القصوى التي شنّها ترامب.

إن قيادة الجمهورية الإسلامية ليست غير مبالية بمحنة مواطنيها -وخصوصاً الفقراء- لكنها منقسمة بشأن الحاجة المُلحّة لإنهاء العقوبات. إنتُخِبَ روحاني، المعتدل، في العامين 2013 و2017 بناء على وعود بإنهاء العقوبات الأميركية وإصلاح العلاقات مع الغرب. روحاني حريص على اغتنام وعد بايدن بإحياء الاتفاق النووي لأنه يعتقد أن طريق إيران إلى الازدهار الاقتصادي يمر عبر التكامل العالمي والسلام مع العالم الغربي. سيكون الاتفاق أكثر قدرة على البقاء إذا تمكّن روحاني من تحقيقه قبل انتخاب رئيس جديد محافظ على الأرجح في حزيران (يونيو) المقبل.

يصطف المحافظون ضد هذا الرأي. لم يُعجَب البعض في هذا المعسكر أبداً بالاتفاق النووي وسيسعدهم رؤيته يموت. آخرون يتنافسون فقط على المناصب ويرغبون في أن يكونوا من الذين سوف يتحدثون إلى الولايات المتحدة. لكن لا يزال آخرون -ومن بينهم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي- يُقدّرون التكنولوجيا المتقدمة والتكامل العالمي لكنهم يسعون إلى إثبات أن إيران يمكن أن تحقق هذه الأشياء من دون إعادة توجيهها نحو الغرب.

المحافظون المتحالفون مع المرشد الأعلى مُصمّمون على أن يثبتوا للغرب ولخصومهم المحلّيين أن إيران ستواصل تحدّي الهيمنة الأميركية في جوارها بغض النظر عن العقوبات والضغوط القصوى. وتُجادل هذه المجموعة بأنه إذا كان هناك أي شيء، فإن العقوبات ستساعد إيران على تقليل اعتمادها على النفط وعلى الغرب. هذا هو “الإقتصاد المقاوم” الذي صاغه المرشد الأعلى لأول مرة في العام 2014، وقد دافع عنه منذ ذلك الحين، ويعتقد أنه سيتحقّق بالتأكيد – حتى لو كان ذلك ببطء.

إقتصادٌ مقاوم

لا ينظر المحافظون الإيرانيون إلى مستويات المعيشة لتأكيد رؤيتهم ولكن إلى أداء الاقتصاد بشكل عام. أعلن البنك المركزي الإيراني قبل أسبوعين أن إيران حققت نمواُ اقتصادياً إيجابياً للأشهر التسعة المنتهية في 20 كانون الأول (ديسمبر) 2020. لكن تقديرات المركز الإحصائي لإيران كانت أقل إيجابية: إنخفض الناتج المحلي الإجمالي لفترة التسعة أشهر بنسبة 1.2٪ مقارنة بـالفترة نفسها من العام الماضي، على الرغم من ارتفاعها في الربع الأخير بنسبة 0.8 في المئة عن الخريف السابق.

ليس من المستغرب أن يكون قطاع النفط الإيراني هو الأكثر تضرّراً، لكن فكرة الإقتصاد المقاوم تنحرف بالتحديد إلى التخلص من اعتماد البلاد على النفط. قبل ثلاثة عقود، كان النفط يمثل أكثر من 50٪ من الناتج المحلي الإجمالي لإيران. في العام الفائت، انخفضت هذه الحصة إلى 15 في المئة. تمكّنت جميع القطاعات الأخرى من الحفاظ على مستويات إنتاجها وتوظيفها ثابتة في ظل العقوبات. حتى أن التصنيع قد تحسن: أدّت عقوبات ترامب إلى تخفيضٍ هائل في قيمة العملة، مما جعل الواردات أقل تكلفة. لقد سدّ التصنيع المحلي الفجوات، وزاد الإنتاج والتوظيف والمبيعات المحلية. ولو لم تمنع العقوبات الشركات الإيرانية من تصدير منتجاتها، لكان أداء التصنيع أفضل.

قد لا تكون هذه المكاسب المتواضعة دليلاً على ولادة الإقتصاد المقاوم. لكن مؤيدي هذه الرؤية يعتقدون أنه مع مرور الوقت، وبخاصة في ظل العقوبات، قد تصبح قضية الاستقلال الاقتصادي لإيران أكثر إقناعاً للجماهير داخل وخارج إيران. بالنسبة إلى هذه القوى القوية في طهران، فإن العقوبات ليست مجرد أدواتٍ للمعاناة قصيرة المدى فحسب، بل هي الحافز المحتمل لمستقبل أكثر استدامة.

ما قد لا يعترف به الأكثر إيديولوجية بينهم هو أنه مع بقاء العقوبات، يمكن لإيران أن تتطلع إلى تباطؤ وانخفاض النمو في المستقبل المنظور. وعلى الرغم من أن النمو البطيء قد يكون مستداماً بينما تنتظر إيران لترى ما ستفعله الولايات المتحدة في عهد بايدن، إلّا أنه في المدى الطويل، يجب على الجمهورية الإسلامية الوفاء بالميثاق الاجتماعي الذي استمر لمدة أربعة عقود: أي يجب أن تعود إلى نوعٍ النمو الاقتصادي المُستدام والحدّ من الفقر الذي شهدته البلاد قبل العقوبات. للقيام بذلك، سيتطلب من إيران التوفيق بين طموحاتها السياسية -كقوة إقليمية يمكنها تحدي الولايات المتحدة- وهدفها الاقتصادي المتمثّل في تحقيق النمو.

إن مفهوم الإقتصاد المقاوم كما تتم مناقشته في إيران لا يعني الاكتفاء الذاتي، بل يعترف بالحاجة إلى أن تستبدل إيران إمداداتها الوفيرة من النفط والغاز بالواردات والتقنيات الجديدة. إن الدعوة إلى “النظر إلى الشرق”، كما حثّ المرشد الأعلى، قد لا تُقدّم حلاً لأحجية إيران. بعد كل شيء، لم يساعد الشرق كثيراً على محاربة عقوبات ترامب: روسيا مُصدرة للنفط والغاز في حدّ ذاتها وليس لديها الكثير لتقدمه لإيران إلى جانب الأسلحة، وتجنّبت القوى الاقتصادية الآسيوية مثل الصين والهند واليابان وكوريا التجارة الرسمية مع إيران، خوفاً، مثل أي طرف آخر، من فقدان الوصول إلى الأسواق الأميركية.

في المدى القصير، طالما أن الجمهورية الإسلامية قادرة على إدارة واحتواء استياء مواطنيها، فإن توقع بلينكين بأن تخفيف العقوبات هو “طريق طويل” قد لا يبدو وكأنه أخبار سيئة لأولئك المتشدّدين في طهران الذين يعارضون الاتفاق النووي. ولكن لتحقيق اقتصادٍ مقاومٍ فاعل، تحتاج إيران إلى الاتفاق النووي. لهذا السبب، قد تمضي المفاوضات قدماً حتى بعد انتخابات حزيران (يونيو) التي ستنذر برحيل حكومة روحاني ووزير خارجيتها القدير محمد جواد ظريف.

  • جواد صالح أصفهاني هو أستاذ الاقتصاد في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا وزميل كبير غير مقيم في معهد بروكينغز.
  • يصدر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره بالإنكليزية في مجلة “فورِن أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى