السينما الإيرانية تثور على ثورة الخميني!

هل تستطيع الدراما الفارسية أن تصنع ما عجز عنه السلاح؟!

بيروت جوزف قرداحي

خلال الـ 35 عاماً الفائتة، وبالتحديد منذ ثورة الإمام روح الله الخميني في 1979، علت أصوات التزمت والتشدد الديني على ما عداها من أصوات، وغابت بالتالي نتيجة لذلك أصوات أهل الفن ورسالة صناعة السينما التي لها تاريخ عريق في بلاد فارس حيث يبدو أنها في طريقها إلى الإنتعاش خصوصاً بعدما أعلنت السلطات الإيرانية في أواخر العام الفائت إعادة افتتاح مركز شهير لصناعة السينما والفنون، بعد ثلاث سنوات من غلقه على يد متشددين، فيما يبدو أنه قرار يعكس رؤية أكثر إنفتاحاً لدى الرئيس الجديد ذي الميول المعتدلة حسن روحاني. وعلّق نائب وزير الثقافة حجة الله أيوبي على هذا بقوله إن إعادة فتح دار السينمامؤشر إلى دعم الحكومة لصناعة السينما“.

4- المخرج أصغر فرهادي: فاز بأول جائزة "أوسكار" لإيران عن فيلم "انفصال" في 2012
4- المخرج أصغر فرهادي: فاز بأول جائزة “أوسكار” لإيران عن فيلم “انفصال” في 2012

لو أرادت إيران أن تغزو العالم العربي ثقافياً وبعيداً من إيديولوجيات الدين وتعقيداته، فإنها لن تجد أفضل من صناعتها السينمائية. ذلك أن السينما الإيرانية القديمة العهد، قادرة ومن خلال مئات الأفلام التي تم إنتاجها منذ ما قبل ثورة الإمام روح الله الخميني على الشاه محـمد رضا بهلوي في العام 1979 وما بعدها، أن تدخل إلى بيت وقلب كل عربي، ومن دون ضربة كف، أو إطلاق رصاصة، أو حتى التهويل باستخدام أسلحتها المتفوِّقة عسكرياً. ذلك أن هذه السينما الخارجة من رحم المعاناة، ومن خلف عتمة عباءات رجال الدين، ومن هامش النساء المحجبات، إستطاعت أن تحصد عشرات جوائز الأوسكار العالمية والسعف الذهبية وبإمتياز وتفوّق، بفضل رؤية مخرجيها المتوثبة ومحاكاتهم الواقعية بصدق وبعيداً من الإختياء وراء الإصبع.

ولكن، قبل الغوص في عالم الفن السابع الإيراني الساحر، دعونا نلقي نظرة تاريخية على هذه الصناعة التي بدأت ولادتها في العام 1900 على عهد الشاه مظفر الدين شاه (1853 – 1907) يوم كان يقوم برحلة إلى عدد من الدول الأوروبية فتعرّف عن كثب على هذا الفن الذي أذهله، وأمر بشراء أول آلة عرض للأفلام السينمائية (سينماتوغرافونقلها إلى العاصمة طهران التي شهدت في العام 1904 إفتتاح أول صالة عرض سينمائية. غير أن الإنتاج الحقيقي للسینما في بلاد فارس لم يرَ النور قبل بداية العام 1930على الرغم من تشييد عشرات الصالات، التي اقتصرت عروضها قبل ذلك التاريخ على الأفلام الغربية المدبلجة. فشهد ذلك العام ولادة أول فيلم إيراني على يد المخرج أفانيس أوهانيان تحت عنوان: “آبي ورابي، بمساعدة المصوّر خان بابا معتضدي الذي کان أول إیراني یعمل في مجال التصویر منذ العام 1925 حتی العام 1931. وكان خان قد بدأ عمله بتصویرالأفلام الإخبارية الصامتة، ومن أشهرها فيلم مجلس المؤسسینالذي تم إنتاجه في العام 1925 والذي کان یدور حول مجلس المؤسسین.

أول فیلم إیراني ناطق

عرفت الصالات السينمائية في إيران أول فيلم ناطق في العام 1940 بعدما تمّ تجهيز صالة سينما بالاك / بالاسالشهيرة بأجهزة الصوت الملائمة لعرض فيلم دخترلرالذي صوره عبد الحسین سبنتا. وهو فيلم مستوحىً من روایة شعبیة تعرف باسم جعفر وجلنار، حيث يسلط المخرج سبنتا على حیاة الفتاة جلنار التي تعمل في مقهى، وتتعرف علی الضابط جعفر لتنشأ علاقة حب صارخة بینهما ويعيشان تفاصيلها وسط مفارقات مشوّقة.

حظي فيلم دخترلربإقبال جماهيري قلّ نظیره، ومردود مالي أسس لبدایة جدّية في إنطلاقة عجلة الإنتاج السينمائي التي شهدت في العام نفسه ولادة عدد من الأفلام الجيدة ومنها فيلم جراغ هاي نیويورك” (أضواء نيويورك)، الذي غيّر كثيراً في المفاهيم السياسية وفي مستوى الرقابة الشديدة التي كانت سائدة في تلك الفترة من ولاية رضا شاه بهلوي التي شهدت الكثير من الإضطرابات والمؤامرات، قبل إطاحته على أيدي قوات التحالف خوفاً من جنوحه نحو هتلر في الحرب العالمية الثانية وتزويده بالنفط، وتنصيب نجله محمـد رضا بهلوي على العرش خلفاً له في العام 1941.

الممثلة الإيرانية رويا نوناهالي: بدأت حياتها على المسرح
الممثلة الإيرانية رويا نوناهالي: بدأت حياتها على المسرح

شهدت الفترة الممتدة ما بین عامي 1936و1948 ركوداً على مستوى الإنتاج، نتيجة الحرب العالمية الثانية من جهة، والتخبط في الأزمات والإنقلابات السياسية والصراع على السلطة من جهة ثانية في عهد الشاه محمـد رضا بهلوي، الطري العود والذي خلف والده على عرش تتقاذفه رياح المؤامرات من كل حدب وصوب. فإنتهج منتجو السينما الإيرانية سياسة خاصة لتجنب الوقوع في الخسائر والغرق في مزيد من الركود، من إقتباس الأفلام الأجنبية وتحويلها إلى أفلام محلية. غير أن الخطوة تلك واجهت المزيد من النتائج السلبية، بسبب هيمنة أصحاب الثروات على شركات الإنتاج، وحصر إهتمامهم بالأرباح المادية من دون المضمون، فضلاً عن تدهور الوضع السیاسي المتأثر بأحداث المنطقة وتحوّلاتها. وما زاد من تأزم السينما الإيرانية في تلك الحقبة، هو إقرار الحكومة قانون الرقابة والحد من الحریات، الذي إنعكس سلباً على مواضيع الأفلام التي وجدت نفسها بلا هدف أو قضية.

لم يمنع إقرار قانون الرقابة المشدّدة الذي فرضته الحكومة، نخبة من منتجي ومخرجي السينما الإيرانية أمثال: صاموئیل خاتشیكيان، وهوشنيك کاووسي، وفرّخ غفاري، وابراهیم کلستان، وزهراب شهید ثالث، ومسعود کیمیايي، وداریوس مهرجوئي، وفریدون رهنما، وعلي حاتميمن المحاولة لتغيير الوضع الراهن. فقد حاول هؤلاء القيام بمسیرة ثقافية جدیدة في صناعة السینما الإیرانیة، والتي کانت تسعی الی حد ما إلى الابتعاد من الأساليب الممجوجة، والنمطية والتقليد.

تأثرت السينما الإيرانية في بداياتها بالسينما الهندية، لتنتهج في ما بعد خطاً مستقلاً، يعبّر عن هويتها الخاصة، على الرغم من محاولة السلطات في ذلك الحين الضغط على المنتجين للإتجاه بالسينما الإيرانية نحو الغرب، وتقليد السينما الأميركية. وقد كان هذا تحديداً في فترة ستينات القرن الفائت، حيث ظهرت موجة جديدة من المخرجين الإيرانيين الذين إبتدعوا تقنيات جديدة في السينما غير آبهين بالنقد الإجتماعي لهم. ومن أهم أفلام تلك الفترة، فيلم البقرةإنتاج العام 1969، الذي أخرجه داريوس مهرجوئي، والذي حصد العديد من الجوائز على الرغم من قرار منع عرضه من قبل سلطات الرقابة، بحجة أنه ينقل صورة غير عصرية عن إيران.لا سيما وأن داريوس مهرجوئي الذي صوّر فيلم البقرةكاملاً داخل قرية إيرانية، كان قد إعتمد أسلوب الواقعية الجديدةالذي إنتهجته السينما الإيطالية منذ العام 1943، والذي يستند إلى نقل حياة الفقراء والطبقة العاملة إلى الشاشة الكبيرة بواقعيتها، من خلال إختيار مواقع التصوير الحيّة، وترجيحها في الغالب بممثلين غير محترفين في أداء الشخصيات الرئيسية، والتي أحياناً قد تغني عن الأسماء اللامعة والمشهورة.

السینما الإیرانیة والثورة الإسلامیة

ترى صحيفة الصباحالمصرية أن اهتمام الشاه محمـد رضا بهلوي بالسينما في عهده ساعدها على التميّز بالعصرية والإنفتاح على الغرب، حيث كانت السينما في خمسينات القرن العشرين إمتداداً إلى أواخر سبعيناته، أي قبل الثورة الإسلامية، تتميز بطابع مختلف تماماً عن السينما بعد الثورة، فكانت الموضوعات أكثر إنفتاحاً، ولم تكن هناك رقابة صارمة على الموضوعات والمشاهد التي يتضمنها الفيلم، فكثير من الأفلام كانت تمتلئ بالمشاهد الساخنة، وكانت أزياء الفنانات أقرب إلى الممثلات الاوروبيات والأميركيات. فلم يكن هناك مانع من ظهور الممثلات عاريات في بعض الأحيان.

هذا الواقع، واقع السينما في عصر الشاه الذي كان يؤسس لسينما عالمية، على الرغم من المعوّقات التي كانت تضعها أجهزة الرقابة أيام بهلوي، ماذا بقي منه بعد الثورة الإسلامية التي قادها من فرنسا الإمام الخميني في العام 1979، وأطاحت الامبراطورية الفارسية، لتحل مكانها الجمهورية الإسلامية؟!

الإمام روح الله الخميني: إستخدم السينما لنشر أفكار ثورته
الإمام روح الله الخميني: إستخدم السينما لنشر أفكار ثورته

سؤال يبدو أن طرحه فيه الكثير من الرومانسة والتفاؤل، ولا سيما أن ثورة الإمام الخميني لم تطح فقط الشاه وأركان حكمه، بل أطاحت أيضاً الوجه الحضاري والعصري لإيران التي كانت في سباق مستمر مع اللحاق بالتطور، لوضع نفسها كواحدة من القوى الإقليمية العظمى في المنطقة.

جاءت الثورة الإسلامية، لتفكك أوصال الحضارة الفارسية المتجذّرة في عمق التاريخ منذ قورش الكبير باني الإمبراطورية (القرن الخامس قبل الميلاد)، وزرادشت واضع فلسفة الحقيقة (القرن السادس قبل الميلاد)، مروراً بالحقبات المتعاقبة التي انتصرت فيها إمبراطورية الفرس على إمبراطوريات عديدة في المنطقة، ومنها: الإمبراطورية البيزنطية وقائدها هرقل الجبار الذي انكسر على أيدي العسكر الفارسي الساساني عند أبواب القسطنطينية. إلى ذلك، جاءت الثورة الإسلامية لتفكك أوصال السينما الإيرانية، بدءاً من إصدار الفتاوى الكثيرة التي إعتبرت الفنون ومنها السينما، صناعة شيطانية ويجب محاربتها، مروراً بإضطهاد نجمات السينما الإيرانيات، وإبعادهن أو محاكمتهن.الأمر الذي دفع البعض للقيام بحرق دور العرض في العديد من المحافظات الإيرانية، وكانت أشهر تلك الحوادث حريق سينما ركس آبادان، التي أشعل الثوار النيران فيها، وفقد أكثر من 500 شخص حياته.

حين إكتشف أهمية السينما كسلاح ترويجي، سرعان ما بدأ الإمام الخميني يستخدمها كأداة لتأصيل أفكار وتوجهات الثورة الإسلامية في نفوس الشعب الإيراني. فبدأت الدولة تنتج أفلاماً تحت إسم الدفاع المقدّس، التي تهدف إلى دعم السينما الحماسية والثورية، فكانت في البداية تقتصر على أفلام الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988)، ثم بدأت تشمل أفلام الدفاع عن القضية الفلسطينية والقدس، وحتى الآن يقام مهرجان سينما الدفاع المقدسمرة كل عامين.

اللافت أن كبار المبدعين الإيرانيين الذين صنعوا إسم وشهرة السينما الإيرانية، إنتهوا إما إلى الهجرة والعمل خارج وطنهم، أو إلى منع أعمالهم من العرض.

 المخرج عباس كياروستامي: من المخرجين الإيرانيين البارزين
المخرج عباس كياروستامي: من المخرجين الإيرانيين البارزين

في سياق الثورة الإسلامية وتداعياتها على صناعة السينما في إيران، تقول الباحثة الإيرانية فاطمة برجكاني في كتابها السينما الإيرانية تاريخ وتحديات“: “واصلت السينما الإيرانية طريقها التصاعدي من حيث عدد الأفلام من جهة، ومن حيث نوعها من جهة أخرى، وصولاً الى أواخر السبعينات من القرن العشرين التي أحدثت الثورة الإسلامية (1979) تغييراً كبيراً في إيران على المستويات الإجتماعية والثقافية والفنية كما معظم الثورات العالمية. واليوم بعد أكثر من ثلاثين سنة من الثورة الإسلامية نرى حضوراً قوياً وناجحاً للسينما، ليس فقط في المهرجانات الدولية، بل خارج إطارها أيضاً“.

وتتابع برجكاني: “إذا كانت السينما الإيرانية بعد الثورة لا تزال تعتبر شابة، لكنها مرّت بتجارب صعبة ومهمة وتحوّلت الى قسم جدي في الثقافة الإيرانية الى جانب الأقسام الأخرى كالموسيقى والأدب والمسرح. وكانت هناك محاولات لإرساء الإستقرار في السينما والإنتاج في السنوات الأولى، فإستطاعت متابعة طريقها مجبرة بذلك المسؤولين على إعتبارها أمراً جدياً في العلاقات العالمية“.

أما الحرب الإيرانية العراقية التي بدأت سنة 1980 وامتدّت ثماني سنوات، (تتابع الباحثة برجكاني) فلم تؤدِّ الى توقف السينما، بل أصبحت مادة إضافية لها، وأحدثت نوعاً من سينما الحربسُمّي سينما الدفاع المقدسلكن هذا النوع لم ينتهِ بإنتهاء الحرب، بل إستمر بعدها، وأخذ أبعاداً جديدة أيضاً. وهكذا فإننا وبعد مرور إثنين وعشرين سنة من إنتهاء هذه الحرب لا نزال نشاهد أفلاماً جديدة من هذا النوع، كما كانت أفلام سينما الدفاع المقدس من الأفلام البارزة في المهرجانات الدولية التي تقام سنوياً في طهران.

وكانت قد تعالت أصوات كثيرة في مراحل مختلفة لممثلات مبعدات، تعبّر عن رفضهن تهميش دور المرأة الإيرانية، ومن أشهر تلك الإحتجاجات والتي أثارت ردود فعل متباينة بين مستهجن ومؤيد، هو الشريط القصير الذي صوّرته الممثلة الإيرانية الشهيرة جلشيفته فرحاني لحساب إحدى أكاديميات التمثيل الفرنسية، وتظهر فيه عارية الجسد تماماً، بالإضافة إلى نشر صورتها عارية الصدر على غلاف مجلة لو فيغارو“.

وكانت السلطات الإيرانية قد منعت فرحاني من دخول إيران رداً على مشاركتها في فيلم “Body of lies” أو جسد الأكاذيبفي العام 2008 مع ليوناردو دي كابريو وراسل كرو، حيث ظهرت بلا قميص، لكنها غطت نهديها بيديها في أحد المشاهد. وقد إشتهرت جلشيفته فرحاني في أول عمل سينمائي لها من خلال فيلم تحت عنوان شجرة الإجاص، من إنتاج العام 1997 للمخرج الإيراني المعروف داريوس مهرجوئي، وحصلت على جائزة فيلم الفجر، وهي كانت لم تبلغ 14 ربيعاً من عمرها، كما حصدت جائزة أفضل ممثلة في ثلاث قارات في مهرجان نانت بفرنسا عن فيلمها البوتيك“.

لكن، وعلى الرغم من تهميش المرأة في السينما الإيرانية، ووضع الكثير من القيود على المواضيع المطروحة للمعالجة في سياقها الدرامي ومراعاة الحالة الإسلامية التي تسيطر على كافة مفاصل الحياة، إستطاعت مجموعة من المواهب السینمائیة الشابة، مثل محسن مخملباف، وابراهیم حاتم کیا، ومجید مجیدي، وأبوالفضل جلیلي، إلى جانب بعض المخضرمين من الحقبات السابقة مثل عباس کیارستمي، وبهرام بیضایي، وداریوس مهرجوئي، تخطّي تلك القيود والمعوّقات عبر إعادة مَنتّجَةالأفلام لتتلاءم مع المناخ الإسلامي السائد، والذي بدأ يقترب شيئاً فشيئاً من الإنفتاح والتسامح والتنازل عن الكثير من الأفكار الدينية المتزمتة، التي أوصلت المجتمع الإيراني إلى حالة من الحصار النفسي والإنهيار الإقتصادي، وبدأت تبشّر بثورة مضادة قد تقلب الجمهورية الإسلامية رأساً على عقب، ثورة لا تقل خطورة عن تلك التي بدأها الإمام الخميني منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى