“الهيركات” ساحة المواجهة اللبنانية مع صندوق النقد الدولي

بقلم فيوليت غزال البلعة*

على وقع إعادة فتح الإقتصادات التي أغلقها فيروس “كوفيد 19” لنحو ثلاثة أشهر، يترقّب العالم بقلقٍ مصير العلاقة المُتوتّرة بين أكبر إقتصادين في العالم (أميركا والصين) واشتداد حماوة الصراع على طول خط التواصل المقطوع ما بين واشنطن وطهران وامتداداته الشرق أوسطية وارتداداته التي شهدت زحمة ناقلات نفط إيرانية في موانئ فنزويلا. القلق ينبع من الأشكال الجديدة للنزاع على مراكز النفوذ الطارئة على الخريطة السياسية وتلك التي حفظت مواقعها رغم كل المُتغيّرات.

لحظات حرجة يمرّ بها العالم، ويترقّب تداعياتها صِدامات تتّخذ أشكالاً غير عسكرية في زمن التباطؤ الإقتصادي، وخصوصاً أن واشنطن لجأت منذ أعوام إلى سياسة “حرب العقوبات” كونها أفعل وأقل كلفة. وضمن الحلقات الأضيق، يقع لبنان تحت ضغط المُعسكرَين اللذين يتواجهان على وجهته الجديدة: نحو الشرق، حيث العقوبات تُحاصر الإقتصادات من روسيا مروراً بالصين وإيران وسوريا وصولاً الى فنزويلا، وحيث للأنظمة الحاكمة حضورٌ قوي ومُقرِّر في الحياة الإقتصادية والمُجتَمَعية. أو نحو الغرب، حيث الليبرالية هي العنوان الذي يحترم الحريات والملكيات الفردية والجماعية، وحيث ترعرع لبنان منذ نشأته وعرف فترات ازدهاره ونموّه قبل سقوطه في فخّ حروب الآخرين التي قادته من رعاية إلى أخرى، حتى بلغ به الحال ليطلب مساعدة المجتمع الدولي مُتمثِّلاً بصندوق النقد الدولي بعدما وصل تقهقره الى ما “تحت الصفر”.

في ظل صراع المُعسكرَين، خطا لبنان على طريق “الألف ميل” نحو صندوق النقد. في الجلسات الثماني، إلتزم وفد الصندوق “عدم الإفصاح” عن مشاعره حيال “خطة التعافي المالي”، لكنه تساءل عن “تفاوت” أرقام الخسائر المُقدَّرة من خطة الإستشاريين ومن عرض مصرف لبنان، وأيضاً من اقتراحات جمعية المصارف. إستفهامٌ ومطالبة: أين الإصلاحات؟ في الكهرباء أولاً، ثم في التعيينات القضائية والمالية، وليس أخيرا في ضبط التهريب غير الشرعي عبر المعابر المُتسلّلة الى أسواق سوريا السوداء.

هذا الأسبوع، سيُدلي وفد الصندوق بدلوه. إذ ستكون له مواقفٌ وآراءٌ في الحلول التي يراها “صائبة” قبل إقرار حزمة المساعدات المالية. لكنه سيكون واضحاً وقاسياً في شروطه، والتي بدأ بعضها يتحوّل “مواجهات” عند نقاطٍ مُحدَّدة، أبرزها “الهيركات” على الودائع، والذي يُعارضه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بشدّة، ويُناضل وحيداً في معركة صعبة. فالحكومة تهتم بالشكل لا بالجوهر، وتتلهّى بنشر “تسريباتٍ مُضلِّلة” عن مفاوضات لا تزال في بداياتها، بما من شأنه تعريضها لوعكة داخلية وإضعاف موقع لبنان التفاوضي، والحؤول تالياً دون حصوله على الدعم المالي بسقفه الأدنى.

ربما لا تُدرك الحكومة ومستشاروها أن أي خطة لصندوق النقد لن تُصبح نافذة من دون موافقة الحكومة ومصرف لبنان معاً. لكنها حتماً مدعوّة لتكون “رأس حربة” في ضبط المُضاربات على الدولار، إنفاذاً لاجتماع السراي السبت الماضي مع الصرّافين، ولتعهّد وزارة الداخلية بضبط السوق السوداء وتوقيف “صرافي الشنطة” وضبط التطبيقات الخادعة و”مجموعات” التسعيرة المتفلتة. فبعد تجاوزه سقف الـ4 آلاف ليرة، يُفترَض أن ينضبط الدولار عند منصة مصرف لبنان الإلكترونية التي ستنطلق قبل الأربعاء، تاريخ عودة الصرافين عن إضرابهم، حيث سيتمكّن المصرف المركزي من الإطلاع على حركة السوق للتحكّم بعملية التدخّل وضخّ العملة بعد إدخال عمليات الصرافين والمصارف (بيع وشراء) عبر المنصّة طوال اليوم.

الحكومة مدعوّة أيضاً الى تحسين علاقتها مع مصرف لبنان من أجل توحيد الرؤية والخطط الكفيلة بتنفيذ آليات الإنقاذ، بدل التلهّي باستكمال الهجمة على الحاكم وإخراج العلاقة معه عن عقالها، حفاظاً على الثقة بالمَوقِع النقدي وبالثقة الكبيرة التي يحظى بها رياض سلامة في المجتمع المالي الدولي. هذا ما شدّدت عليه السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيّا، التي أردفت “إذا لم يكن لدى هذا المجتمع ثقة بقيادة المؤسسات المالية الكبرى بالبلاد، فأعتقد أنّه لن يكون هناك أي تدفّق للإستثمار أو النقد الذي يحتاجه إقتصاد لبنان”. وأكثر، أكدت شيا أمس، أن واشنطن “عملت بشكل وثيق مع رياض سلامة على مرّ السنوات، ومن الخطأ شَيطَنة أي شخص أو مؤسّسة أو جعلهم كبش فداء للإنهيار الإقتصادي في لبنان، لأنّ ذلك نتيجة عقود من الفساد وسوء الإدارة المالية”.

كانت واشنطن واضحة وصريحة في تأكيد سياستها تجاه مصرف لبنان. ماذا عن الحكومة: هل بلغتها الرسالة واتّعَظت مما سمعته بما يكفي لإنصرافها إلى العمل بدل تعداد “إنجازات وهمية”؟

ثمّة مُهمّات كثيرة أمام حكومة على عداء مع الجميع. فالعلاقة سيّئة مع نصف السلطة السياسية، الموالية كما المعارضة، سواء على المشروع الإقتصادي الجديد أو على تفاصيل الصفقات التي يُفترَض أن تُشكّل مفتاح مكافحة الفساد. أيضاً، العلاقة سيّئة مع المصارف بعد المُخطّط التدميري لقطاعٍ يحتاج إلى إعادة هيكلة لا “تفليسة”. وكذلك، مع المواطن بعدما دفعته الأزمات نحو “أسوأ” سيناريوهات العيش بكرامة مع راتبٍ لا يكفي لآخر الشهر، ووظيفة غير مُستدامة، وتقاعد خارج اللياقة.

أيضاً، الحكومة أمام رهان نجاح لبنان في تجاوز عاصفة “قانون قيصر” الذي سيُطيح، بدءاً من منتصف الشهر، بكل مُتعامل مع النظام السوري، تاجراً كان أم مصرفاً أم مؤسسة. وهو أقوى وأفعل وأسرع من قانون “ماغنتسكي” الذي سيُطلق العنان لملاحقة الفاسدين في لبنان كما في العالم، في حملة لتطويق “حزب الله”، أحد الأذرع العسكرية للنظام الإيراني، ليترافق بذلك مع العقوبات القائمة على قنوات تمويل الحزب ونشاطه الذي تُصنّفه واشنطن إرهابياً.

فهل تتعقّل الحكومة وتتخلّى عن إنجازاتها في توسيع دائرة العداء القائمة على تسريبات وحرتقات وتلبية أوامر وطلبات؟ فلتنصرف الى ملاقاة “الهيركات” في ساحة المواجهة مع صندوق النقد أو تتعرّض هي بنفسها لـ”هيركات” في الشارع الثائر والمُهتاج.

  • فيوليت غزال البلعة هي صحافية وباحثة إقتصادية لبنانية. يُمكن متابعتها على الموقع الإلكتروني التالي والذي يُنشر عليه أيضاً المقال عينه: com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى