الأكراد على كفّ عفريت!

أدى تدخل تركيا في شمال شرق سوريا وانسحاب القوات الأميركية إلى إضطرابات في المنطقة، الأمر الذي أجبر الأكراد على إعادة التفاوض بشأن المكاسب والتحالفات.

الأكراد نزحوا بالآلاف جراء الهجوم التركي

 

بقلم بينار تانك*

في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) تلقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الضوء الأخضر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتقدّم والدخول إلى شمال شرق سوريا. كانت هذه الخطوة نتيجة سنوات عدة من ضغط أنقرة على واشنطن للسماح بعملية تركية على منطقة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، “روج آفا”، التي يُسيطر عليها الأكراد. يتمثّل الهدف المُعلَن للحكومة التركية من عملية “ربيع السلام” بتأمين حدود تركيا وإنشاء “منطقة آمنة” طولها 30 كيلومتراً تنوي إعادة توطين بعض اللاجئين السوريين لديها، البالغ عددهم 3.6 ملايين لاجئ، فيها. وكانت منطقة شمال شرق سوريا – الواقعة تحت السيطرة الكردية الفعلية منذ العام 2012 – تشكّل شوكة في خاصرة الحكومة التركية، التي تعتبر أن الحكم الذاتي الكردي هو تهديد ضمني لسلامة أراضيها.

من جهتها، تعتبر تركيا أن “وحدات حماية الشعب” وجناحها السياسي “حزب الإتحاد الديموقراطي”، هما امتداد للجماعة الكردية الإنفصالية التركية “حزب العمال الكردستاني”، والذي تربط إيديولوجية زعيمه المسجون عبد الله أوجلان عضوياً هذه الجماعات. ومن المعلوم أن “وحدات حماية الشعب” هي المجموعة المُهيمنة في قوات سوريا الديموقراطية (قسد) التي كانت حتى وقت قريب حليفة للولايات المتحدة وتقاتل تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا. وخوفاً من تعزيز الوضع الكردي، فقد تدخلت تركيا مرتين من قبل: لدفع الأكراد شرقاً في محافظة حلب الشمالية (عملية درع الفرات في 2016-2017)، والسيطرة على محافظة عفرين وطرد الأكراد منها (عملية غصن الزيتون في 2018).

كان من المتوقع على نطاق واسع أن تحصل مواجهة أخرى، على الرغم من جهود الأكراد لمنع التدخل التركي بوساطة أميركية من خلال تقديم تنازلات تدريجية للمطالب التركية. في 7 آب (أغسطس)، تم إجبار قوات سوريا الديموقراطية على القبول بدوريات أميركية -تركية مشتركة لمنع تدخل تركي وشيك. ومع ذلك، لم يتم تحديد تفاصيل عمق ونطاق المنطقة الآمنة، وحذّر أردوغان من أن تركيا ستعمل لوحدها إذا لم تتفق الولايات المتحدة وتركيا على أشكال المنطقة الآمنة. في 11 أيلول (سبتمبر)، إنتقد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو التأخير في إنشاء منطقة آمنة في شمال شرق سوريا، ووعد بإزالة “قسد” التي يُهيمن عليها الأكراد من الهياكل الحكومية في منبج.

بعد أيام قليلة من بدء عملية “ربيع السلام” الهجومية التركية، قدرت الأمم المتحدة في 11 تشرين الأول (أكتوبر) أن 100,000 شخص قد نزحوا من شمال شرق سوريا. ومن المتوقع أن تستمر الأرقام في الارتفاع بعد الغارات الجوية والقصف على رأس العين وتل أبيض. أعلن أردوغان في 14 تشرين الأول (أكتوبر) أن قواته، المؤلفة من جنود أتراك وميليشيات مختلفة تُشكل “الجيش الوطني السوري”، ستتقدم نحو منبج التي تسيطر عليها “قسد”. وادّعى الرئيس أن التقدّم إلى المدينة التي يبلغ عدد سكانها 100,000 شخص هو محاولة لإعادة توطين المنطقة ب”العرب، والقبائل المالكة الحقيقية”. في مواجهة احتمال توسيع تركيا للهجوم إلى الجنوب والغرب، تحوّل الأكراد إلى نظام الأسد، وبالتالي، روسيا، لطلب المساعدة على مواجهة الهجوم العسكري التركي.

منبج هي الآن النقطة المضيئة التالية للقوات التركية وميليشياتها التي تقاتل تحالف القوات الكردية والسورية بدعم من روسيا. ويعكس التحوّل السريع، الذي كان لا مفر منه، في التحالفات الكردية حاجة الأكراد إلى الحماية، وخصوصاً من الميليشيات المتحالفة مع تركيا التي تخدم في “الجيش الوطني السوري” والتي لدى بعضها صلات بتنظيمي “القاعدة” و”داعش” حيث اتُهِم أفرادها بالفعل بارتكاب جرائم حربٍ مُحتَملة، بما في ذلك قتل الأمينة العامة ل”حزب مستقبل سوريا” الكردي، هيفرين خلف. ويتكوّن “الجيش الوطني السوري” من عناصر من “الجيش السوري الحر” بالإضافة إلى ميليشيات نظّمتها تركيا قبل التوغل. هذه الميليشيات لديها حسابات ثأرية لتسويتها مع الأكراد.

قررت الولايات المتحدة، التي تخشى أن تكون “عالقة بين جيشين مُتقدّمين مُتعارضين”، سحب جميع قواتعا في 13 تشرين الأول (أكتوبر). ولم يكن القرار الأميركي بالانسحاب، رغم أنه مفاجئ، مفاجأة للأكراد. القوى الإقليمية المستعدة لدعم الموقف الكردي لكسب تنازلات من قوى أخرى، عملت باستمرار على استخدام الجماعات الكردية. تاريخياً، كانت العلاقات الثنائية بين تركيا وسوريا تدور حول اتفاقات للسيطرة على تطلعات الأكراد القومية. ومع بداية الحرب الأهلية السورية، تمكّن الأكراد أيضاً من الإستفادة من موقعهم في مواجهة القوى الإقليمية. لقد أحجموا بحذر عن استفزاز النظام السوري في بداية الصراع، وفي وقت لاحق من طريق تأمين مكاسبهم من خلال التزاماتهم بمحاربة “داعش”. لقد ضحى الأكراد بآلاف الأفراد ويحرسون الآن أكثر من 11,000 سجين من “داعش وعائلاتهم، مع تصاعد المخاوف من فرار بعضهم في فوضى الهجوم التركي. حتى أن هناك تكهنات بأن قوات سوريا الديموقراطية قد تطلق سراح مقاتلي “داعش” عمداً، لكن هذا أمر لا يمكن تصوّره نظراً إلى أنهم سوف ينتقمون بشكل أساسي من الأكراد أنفسهم.

حتى وقت قريب، سمح التعاون مع الولايات المتحدة في محاربة “داعش” للأكراد بإمكانية مواصلة الحكم الذاتي مع ضمان الحماية ضد التدخل التركي. وقد أجبر فقدان دعم واشنطن وتحالفهم الحالي مع الدولة السورية الأكراد على إعادة التفاوض بشأن مكاسبهم، والتنازل عن الأرض للحماية. على الرغم من ذلك، قد تقوم الدولة السورية بمنح نوع من الإدارة الذاتية للأكراد كأداة مفيدة للتعامل مع تركيا. وقد صرح صالح مسلم، المتحدث باسم حزب الإتحاد الديموقراطي، بأن الأكراد سيطالبون “بالإعتراف بإدارة الحكم الذاتي الديموقراطي، والإعتراف بحقوق الأكراد في الدستور” في محادثات حول مستقبلهم التي ستُعقَد قريباً مع دمشق.

سيكون على روسيا، الوسيط الجديد في سوريا، منع تصعيد الأعمال القتالية المؤدية إلى مواجهة مع تركيا. وقد صرح المبعوث الروسي الخاص ألكسندر لافرينتييف في 15 تشرين الأول (أكتوبر) بأن “القتال بين تركيا وسوريا سيكون ببساطة غير مقبول … وبالتالي لن نسمح بذلك بالطبع”. إن الدور الرئيس الذي تلعبه روسيا في سوريا، إلى جانب تراجع الولايات المتحدة عن دعمها للأكراد، جعل تركيا أقرب إلى مجال النفوذ الروسي. في العام 2018، فتحت روسيا مجالها الجوي لتركيا لانتزاع السيطرة من الأكراد في محافظة عفرين. بالنسبة إلى بوتين، لقد خدم هذا التحالف مع تركيا هدفاً يكمن في إضعاف حلف “الناتو” وتقليص النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. في الوقت الحالي، ستكون العلاقة بين بوتين وأردوغان حاسمة لإيجاد حلٍّ يمنع المواجهة المباشرة. لقد دأبت أنقرة على معارضة الحكم الذاتي للأكراد، وأصرّت على أن “تركيا اتّبعت سياسة تهدف إلى الحفاظ على وحدة أراضي سوريا”. باستخدام هذا المنطق، يُمكن لروسيا أن تصرّ على انسحاب تركي بمجرد أن تُنشئ قواتها “منطقة آمنة” على الحدود التركية لعودة اللاجئين السوريين. قد يكون الحل المقبول هو إحياء بروتوكول أضنة الموقّع في العام 1998 مع روسيا كضامن. ويسمح هذا الاتفاق بين تركيا وسوريا بالتدخل التركي في حالة تعرّض أمنها للخطر. على أي حال، سيبقى وكلاء تركيا هناك ويمكن دعمهم ضد سوريا إذا لزم الأمر. بالنسبة إلى الأكراد، فإن العودة إلى حظيرة الأسد هي المحاولة الأخيرة لحماية أنفسهم فيما هم يتخلّون عن حلمهم المتمثل في الاستقلال الذاتي الذي دام خمس سنوات.

  • بينار تانك كبيرة الباحثين في معهد أبحاث السلام في أوسلو، حيث تركز على سياسات تركيا الداخلية والخارجية بشكل خاص وعلى الشرق الأوسط بشكل عام. يمكن متابعتها على تويتر: @PinarTank1.
  • كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى