أين البنك المركزي… أين الحكومة؟
بقلم عبد اللطيف الفراتي*
منذ سنوات بحّت الأصوات وهي تنادي بمراقبة تدفّق الأموال المشبوهة الواردة من قطر، وربما من غير قطر، إلى “جمعيات خيرية” وهي في الغالب لا خيرية ولا مَن يحزنون، وكان هدفها في الغالب الأعم هزّ التوازن المُجتمعي والإنتصار لجمعٍ دون آخر، والدفع نحو نمط مجتمعي غريب عن تونس، وعن الوسطية التونسية، المُنبَثقة عن الإلتزام بالمذهب المالكي، واعتدال غالب في جامع الزيتونة قبل أن يتحوَّل إلى جامعة زيتونية تلتزم بالأساليب الأكاديمية المتعارفة، نال من علميتها الكثير من الإهتزاز بعد الثورة.
وكان جمعٌ من الزواتنة لا الغالبية منهم إنحازوا بين العامين 1954 و1956 إلى صالح بن يوسف، مدركين أو غير مدركين أنه كان لا يعتمد في دعوته على الدين، بقدر ما كان يعتمد على مبادئ القومية العربية التي بشر بها جمال عبد الناصر، الذي لا يشك أحد اليوم في أنه كان لائكيا (علمانياً) في توجهاته، وقد وضع على رأس مشيخة الأزهر رجالاً بينهم وبين التطرف الديني أشواط وأشواط، ومنهم التونسي الخضر حسين والمصري الشيخ شلتوت.
وعندما انهزم التيار اليوسفي، مع ما رافق ذلك من عسف غير مُبرَّر، انحسر معه التوجه اليميني، لفائدة عصرنة توجه عقلاني وإن اتسم ببعض الشطط لم يصل حتى حدود ما بلغه في مصر قبل هزيمة 1967.
غير أن الكارثة عصفت بتونس كما عمّت البلدان العربية والإسلامية، في ظل أمرين اثنين:
1- إنفجار وسائل التواصل العصرية بما فيها أطباق إستقبال الأقمار الإصطناعية (البارابول) التي نقلت إلينا وإلى غيرنا تصورات دينية غريبة عنا تمظهرت شكلاً في اعتماد الصلاة باليدين المضمومتين بينما كان السائد هو الصلاة باليدين المرسلتين، وعمقاً في تبني مظاهر لم نعرفها من قبل، من فتاوي الجهل وتقليد التراجع الذي عرفه بصورة عامة المذهب الحنبلي، وبصورة خاصة التوجه الوهابي الذي فرض نفسه في نجد والحجاز وبالتحديد منذ 1932، وسيطرة آل سعود على الجزيرة العربية. ثم في انتشار وسائط الإنترنت بما فيها المواقع الإلكترونية، “فايسبوك”، “إنستغرام”، “تويتر”، “لينكد إن” وغيرها.
2- نجاح “الثورة التونسية” بقطع النظر عن مرتكزاتها. فقد كانت ثورة فريدة من نوعها بلا قيادة ولا فكر، والبعض يقول إنها كانت موجهة من الخارج، قام بها الذين طرحوا على هامش الطريق، وبخاصة من العمال والعاطلين من العمل والطبقات المسحوقة، واستولى عليها مَن لم يشاركوا فيها أو تحمّلوا أعباءها من قتلى وجرحى بالمئات.
ولعل هذا ما يُفسّر حصول الإسلاميين بتضحياتهم العالية، على تعويضات سخية، فيما لم تنشر حكومة حزب “نداء تونس”/ حركة “النهضة”، لحدّ اليوم قائمة الشهداء والجرحى، التي أعدّتها لجنة محايدة، تشكّلت بقانون عملت على تخليص الحرير من الشوك على مدى 4 أو 5 سنين.
وفي ظل الثورة وحتى قبل أن تنجح حركة “النهضة”، التي نالت جائزة عن ماضي تضحيات أبنائها في انتخابات 2001، ولم يكونوا وحدهم المُضَحّين، بدأ تدفق أكبر المتعصبين وأموالهم من دون حساب، لتأطير التونسيين وتحويلهم عن اختياراتهم التاريخية منذ ما قبل 1837، وبعد أن اتبع أحمد باي سياسة عصرنة البلاد إقتداء بما فعله الخديوي محمد علي في مصر سنة 1802.
ولا بدّ من تحميل مسؤولية ذلك لكل الحكومات بما فيها حكومة الباجي قائد السبسي والحكومات التي جاءت بعد انتخابات 2011 و2014، وقيادة البنك المركزي، التي تم سحبها ظلماً وعدواناً من طريق منصف المرزوقي و”النهضة”، وبمشاركة رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر.
فانفتحت أبواب الأموال المُتدفقة كالسيل العرم، إلى من كان ولاؤهم للتطرف أكثر من ولائهم لتونس، إن كانت لهم ذرة من ولاء لتونس.
وإذ جاءت نجاحات “نداء تونس” في انتخابات 2014، مؤذنة بقدوم عهد جديد، فإن كل الآمال تلاشت بعدم إقدام الرئيس الباجي قائد السبسي على محدودية صلاحياته، ولا حكوماته المتعاقبة، على وقف السيل، ولا محاسبة من أخطأوا في حق تونس، ولا بُذلت جهود لا كبرى ولا صغرى في كشف ملامح من دفعوا إلى اغتيالات سياسية في وضح النهار لم يسبق لها مثيل في تاريخ تونس المعاصر ولا الحديث، في ظل ما أسمي بتوافق كان مغشوشاً، سكت عما يرتكب في حق تونس ومستقبل شعبها، وهي سياسة متواصلة في ظل انفجار “حزب النداء” الذي تآكل تحت ضغط توريث ممجوج، أفقده وزنه وجعل منه شبحاً لنفسه، ولما كان عليه سنة 2014 رغم هناته الكبيرة.
من هنا فلعل للمرء أن لا يستغرب ما كشف عنه عمل صحافي إستقصائي ناجح تولاه الإعلامي حمزة بلومي، بقطع النظر عما إذا كان مُوحى به كما يقول البعض أو بإرادة نابعة من الذات، فالمهم أن السهم أصاب الهدف، وأن الغطاء قد انكشف، وأن المارد خرج من القمقم. وأما السلطة ورئاستها والبنك المركزي وسائر البنوك ورئاسة الحكومة ووزارة المالية ووزارات متعددة أخرى أن تقوم بالكشف عن مدى تغلغل ظاهرة الجمعيات الخيرية وتمويلاتها المشبوهة، هذه الفقاعات التي لا يمكن للمرء أن يشك أو يشكك بها كلها، فبعضها يؤدي دوراً مرموقاً، والبعض الآخر يقوم بدور تدميري للمجموعة الوطنية، كما تم الكشف عن أنشطة مدرسة الرقاب، والتي يبدو أن عشرات مثيلة لها وربما مئات، وكذلك عشرات أو مئات التي تعتبر الحدائق الخلفية لتمويل أحزاب معينة، لا تأتيها الأموال الخارجية مباشرة وإنما تستقيها من جمعيات تعتبر غطاء شفافاً، تأتيها تلك الأموال بصور أحيانا ملتوية لا يحاسبها أحد على مجالات صرفها وإنفاقها.
من هنا أيضاً فإن الظاهرة على ما تبدو عليه للبعض هي في غاية الخطورة، وينبغي لا للسلطة وحدها إن صح منها العزم، ولكن على المجتمع ككل أن يجتثها من عروقها وإلا فإنه لا ديموقراطية ولا شفافية ولا انتخابات نزيهة ولا نتائج موثوق بها، أما التوافق فقد ذهب أدراج الرياح سواء مع قائد السبسي أو مع يوسف الشاهد، ما لم يبرز للسطح ما وراء الأكمة، ولا ما أمامها، والأعين مغمضة على أخطر ما تبدى من حال منذ الثورة وما قبل الثورة.
• عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية ومراسلاً لصحف ومجلات عربية عدة. يمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com