حربُ اليمن لم تبقَ أثارُها محلّية بل تُغيِّرُ أيضاً المُجتمَعَ السعودي!

لم تؤثّر حرب اليمن في المجتمع اليمني الذي أفقرته فقط، بل هي أيضاً تؤثّر بشكل متزايد في المجتمع السعودي، خصوصاً في المناطق الجنوبية. وحتى لو توقّفت الحرب، ستستمر آثارها في الداخل السعودي لفترة أطول.

 

الحوثيون: إستخدموا سكان الحدود في المملكة لصالحهم

بقلم أحمد ناجي*

لا تَنحَصرُ انعكاسات حرب اليمن على المجتمع اليمني فحسب، بل تطال أيضاً المجتمع السعودي الذي بات يتأثر بتطورات هذا النزاع وديناميكياته. فما يحصل على الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية وما وراءها، لم يُغيّر أحوال اليمنيين وحدهم وإنما السعوديين أيضاً، خصوصاً قاطني مناطق الحدود الجنوبية السعودية، إذ تغيّرت حياتهم بشكل كبير من النواحي الأمنية والإجتماعية والإقتصادية. وفي ظل الحديث عن مفاوضات بين السعودية وحركة “أنصار الله” (الحوثيون)، والتي قد تقود إلى تفاهمات سياسية وعسكرية، ستظل مفاعيل هذه الأحداث تُشغِل حيّزاً كبيراً في التصوّر العام للمجتمع السعودي، حتى في مرحلة ما بعد الحرب.

منذ إعلان السعودية دخول الحرب في اليمن، يبرز تفاعل سعودي كبير على شبكات الإعلام الاجتماعي، يتناول الأوضاع ومُجرَيات الأحداث اليمنية. يأتي هذا التفاعل كصدى لزيادة حجم اهتمام المجتمع السعودي بما يدور في اليمن. يترافق ذلك مع نقاشات مستمرة واسعة بين يمنيين وسعوديين حول تفاصيل الحرب وآفاقها، وكيف يقرأ المجتمع السعودي حالة الحرب التي تُشارك فيها السعودية ضد الحوثيين. ورغم أن الخطاب السائد لدى معظم النشطاء السعوديين يتطابق مع توجه الدولة السعودية، لاعتبارات يتعلق أحدها بالرقابة الشديدة المفروضة على هذه المنصّات التي لا تسمح بأي صوت مُعارض – إلّا أنها تكشف مدى إقبال المجتمع السعودي على متابعة أخبار اليمن في السنوات الأخيرة، التي صارت تمسّ معيشتهم بشكل مباشر.

فعلى سبيل المثال، أثّرت النفقات الاقتصادية الكبيرة التي تكبّدتها المملكة، بشكل واسع في المجتمع السعودي، تمثّلت برفع الضرائب، وزيادة تعرفة بعض الخدمات، وارتفاع أسعار المُشتقّات النفطية، كما أدت الهجمات العسكرية الصاروخية، التي نفّذها الحوثيون صوب الداخل السعودي إلى قلقٍ أمني مُستمر لدى المواطن السعودي، دفعت الكثير من السعوديين إلى التفاعل الدائم مع أحداثها. ومع غياب القدرة على توجيه أيِّ نقد تجاه دولتهم أو التعليق السياسي على سياساتها، تركّزت كتاباتهم على خصوم السعودية، مع انحسار النقد بحق الأطراف اليمنية المدعومة من الرياض من زاوية عدم جديتها وعجزها عن تحقيق انتصارات. لقد أنتجت الحالة اليمنية كُتّاباً سعوديين ناشئين الذين تعاملوا مع الحدث كموضوعٍ آمن للكتابة والتعليق السياسي – شرط أن يتبنّوا الرواية الرسمية.

في فترة ما قبل الحرب، كانت هناك حالة من الغياب التام للوضع اليمني في حياة السعوديين، خصوصاً مع التعقيدات التي فرضتها السعودية تجاه دخول اليمنيين إلى أراضيها في العقدين الأخيرين، لكن الأمر تغيّر خلال فترة الحرب، فقد برز العديد من الكتاب والناشطين السعوديين الذين باتوا يُلبّون حاجة المجتمع السعودي لسرديةٍ غير رسمية لأحداث الحرب في اليمن. كما صار للعديد من الإعلاميين اليمنيين الذين يُغطّون الحرب، متابعون كثر من الداخل السعودي. أيضاً، يُعزّز رجال الدين السعوديون في المساجد والجلسات الدينية، الخطاب الرسمي عن الحرب في أوساط المجتمع السعودي. وهو خطابٌ يُعزّز حضور الهوية الوطنية السعودية، ويُروّج لقدرات الأسرة الحاكمة على إدارة ملف الحرب في اليمن. كما تستفيد المؤسسات الإعلامية السعودية من هذه الأحداث في التسويق لشخصية المواطن السعودي المُخلص للوطن وحكامه.

لكن تكمن الحلقة الأضعف في المناطق الجنوبية المُحاذية للحدود مع اليمن، والتي أعادت الحرب تشكيلها ديموغرافياً وعسكرياً. فعند اندلاع الحرب في آذار (مارس) 2015، نقلت الحكومة السعودية العديد من سكان القرى الحدودية إلى المدن الداخلية، ما حوّل العديد من الحواضر الحدودية إلى مناطق مهجورة. تَرافقَ ذلك مع خطةٍ سعودية لعَسكَرة هذه المناطق، وتحويلها إلى ما يشبه المناطق العازلة. تمتد هذه المناطق إلى الداخل اليمني على طول شريط الحدود، بعمق يتراوح ما بين 10 إلى 40 كيلومتراً، باتجاه المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. والهدف من ذلك ضمان عدم حصول أي اختراقات أمنية باتجاه الأراضي السعودية، وخصوصاً مع طول أمد المواجهات البرّية مع الحوثيين.

هذا التحوّل في الاستراتيجية السعودية نحو مناطقها الجنوبية، هو أحد العوامل المؤثرة في حياة قبائل هذه المناطق. قبل المواجهات العسكرية مع “الحوثيين”، كانت السعودية تعتمد بشكل كبير على هذه القبائل، في الجانبين اليمني والسعودي، لتأمين الشريط الحدودي الطويل. لكن النشاط العسكري للحوثيين في الجزء اليمني من الحدود، وتعاون بعض سكان الحدود السعودية معهم لاعتبارات تتعلّق بالصلات الاجتماعية والمذهبية، دفع الرياض للإنخراط في الحرب ضد الحوثيين في العام 2009. وقد كشفت الحرب هشاشة الوضع الأمني في هذه المناطق، ودفعت السعودية حينها لفتح حدودها للجيش اليمني لمحاربة الحوثيين من الداخل السعودي، في حين تولّت توجيه ضربات جوية.

وعلى الرغم من اعتماد السعودية في حربها الحالية على المُجنّدين اليمنيين، الذين تقدرهم بعض المصادر ب60 ألف مقاتل، يتوزعون على مختلف الجبهات الحدودية، إلّا أنهم ليسوا سوى خط دفاع أول، من خلفهم العديد من الوحدات العسكرية والأمنية التي دفعت بها السعودية للقيام بمهمة تأمين وحماية أراضيها. وقد خسرت المملكة العشرات من قواتها في هذه المناطق بسبب الاشتباكات المستمرة أو قذائف المدفعية الآتية من مناطق سيطرة الحوثيين.

قرابة نصف الجنود السعوديين في هذه المعارك هم من سكان المناطق الغربية الحدودية، لا سيما منطقة جيزان، ممن تعتمد عليهم السعودية بشكل كبير. الواقع أن هذه الخسائر البشرية انعكست على الحواضن الاجتماعية. رغم تمجيد الحكومة السعودية لتضحيات جنود “الحد الجنوبي”، إلّا أن انعكاسات الأكلاف البشرية تركت أثاراً بالغة على مستوى ووضع المملكة، خصوصاً أن الاستقرار العام في السعودية كان هو السمة الرئيسة في العقود الأخيرة.

ومع اشتداد المعارك في بعض الجبهات الحدودية، أُغلقت الكثير من الأسواق التجارية التي كانت شريان حياة لهؤلاء السكان، كما أن إقفال المنفذ الرئيس مع اليمن في منطقة الطوال السعودية، أدى إلى خسائر اقتصادية كبيرة للسكان السعوديين في المناطق المحيطة. في المقابل، تحوّلت حركة العبور صوب منفذ الوديعة الذي يقع في منطقة نجران، المُقابل للمناطق التي تسيطر عليها الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً. إنتعشت هذه المنطقة بسبب النشاط التجاري الكبير بين اليمن والسعودية، خصوصاً مع الحصار الجزئي المفروض على العديد من المنافذ والموانئ اليمنية. إستفاد سكان منطقة نجران من هذا التحوّل الإقتصادي، سيما بعد دخول العديد من رؤوس الأموال اليمنية للإستثمار في المناطق السعودية التي تقع خلف هذا المعبر الحدودي.

أدّت هجرة السكان من بعض الجيوب الحدودية، وظهور فُرَص اقتصادية في مناطق حدودية أخرى، إلى نشوء مسارات تواصل بديلة بين مجتمعات هذه المناطق، ومعها زادت وتيرة الحركة غير الرسمية على طول الشريط الحدودي الممتد لأكثر من 1400 كيلومتر، وهي مساحة شاسعة يصعب إدارتها.

من دروس الحرب أن التأثير التي أرادت السعودية أن تُحدثه في اليمن طال أيضاً سكان مدن المملكة وقراها، وأن التحولات التي يُحدثها هذا النزاع في ذهنية المجتمع السعودي، ستبقى حاضرة بقوة خلال الفترة المقبلة. حتى وإن انتهت الحرب، فإن أمام السعودية الكثير من التأثيرات الداخلية التي تولدت كنتيجة طبيعية لطول أمد النزاع في اليمن.

  • أحمد ناجي باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث تتركز أبحاثه على الشؤون اليمنية. يُمكن متابعته على تويتر: a7nagi@

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى