في الذكرى 145 لتأْسيس “الأَهرام”: أَرومة لبنانية في الصحافة المصرية

سليم تقلا (1849 -1892)

بقلم هنري زغيب*

أَتخيَّلُهُما معًا، قبل 145 سنة، منصرفَين في الإِسكندرية إِلى التحضير للإِصدار، بعدما في 27 كانون الأَول (ديسمبر) 1875 نالا الإِذْن بِـإِصدار جريدةٍ سَمّياها “الأَهرام” إِجلالًا لـمصر التي تلقَّفَتْهما في ربوعها، هاربَـين من لبنان طغيانٍ بسطَتْهُ صرامةُ السلطة العثمانية على بلادهما.

لم تَـطُـل فترة التحضير سوى بضعةٍ من أَشهر حتى صدر العددُ الأَول من “الأَهرام” صباح السبت 5 آب (أغسطس) 1876. ووسْط فرحتهما بهذا الإِنجاز الكبير، لم يَحدُسا أَنهما أَطلقا جريدةً ستكون بعُمْرها المديد أَوّلَ وأَهَمَّ جريدة، مصرية خصوصًا وعربية عمومًا، وأَنها ستكون عميدةَ الصحف العربية على الإِطلاق. كلُّ ما كانا يُحسان به أَنهما يَنعمان بالحرية في ربوع مصر التي استقطبَت في ذاك الربع الأَخير من القرن التاسع عشر كوكبةً مباركة من اللبنانيين، فاتحةً لهم آفاقًا نبيلةً من الوساعة الرحبة في التفكير والتعبير، ما لم يكن مُتاحًا لهم في بلادهم. وسرعان ما كان لهذه الجريدة الشابّة تأْثيرُها في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية فَحَوَّلها الشقيقان يوميةً بعد فترةٍ من صدورها أُسبوعية صباح كل سبت.

الحلم الذي تحقق

هكذا تحقَّق حُلم الشاب اللبناني سليم تقلا يوم غادر بلدته اللبنانية كفرشيما سنة 1874 إِلى الإِسكندرية: أَن يُنشئَ جريدةً ومطبعة، حتى إِذا التحق به بعد أَشهرٍ شقيقُه بشارة، تمكَّنا معًا من تحقيق الحلم. كان القدرُ قاسيًا على سليم: خطفه الموت سنة 1892 شابًّا في الثالثة والأَربعين، فأَكمل المسيرةَ شقيقُه بشارة حتى قصفه القدر القاسي سنة 1901 عن تسعة وأَربعين عامًا. لكنّ قدَر “الأَهرام” كان أَقوى من السقوط في الموت، لأَن مصر كانت تنعم بحُكم الخديوي إِسماعيل الذي أَنشأَ في مصر نهضةً غنيةً في ميادين الإِدارة والاقتصاد والعمران.

هكذا طموحُ ذينِك الشقيقَين بترسيخ تلك النهضة تجلّى في إِبعاد “الأَهرام” عن اللغة المُترهِّلة الطالعة من زمن الانحطاط، واعتمادِ الرصانة في اللغة والأَخبار، واحترامِ قرّاء راحوا يزدادون في مصر وبلاد الشام، متابعين جريدةً ناشطةً تغذِّيها ثقافةُ ناشـرَيها الشقيقَين وحرصُهما على تقديم الأَفضل كلّ يوم، ما سيجعل طه حسين يراها لاحقًا “ديوان الحياة المعاصرة”.

بشارة تقلا (1852 – 1901)

ذاك كان قدَر “الأَهرام”: أَن تكون هَـرمًا نابضًا في ظل الأَهرام التاريخية الجليلة، حتى إِذا انتقلَت إِلى القاهرة واصلَت رسالتها، يحمل شعلتَها لبنانيون آخرون بدءًا من ابن بعلبك الشاعر خليل مطران، فابن يحشُوش الكسروانية الصحافي داود بركات الذي وسَّع آفاقَها لتُصبح أَكبر جريدة في الشرق الأَوسط. ولدى غيابه سنة 1933، واصل نهضتَها ابنُ بكفيَّا أَنطون الجميِّل جاعلًا إِياها قطب الحياة السياسية والفكرية والثقافية في مصر وسائر العالم العربي. وتلاه في رئاسة تحريرها سنة 1948 ابنُ بيروت عزيز ميرزا حتى 1955، ثم تولّى تحريرَها بعده مصريون مسؤُولون واصلوا رسالة الجريدة بأَمانة ومسؤُولية عاليتَين.

الورشة الصحافية

داود بركات (1868 – 1933)

كانت مصر تلك الحقبة تشهد ورشةَ نهضةٍ صحافية وأَدبية كبرى، ساهم فيها لبنانيون أَحبُّوا مصر فبادلَـتْهم مصرُ هذا الحب، وأَثمر التفاعُل بينهم وبينها مسيرةً غنيةً بالتراث الفياض. وفي ظِل “الأَهرام” الـمَهيبة أَكمل لبنانيون تحقيقَ طموحاتهم فنما “مقتطف” يعقوب صرُّوف وفارس نمر (1876)، وظهَر “هلال” جرجي زيدان (1892)، وانبثـقَت “روز اليوسف” (1925)، وازدهرت أَقلامٌ وأَفكارٌ ورؤًى مع اللبنانيين سليم سركيس وطانيوس عبده ويوسف الخازن وشبلي الشميّل وفرح أَنطون وابراهيم اليازجي ومي زيادة ووردة اليازجي وآخرين كثيرين من الأَرومة اللبنانية الباسقة، ظلَّلَتْهم “الأَهرام” بجلالها، مُواصِلةً شَقَّ المسار إِلى المسيرة، في عُهدة لبنانـيّـين من وزن ابن زوق مكايل حبيب جاماتي وابن عشقوت الشيخ نسيب وهَيبة الخازن وسواهما، قبل أَن يتولَّاها مصريُّون مُـتَـنَـوِّرُون نهضوا بها في جدارة عالية.

هكذا الزمنُ الصحافي اللبنانيّ في مصر: افـتـتحتْه “الأَهرام” منارةً باسقةً شعَّت على مصر وسائر الشرق العربي، وشقَّت طريقَها إِلى الخلود الذي ما زال ربـيـبَها حتى اليوم.

نهضة الأَهرام

أَنطون الجميل (1887 – 1948)

جديدةً بدأَت “الأَهرام”، وجديدةً بقيَت مدى سنواتها المديدة، من كتابة الخبر إِلى التغطية المسؤُولة. ومنذ البدايات كانت حريصةً على كلّ جديد: سليم تقلا يحرِّر المقالات الناصعة، شقيقُه بشارة يتولّى جمْعَ الأَخبار والنصوص من الوكالات وترجمَتَها عن الفرنسية. وتُـقِـرّ ربـيـبـتُـها “الهلال” بأَن الجـوّ الذي كان يـبسطه الخديوي إِسماعيل في مصر أَتاح تَفَتُّح تلك النهضة وازدهارَها. صحيحٌ أَنّ معظم اللبنانيين غادروا أَرض الأَرز طمَعًا بالأَمان والحرية في أَرض الكنانة، لكنّ للخديوي إِسماعيل إِسهامًا في ذاك التشجيع على ارتياد مصر بما أَمَّنَـه من أَجواء مريحة لصحافيين وتجار ورجال أَعمال قصَدوا مصر وأَسهموا في نهضتها. وعن “الهلال” أَيضًا أَنّ ما ساعد على انتشار “الأَهرام” في مصر وسائر الأَقطار العربية حرصُ الشقيقَين المؤَسسَين على الـمُسالَمَة والاعتدال، ما شجَّع الكثيرين من أَصحاب المناصب المصرية العليا على دَعمها وتوسيع دائرة الاشتراكات حتى بلَغ مشتركوها آلافًا زيدوا على مشتركيها من القرّاء في ربوع مصر والعرب. من هنا تَوَسُّع “الأَهرام” بفضل شبكةٍ عريضةٍ من العلاقات الداخلية والخارجية، رسميَّـتـها والخاصة، حتى إِذا انتشرَت بهذا الشكل الواسع تهافَت على دعمها أَصحابُ المؤَسسات الخاصة والرساميل الأَجنبية. وكانت “الأَهرام” تحظى برضى القنصلية الفرنسية ودعْمها وقطْف ولاء الجريدة في زمن الاحتلال البريطاني، فكانت تنقل البرقيات من وكالات الأَنباء العالمية، أَبرزُها وكالة “هاڤـاس” بالفرنسية و”رويترز” بالإِنكليزية، ما وسّع دائرة الأَخبار فيها إِلى أَخبار العالم.

ولم تقتصر فرادتُها على التغطيات الواسعة بل تنصَّعت لغتُها الصحافية في ذلك الزمان، وارتفعَت عن سجَعٍ بليدٍ كان رائجًا فترتئذٍ، واعتمدَت نشْر المسلسلات القصصية فزاد إِقبالُ القرّاء على اقتنائها ومتابعة مسلسلاتها. وبين جزالة الأُسلوب بقلَم سليم تقلا، ونشاط شقيقه بشارة في إِجراء مقابلاتٍ صحافية مع رؤَساء الحكومات والوزراء وكبار المسؤُولين، كانت جديدةً عصرئذٍ على الصحافة، وباتت حاجةً يومية لقرائها أَينما كان، ما زاد في إِعلاناتها التجارية تملأُ صفحاتِـها وتغذّي إِنتاجَها. وزاد من توسُّعها في صفوف الشعب قيامُ بِـتْـسِي تقلا (تولَّت إِدارةَ الجريدة بعد وفاة زوجها بشارة) بالدعوة إِلى تحرير الفتاة العربية وإِطلاق حرية المرأَة وإِعلان حقِّها في العلْم والعمَل، والدعوة الأَوسع إِلى التآخي المذهبي بين الطوائِف والمذاهب والأَديان ونبْذِ المناكفات والصراعات الطائفية.

“أَهرام” العهد الثاني

بعد زوجة المؤَسس الشقيق كان عهد داود بركات. نَقَل “الأَهرام” من جريدة بأَربع صفحات إِلى ثمانٍ فاثنَتَي عشْرة، ما جعلها عهدئذٍ أَوسَع الصحُف انتشارًا في مصر وخارجها، بما كان بركات يمتلك من قُدرةٍ كتابية وثقافةٍ رحبة وخبرةٍ صحافية بناها منذ إِصداره جريدةَ “الأَخبار” مع الشيخ يوسف الخازن. وكان ذا نزعة أَدبية فأَنشأَ في “الأَهرام” أَبوابًا وزوايا جديدة لتشجيع التراث الأَدبي، منها “تقريظ التأْليف”، “المؤَلفون والانتقاد”، “ثمرات الأَقلام”،… وزوايا ثابتة أُخرى كانت جديدةً يومها على الصحافة. وزاد من المصداقية فـتْـحُ داود بركات صفحاتِ “الأَهرام” لدعوات الفضيلة يُطْلقها علماءُ الأَزهر لنشْر قِــيَـم الإِسلام الخلُقية، ولتبنّي الجريدة سائرَ القضايا الدينية السامية.

بعد داود بركات تولى المسؤُولية أَنطون الجميّل، خطيبُ ذاك العصر والاسمُ الرائج في الصحافة، وكان قبلذاك اكتسبَ خبرةً من تحريره “البشير” في بيروت، ثم إِصداره “الزهور” (1910) في القاهرة مع أَمين تقي الدين، فنقَل “الأَهرام” إِلى حقْبة زاهرة من مجدها الصحافي والأَدبي، وجعل مقرَّها ملتقى كبار المصريين السياسيين والمثقَّفين. نال الجنسية المصرية وانتُخب عضوَ مجلس الشيوخ المصري، وعضوَ المجمع اللغوي في مصر والمجمع العلْمي في دمشق، وكان وفيًّا لِـمصر فمنحَتْه لقب “باشا”.

وغنِمت “الأَهرام” من أَبناء الأَرز خبرة جُلَّى بين تحرير حبيب جاماتي وابن عبَيه نجيب كنعان وافتتاحيات نسيب وهيبة الخازن وآخرين، فبسطت جناحَيها على مدى وسيع من الزمن الصحافي المبارك، وواصلت تأَلُّقها الصحافي في سماء مصر وفضاء العالم العربي.

تلك حكاية النجاح اللبناني في مصر، نسج خيوطَها الأُولى شقيقان من كفرشيما: سليم وبشارة تقلا فحقَّقا حُلمًا جميلًا بدأَ في الإِسكندرية سنة 1875 ولم يُدركا يومها أَنَّه سيمتدُّ بعدَهما قرنًا ونحو نصف القرن، فتعلو”أَهرامُهما” هرَمًا آخر تعتز به مصرُ خلودًا وثباتًا. حسبُهما أَنهما أَدَّيا الوفاءَ للبنان والولاءَ لمصر، فحفظ لبنانُهما وفاءَهما، وبسطت مصرُ ولاءَهما على تاريخها الحديث مؤَسَّسَةً ناهضةً نبيلةَ السُطوع على إِرث مصر كما على تراث لبنان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يصدر هذا المقال في “أَسواق العرب” توازيًا مع صدوره في جريدة “النهار” – بيروت (موقع “النهار العربي”).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى