وسط جمودٍ مُخيف، شَبَحُ التقسيم يحوم فوق لبنان

بقلم أسامة الشريف*

بعد سبعةِ أشهرٍ على الإنفجار المُروّع الذي دمّر مرفأ بيروت وأجزاءً كبيرة من العاصمة، لم يتمّ إحرازُ تقدّمٍ يُذكَر في كشف الحقائق وتقديم الجناة إلى العدالة. أصبح انفجار المرفأ رمزاً لانزلاق لبنان السريع إلى الفوضى والشلل السياسي والاقتصادي. وأجبر الحادث حكومة حسان دياب على الاستقالة. بعد أسابيع من الفوضى وفي أعقاب مبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تم تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة من الخبراء غير الحزبيين لإنقاذ البلاد وتمهيد الطريق أمام المساعدات المالية الدولية.

ومنذ ذلك الحين، قوبلت محاولات الحريري لتشكيل مثل هذه الحكومة بتعنّت ومقاومة الرئيس ميشال عون، الذي يواصل تحالفه غير المُقدَّس مع “حزب الله” تقديم مصالح الميليشيات الموالية لإيران على مصالح البلاد، والذي يريد أيضاً أن يكون له (مع حزبه التيار الوطني الحر) حقّ النقض في مجلس الوزراء؛ وهي تجربة شلّت الحكومات السابقة ووقفت في طريق تبنّي الإصلاحات السياسية والاقتصادية.

على مدى عقود فرض “حزب الله” نفسه كدولةٍ داخل دولة ذات ترسانة عسكرية تفوق ترسانة الجيش اللبناني. لقد استفادَ من نظامٍ سياسيٍّ طائفي خدَمَ المصالح الضيّقة لطبقة حاكمة مُتشاحنة على حساب اللبنانيين. في هذه العملية، انقسمت الوزارات والمؤسسات الرئيسة في البلاد بين مختلف الأحزاب والجماعات، ما مهّد الطريق للفساد الجماعي والانهيار البطيء للبنية التحتية للبلاد بما فيها القطاعات المصرفية والبلدية والصحية.

عندما نزل اللبنانيون إلى الشوارع في أواخر العام 2019 للإحتجاج على تدهور الخدمات العامة والبطالة وهبوط الليرة، قوبلوا بالقوة والقمع والمنع، الأمر الذي أدّى إلى عدم تحقيق مطالبهم بإنهاء الوضع السياسي الراهن. لم يكن “حزب الله”، الذي جرّ تورّطه في الحرب الأهلية السورية لبنان إلى أزمةٍ لا نهاية لها، في مزاجٍ يسمح له الرضوخ للضغط لفتحِ فصلٍ جديد من شأنه أن يشمل تسليم ترسانته إلى الجيش اللبناني.

كان انفجار مرفأ بيروت علامة فارقة في تاريخ لبنان المضطرب. ربما لا تقل أهمية عن الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية الدموية في البلاد في السبعينات الفائتة. الواقع أن ثالوث الأزمة الصحية والانهيار الاقتصادي والمأزق السياسي، يُهدّد الآن بانهيار البلاد تماماً في أي لحظة. والشيء الأكثر إثارةً للقلق هو عدم الاهتمام الإقليمي والدولي بالتورّط في المستنقع اللبناني. باستثناء فرنسا، لم يُبدِ أيّ طرف آخر رغبته في الضغط أو التدخّل في الأزمة اللبنانية.

وعندما حذّر البطريرك الماروني المؤثّر الكاردينال بشارة بطرس الراعي، السبت الفائت، من “انقلابٍ شامل”، ودعا إلى مؤتمر دولي لتفادي “الفوضى والجوع والقمع”، فيما كرر دعوته السابقة إلى أن يكون لبنان مُوَحَّداً، ومُحايداً نشطاً وإيجابياً، وذا سيادة، مستقلاً، حراً وقوياً، ردّ “حزب الله” باتهامه بمحاولة “تدويل” الأزمة.

الحقيقة الأساسية هي أن “حزب الله” يحمل مفتاح استقرار لبنان ووحدته وسيادته. لكنه هو الطرف الذي “قام بتدويل” الأزمة عندما تعهّد بالولاء للمرشد الأعلى لإيران وليس للدولة اللبنانية. لقد أصبح وكيلاً في مغامرات إيران الإقليمية وبيدقاً في مواجهة طهران مع الولايات المتحدة وبالتالي إسرائيل. المجموعة بالفعل مسؤولة عن جرّ البلاد إلى حرب كبرى مع إسرائيل في العام 2006؛ والنتيجة دمارٌ مُروّع للبنية التحتية في لبنان وخسائر في الأرواح.

بينما يواصل “حزب الله” تخزين صواريخ إيرانية الصنع، تستعد إسرائيل لمواجهة كبيرة وربما نهائية مع الجماعة الشيعية. وغنيٌّ عن البيان أن لبنان سيدفع ثمناً باهظاً إذا ما اندلع مثل هذا الصراع.

هناك عددٌ من السيناريوهات المُستقبلية التي يُمكن أن تحدث. الأول ينطوي على اندلاعِ حربٍ أهلية؛ توقُّعٌ يبدو غير مُحتَمَل على الرغم من حقيقة أن الدولة يُمكن أن تنهار في أي لحظة. واحتمال آخر يفترض أن الحريري سينجح في تشكيل حكومة مستقلة تُمهّد الطريق أمام المساعدات الدولية لإنقاذ الاقتصاد وإعادة بناء المؤسسات اللبنانية، لكن هذا يعني أن عون و”حزب الله” سيكونان مُستَعِدَّين لتقديم تنازلات. مثل هذا الاحتمال من شأنه أن يدفع لبنان أكثر نحو تبنّي الحياد الإيجابي في عدد من القضايا الرئيسة بما في ذلك الحرب الأهلية السورية والصراع مع إسرائيل. يبدو أن ذلك غير مُرَجّح.

سيناريو ثالث ينطوي على تقسيم لبنان بحكم الأمر الواقع على أُسسٍ طائفية مع انهيار مؤسسات الدولة أخيراً. وبقدر ما يبدو هذا السيناريو وحشياً وقاسياً ولا يُمكن تصوره اليوم، فإنه يُمكن أن يظهر كخيارٍ مُناسب لكلِّ طرف في ضوء المأزق الحالي الذي لا يُمكن التغلب عليه مع نفاد الوقت لإنقاذ لبنان الكبير البالغ من العمر 100 عام. إن تعنّت “حزب الله” وولاءه لأسياده في طهران قد حدّد بالفعل مصيرَ لبنان، مُثيراً مخاوف من أن يكون تنوّع البلد العرقي والديني – الذي طالما كان مثالاً على حيويته وإبداعه – هو أيضاً سبب هلاكه.

  • أسامة الشريف، صحافي ومُعلّق سياسي مخضرم مقيم في عمّان، الأردن. يمكن متابعته عبر تويتر على: @OsamaAlSharif3

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى