وسوف يصيح “الديك” وسوف تنهض بيروت

بقلم هنري زغيب*

… وفي ذكرى تأْسيس “النهار” (4 آب/أغسطس)، تَبَقَّع بالدمِ “ديكُها” (الديك رمز جريدة “النهار”) لكنه بقيَ مرفوعَ العُرف صَدَّاحًا بلبنان اللبناني.

صباحَ الجمعة 4 آب/أغسطس 1933 صدَر في بيروت العدد الأَول من جريدة “النهار” بأَربع صفحات، ومساءَ الثلثاء 4 آب/أغسطس 2020، كذلك بأَربع صفحات، ومِن بين الدمار في مكاتبها، قرَّر الزُملاء الرائِعون أَلَّا يَطْلع الصباح بدون “الديك”، فلَملَمُوا نَــزْفهم وهيَّأُوا العدد 27,205 فصدَر مُتوَّجًا بعبارة “… أَصاب “النهار” ما أَصاب الكثيرين فدُمِّرت مكاتبُها ما اضطُرَّها إِلى الصدور بهذا الشكل (4 صفحات) حتى لا تغيبَ كليًّا عن قرَّائها”.

وإِذا مقال المؤَسس جبران تويني بتوقيعه في صدر الصفحة الأُولى من العدد الأَول اختَتَمه بعبارة “إِذا لم يكُن العلاج سريعًا ناجعًا تعوَّدنا بأَنه من سوء المصير”، فالمقال الرئيس في عدد الصفحات الأَربع استعاد نَفَس المؤَسس فجاء فيه: “… “النهار” التي واجهَت جميع المراحل الصعبة تطرح اليوم الأَسئلة الصعبة عن جِدِّية الدولة في التحقيق وفي الكشف عن المسؤُولين ومعاقبتِهم من دون تسوياتٍ ولفلفةٍ سياسيةٍ اعتادها اللبنانيون”.

هكذا أَكَّدت “النهار”، ومعها حقّ، إِدراكَها أَنَّ المسؤُولين اليوم لن يكون لديهم “العلاج السريع الناجز” وأَنَّ لبنان سيَؤُول معهم إِلى “سوء المصير”.

وهكذا “النهار مستمرة” على صورة لبنان: افتَتَحَتْ سنتَها الثامنة والثمانين بإِصدار جديدها “موقع النهار العربي”، موقِنَةً أَنَّ الحياة لها وللبنان، وأَنَّ المسؤُولين جميعًا عابرون كالغيم العابر، وسيَصيح الديك كلَّ صباح وتُشرق الشمس ويَطلع النهار.

وهكذا بيروت: دمَّرَتْـها الزلازل سبع مرات (بين أَقساها: سنة 551، وسنة 1201) وكانت تَنفض الرماد من دمارها وتَنهض. واليوم أَيضًا ستنهض من دمار زلزالها الثامن وهذه المرة ستَنفض عنها لا الرمادَ وحسْب بل حفنةَ سياسيين عقيمين قادوا البلاد إِهمالًا وزبائنيةً ومحاصَصَاتيًّا وعائلاتيًّا ومحسوباتيًّا، فَتَهَرَّأَ الحكْم بسببهم عهدًا بعد عهد حتى أَحرق الزلزالُ بيروت فباتت بلا مرفأٍ هو علامتُها التاريخية منذ عصور. وإِذ وقف النَيرونيُّون على شرفات قصورهم يشاهدون بيروت تحترق، لم يجدوا سوى الاستنجاد بَكَّائين نائحين بأَصوات مصطنَعةٍ مستعارةٍ أَنَّ “لبنان منكوب” وأَنَّ بيروت صارت هيروشيما ناكازاكيَّة، وطرحوا الصوت على الدُوَل شحَّادين متسوِّلين مُطأْطِئِين رؤُوسَهم الأَصلًا معفَّرة بوُحُول الخيانات، جاعلين اللبنانيين يَتَامى وطنٍ ينتظرون على أَرصفة الفَقْر هبوطَ الإِعانات والمساعدات والتبرُّعات.

غير أَنَّ الدول الـمبادِرةَ لم تتحرك لأَجل حُكَّام فاسدين فاشلين بل إِيمانًا بشعب لبنان الرائع الذي أَبناؤُه – بأَسرعَ من أَيِّ إِجراءات “رسمية”، هرعوا من جميع مناطقه إِلى بيروت لنجدة إِخوانهم المصابين، مُدركين أَنَّ دولتهم كرتونيَّة هشة، ظاهرُها دمًى، وحقيقتُها أَصابعُ خلف الستارة تحرِّك خيطان الدمى.

ولن تكونَ الحبيبةُ بيروت شهيدةً بل شاهدةً على عبقريَّتها، وستنهض، بصلابة الشعب ستنهض، وستغسل وجهَها المدمَّى، وستسطع رائعةً كما كانت، وسوف تعود نجمةُ بيروت لؤْلؤَة لبنان اللبناني على أَرضه الأُم ووسْع فضاءَاته العالمية. والنار التي أَحرقَتْها اليوم سترتدُّ، أَكيدًا سترتدُّ، على جميع النَيرونيين فتَسحبُهم من شرفات قصورهم وتُطيحُهم، وتُواصل حضورَها البهيَّ بشهادةِ الحياة كما تُواصل “النهار” مسيرتَـها بهيَّةً بشهادة الأَربع صفحات.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني:email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو على تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العربتَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار”  – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى