رَقْمَنَةُ “العشاء الأَخير” لتخليده

النسخة الـمُرَقْمَنَة الـمُتاحة للجميع في العالَم

هنري زغيب*

يتطوَّر هذا العصر. يتطوَّر في سُرعة مذهلة. والأَجملُ من تطوُّره: مصاحبةُ الذاكرة لحفْظه. من هنا بلوغُ التكنولوجيا درجةَ الرَقْمَنَة، بتحويل كل وثيقة أَو صورة أَو مادة ورقية إِلى نسخة رقمية، أَولًا تحفظه، ثانيًا تُسَهِّل بلوغه، ثالثًا تُصبح في متناول الجميع، رابعًا تظلُّ باقيةً جيلًا بعد جيل من دون الخوف على اندثارها مع مرور الزمن.

خطرُ الاندثار هذا، أَصاب رائعة ليوناردو دافنتشي الأَصلية “العشاء الأَخير”، التي رسمها بين 1494 و1498 بقياس 460 سنتم عُلُوًّا و8،80 سنتم عرضًا. وكان وضَعَها على دفعاتٍ – مع فترات استراحة بين كل دفعة وأُخرى – راسمًا إِياها بتكليف من لودفيكو سْكورزا دوق ميلانو. وهذه الجدارية الأَصلية لا تزال في موضعها منذئذٍ: جدار غرفة الطعام لدى دير سيدة العطايا الدومينيكانيّ في ميلانو. ويُجمع النقاد ومؤَرخو الفن على أَنها “أَشهر لوحة في التاريخ”.

تفصيل من الظلال والخطوط الدقيقة

خطأُ ليوناردو أَم خطيئتُه؟

الجدارية تمثِّل آخر مرة تناول المسيح العشاء مع تلاميذه الاثني عشَر، وخلاله قال لهم إِن واحدًا بينهم سيخُونه (وبالفعل كان يهوّذا الإِسخريوطي – يوضاس – هو الذي سلَّمه إِلى اليهود لقاء ثلاثين فضية، حيت قبَّله في بستان الزيتون كي يتعرّف به  الجنود فيعتقلوه).

وقبل أَن يضع ليوناردو هذه الجدارية الفريدة، عاد إِلى مراجع كثيرة ومصادر معلومات، ثم وضع لها عشرات المخططات بالقلَم. وحين بدأَ بالتلوين تخلَّى كلِّيًّا عن طريقته التقليدية في رسم جدرانياته السابقة، فوضع طبقتَين من الأَلوان الزيتية والتمْبْرا (أَلوان يخالطها زلال البيض) وبينها الأَلوان الذهبية والفضية التي رغب بها ليوناردو أَن يعطي انطباعًا للوجوه في اللوحة أَكثر واقعيةً، مع سائر التفاصيل فيها، ورسَمها مباشرةً على الجفصين الطريّ، ما أَذى اللوحة بالتشقُّق بعد جفاف الجفصين على حائط غرفة الطعام بعد بضع سنوات من إنجازها، فعمد مسؤُولو الدير سنة 1652إِلى وضع باب خشبي عالٍ يغطِّي التفتت الذي أَصاب قدَمَي المسيح في اللوحة. فمع مرور الزمن اتّضح أَن تلك الطريقة قصَّرَت من عمر الجدارية، وأَسهمت في بدايات اندثار الألوان والخطوط، ما استوجب ترميمها منذئذٍ أَكثر من مرة.

التلميذ المنقذ

ولأَجل إِنقاذ هذا العمل الخالد، قام تلميذٌ لليوناردو، هو جيوفاني أَنطونيو بولترافيُّو (1466-1516) فأَعاد رسم الجدارية على قماشة كبرى – بأَمانة تامة – مستخدمًا الطريقة التقليدية في رسم الزيت على القماش، واستعاد تفاصيل كان أَصابها التَحَتُّت، منها: جرنُ الملح قرب يد يوضاس اليُمنى، والظلال تحت أَرغفة الخبز، وصفاء الخمر في الكُؤُوس، وطيَّاتُ أَصابع الرُسُل، وصندل المسيح وأَصابع قدَمَيه التي كان غطَّاها الباب الخشبي في جدار الدير.

وإِنقاذًا عصريًّا تكنولوجيًّا هذه الجدارية الخالدة، بادرت “الأكاديميا الملَكية للفنون” في لندن، تعاوُنًا مع الدائرة الفنية والثقافية في شركة غوغل، إِلى رقمنة نسخة بولترافيُّو، وتاليًا بات يمكن تأَمُّلُها مليًّا في أَيِّ مكان من العالم، على شاشة الكومبيوتر أَو اللوح الذكي أَو الهاتف المحمول، كما يمكن تكبيرُها لتَأَمُّل تفاصيلها الدقيقة وبراعة ليوناردو، لأَن التكبير في الصيغة الرقمية يحافظ على اللوحة كما هي بدون إِفساد التفاصيل.

تفصيل من الأَغراض على الطاولة

حسَنات الرقْمَنَة

هكذا، مع الرقمنة، ومن دون أَيِّ سفَر إِلى أَيِّ متحف في العالم، بات ممكنًا إِنعامُ النظر مليًّا في التلميذ لوقا رافعًا إِصبعه، وفي التلميذ إِندراوس وملامح وجهه، وفي التلميذ بطرس والسكين في يده،، كل ذلك بتكبير الصورة الرقمية على الشاشة من دون أَن تخسر جودتها العالية. وهذا ما يعطي الرائي أَمام الشاشة متعةَ تقدير براعة ليوناردو بأَصغر التفاصيل الدقيقة في خطوط الجدرانية الأَصلية وأَلوانها، وهي متعة قد لا تتوفر لِمن يشاهدها في مكانها العالي مرسومةً على جدار الدير، أَو مصوَّرة في الكتب والمراجع وحتى في المواقع الإِلكترونية. وهذه ميزة الرقْمَنة التي أَصبح نتاجها في عمليات “الأَكاديميا الملَكية للفنون” نحو 300 لوحة وجدارية من العصور الفنية والتشكيلية المختلفة.

فكرةُ هذه الصيغة لدى “الأَكاديميا” جاءت بعد انتشار جائحة كورونا التي بسببها أُقفلت المتاحف حارمةً روَّادَها من زيارتها (وكانوا أَحيانًا يأْتونها من أَمكنة بعيدة وبلدان بعيدة) للتمتُّع برؤْية اللوحات الأَصلية معلَّقة على جدران المتاحف.

فضل “الأَكاديميا”

نسخة الجدرانية، كما وضعها على القماش جيوفاني أَنطونيو بولترافيُّو بقيت لدى من اشتراها حتى 1591 حين اقتناها دير الشارتريين في مدينة بافيا (جنوبي ميلانو) وبقيت فيه حتى 1793 حين بيعت بعد ضغوط النمسا على أَديار الشارتريين، فظهرَت لدى أَكاديميا بريرا في ميلانو وبقيت فيها حتى 1817 حين أُرسلت إِلى إِنكلترا للبيع، فزارها أَعضاء خبراء من “الأَكاديميا الملَكية”، ووضعوا تقارير بموجبها قررَت “الأَكاديميا” شراء اللوحة سنة 1821 بستمئة (600) جِنيه إِنكليزي (أَغلى ثمن فترتئذٍ دفَعَتْه الأَكاديميا لشراء لوحة)، ما استوجب استدعاء أَعضاء “الأَكاديميا” إِلى جمعية عمومية للموافقة على شراء اللوحة، كما ورَدَ في محضر اجتماع 11 حزيران/يونيو 1821.

هي تكنولوجيا العصر، تتقدَّم مع العصر فتحفظ لنا روائع لن تنحو بعد اليوم سنوات العصور.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى