مِنَ التَرسيمِ تُولَدُ الحكومة

بقلم راشد فايد*

“مَنَحَ” الإنفجار في مرفأ بيروت، يوم 4 آب (أغسطس) الفائت، لبنان فرصةً للخروج من عزلته، حملتها مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته الأولى للبنان، وأكّدها في زيارته الثانية. بدا واضحاً، في الزيارتين، أن التحرّك الفرنسي مُنَسَّق مع واشنطن، و”مُتسامَح” معه من طهران، ومُبارَك من إسرائيل، و”مُحَلَّل” من الرياض.

كاد وهج المبادرة أن يخبو بفعل المناكفات الداخلية المعهودة، والصغائر السياسية المُعتادة، بينما كانت العقوبات الأميركية تنتج ولادة ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية بلا “لمسة” فرنسية، ما أثار نفرة في قصر الأليزيه، جدّدت حرص ساكنه على تلميع دور بلاده في المنطقة عبر بوابة لبنان، وهي الوحيدة، وتكاد تكون اليتيمة عربياً، ولا مجال لذلك من دون تشجيع قيام حكومة، تتبنّى الإصلاحات “الفرنسية”، من إنهاء معضلة الكهرباء المديدة، إلى الأزمة النقدية، وإعادة بناء ما دمّره انفجار المرفأ، وانعقاد مؤتمر “سيدر” لدعم لبنان. ويزيد من “فداحة” الإساءة” إلى الدور الفرنسي “المُشتَهى” أن لباريس مصلحة في الترسيم لأنها “شريك” في استخراج الطاقة البحرية اللبنانية عبر شركة “توتال” الفرنسية العاملة في “البلوك” رقم 9، تحديداً.

زاد في الغصّة الفرنسية، أن باريس لم تُقصّر في إبداء غيرتها وحميتها تجاه لبنان، واحتضانها له، ربما منذ زمن الحروب الصليبية على المنطقة، واتّسم تحرّكها الحالي بحماسةٍ مُفرطة، تحديداً في أعقاب الأزمة السياسية المُستمِرّة بفضل عَفَنِ الطبقة السياسية، وعجزها عن حسن إدارة الشأن العام، وتفرّغ أغلبها لسرقة المال العام. والتحرّك النشط توضحه الزيارات المتتالية التي قام بها المسؤولون الفرنسيون إلى لبنان، ما بين زيارة وزير الخارجية جان إيف لودريان في تموز (يوليو) الماضي، ثم زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون الأولى في أعقاب الإنفجار في المرفأ، ثم زيارة وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي في منتصف آب (أغسطس)، وأعقبتها زيارة وزير الشؤون السياحية جان باتيست لوموين، وأخيراً الزيارة الثانية للرئيس ماكرون في 31 آب (أغسطس) 2020، والتي تعكس مدى الإهتمام الفرنسي بمواجهة الأزمة الداخلية.

في المقابل، كانت التركيبة السياسية تزداد تفنّناً في هدر الوقت، تحت تسميات متعددة أبرزها بدعة المشاورات الرئاسية، بعدما فشلت حكومة اللون الواحد برئاسة حسان دياب، واستعصت ولادة حكومة متوازنة برئاسة مصطفى أديب، بسبب سعي “أمل” و”حزب الله” إلى “تشييع” موقع وزير المال، و”مصادرته” للطائفة باسم ميثاقية لم تنص عليه.

عملياً، إنقضت سنة على استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، وثلاثة أشهر على الإنفجار في المرفأ، ومثلها، تقريباً، على زيارة ماكرون الأولى، ولم يتحرّك نبضٌ في الحياة السياسية، كأن اللبنانيين استطابوا لحس مبرد آلامهم، ولو استمرّ الحال على هذا المنوال، بلا حكومة مسؤولة، فإن سعر صرف الدولار لن يعرف أي سقف، وصولاً إلى الفوضى الأمنية والمعيشية والإقتصادية والإجتماعية، وقد بدأت.

بين الترسيم وأزمة الكهرباء، أُعيدت الحياة إلى المبادرة الفرنسية بتشاورٍ مباشر بين ماكرون والحريري بعدما كادت تجترّها الأيام، ويعلكها ساسة لبنان: ضمن لها الأول صمتاً إيرانياً وتأييداً أميركياً، وتعهّد الثاني تدوير الزوايا الداخلية.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى