السيسي لم يؤسس نظاماً آمناً في مصر بل سلطة قمعيةً
عندما تسلم عبد الفتاح السيسي رأس السلطة في مصر في تموز (يوليو) 2013، إستبشر كثيرون خيراً وظنوا أن هناك جمال عبد الناصر آخر وصل إلى الحكم، ويبدو أن ظن هؤلاء قد خاب بعد أكثر من خمس سنوات.
القاهرة – فرانسيسكو سيرانو*
بالنسبة إلى الكثيرين من المصريين الذين خرجوا إحتجاجاً إلى الشوارع في كانون الثاني (يناير) 2011 لإسقاط الرئيس السابق حسني مبارك، فإن القاهرة مليئة بتذكيرات عن إخفاقات البلد بعد الثورة. إن ميدان التحرير هو مرة أخرى دوارٌ كئيب معجوق بزحمة السير، وإلى جواره يقع المتحف المصري المرتبط باعتقال الجيش للنشطاء وتعذيبهم واستجوابهم هناك بعد إحتجاج في آذار (مارس) 2011. في مكان قريب، تقبع منطقة ماسبيرو في وسط المدينة التي إشتهرت بمذبحة المصريين الأقباط. إلى الشرق، ترمز ساحة رابعة العدوية إلى القمع العنيف لأولئك، العديد منهم من جماعة “الإخوان المسلمين”، الذين عارضوا الإنقلاب العسكري الذي أوصل الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في تموز (يوليو) 2013.
إن الجغرافيا الحضرية المشحونة في القاهرة تؤطّر قساوة مصر الحالية. منذ توليه السلطة، إستخدم السيسي أجهزة الأمن للقضاء على المعارضة والإنهاء على أي بقايا من الفضاء المدني الذي ظهر منذ ما يقرب من ثماني سنوات. تم إعتقال عشرات الآلاف من المصريين. وأصبحت حالات التعذيب والإختفاء القسري أمراً شائعاً، واتسع نطاق استخدام المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين.
مع ذلك، هناك شيء واحد واضح. على الرغم من أن القمع غير المسبوق قد أرسى سلطة واضحة وقاسية، إلا أنه لم يستطع بعد إنشاء نظام آمن.
في جميع أنحاء القاهرة، تُظهر نقاط التفتيش الليلية، التي يقيمها أفراد الشرطة المُدجَّجين بالبنادق الرشاشة، دولةً تُسيطر على أراضيها. لكن تجاوزات الدولة البوليسية التي تم إرجاعها حديثاً ـ خيث رجالها يرتدون ملابس مدنية ويتربصون في المقاهي والحانات ـ تُشير أيضاً إلى شعور متوتر بالقلق.
غالبية الأوتوقراطيين تعتقد أن العنف ضروري للاستيلاء على السلطة. لكن القوة الحقيقية تميل إلى التوحّد والإندماج بمجرد أن يخلق النظام الجديد وضعاً مستقراً ثابتاً يعفيه من فرض سيطرته من خلال العنف. بعد أكثر من خمس سنوات على رأس أكثر دول المنطقة إكتظاظاً بالسكان، يُثني العديد من المصريين على السيسي لأنه حقق قدراً من الإستقرار. ولكن من دون إضفاء الطابع المؤسسي على نظام ما، فإن علامته التجارية الإستبدادية تبدو مُتقلّبة ومُعرَّضة بطبيعتها.
في بعض الأحيان، يبدو أن الرئيس المصري يُدرك ويتفهّم حراجة موقفه. خلال حدث متلفز في شباط (فبراير) 2016، تعهّد “بإبعاد أي شخص عن وجه الأرض” يحاول إسقاط الدولة. رأى العديد من المراقبين أن هذا كان بمثابة تحذير للمعارضين داخل جيشه، أكثر من المتظاهرين. ربما يكون هذا النوع من الإستبداد المُقلق هو الذي يمنح الوضع السياسي الحالي في مصر جواً من الوضع الإنتقالي، بدلاً من حالة الإستراحة الأخيرة.
في البداية ركّز السيسي قمعه على جماعة “الإخوان المسلمين”، ثم ما لبث أن توسع ليشمل أي شخص معارض للسرد الذي وضعه كمنقذ لمصر. تم حظّر الإحتجاجات غير المُصرَّح بها في الشوارع منذ العام 2013 والتي تحمل عقوبة بالسجن لمدد طويلة؛ وتم إغلاق وسائل الإعلام التي تنتقد النظام أو تم احتواؤها. منذ العام 2017، تم حظر 500 موقع إلكتروني على الأقل. وشملت هذه منافذ وقنوات وسائل إعلام محلية ودولية، فضلاً عن مواقع حقوق الإنسان ومجموعات المجتمع المدني. وقد أدّت قوانين الأمن السيبراني الجديدة التي صدرت في العام 2018 إلى زيادة الضغط على المعارضة عبر الإنترنت من خلال مراقبة حسابات وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعية.
في وقت سابق من العام 2018، فاز السيسي بالإنتخابات الرئاسية في مصر، مما منحه ولاية ثانية في منصبه. وقد حصل على نسبة 97 في المئة من الاصوات، بعد التأكد من إبقاء المعارضين خارج صناديق الإقتراع. ومع ذلك، فإن المسرح السياسي، الذي كان ذا مصداقية كافية لاسترضاء مؤيديه في واشنطن وأوروبا، كان يقوده رجل لا يهتم بالسياسة بكل المقاييس.
إستخدم الرئيس السابق حسني مبارك وزمرته الحزب الوطني الديموقراطي، لإضفاء الطابع المؤسسي على الإستبداد. خدم الحزب للتوسط في العلاقة بين القادة وبقية المجتمع. وكان أيضاً وسيلة فعالة لتوزيع المحسوبية والحفاظ على تشغيل النظام بسلاسة. ضد الحزب الوطني الديموقراطي، وفّرت مجموعة من أحزاب المعارضة التي وافقت عليها الدولة مظهر التعددية. لقد كان إستقراراً كاذباً، لكن كانت لديه قواعده الخاصة التي ساعدته على الإستمرار لمدة 30 عاماً.
إنهارت هذه البنية تحت ضغط المتظاهرين في ميدان التحرير، الذين أحرقوا أيضاً مقر الحزب الوطني الديموقراطي في وسط القاهرة في الأيام الأولى لانتفاضة العام 2011. بعد مرور سبع سنوات، لم يكن هناك تحوّلٌ نحو الديموقراطية، ولا إعادة صياغة للعقد الإجتماعي بين المصريين والدولة، ولا نهاية للعنف التعسفي الذي ميّز هذه العلاقة.
ومع ذلك، فإنه يصعب على المصريين الإبحار في الإستبداد الحالي لأنه يفتقر إلى القواعد الراسخة والمعترف بها في الإستبداد السابق. إن السيسي لا يثق فقط بالسياسة كممارسة إجتماعية، بل بالسياسيين كلهم. وبسبب إفتقاره إلى بنية حزب، لجأ إلى الشعوبية أو الشعبوية، حيث ظهر في أحداث عامة يبدو أن هدفها الرئيسي هو إظهار أنه يتفاعل مع المصريين. والأكثر إثارة للقلق هو الدينامية الوطنية التي أطلق عنانها: مساواة دعم مصر كدعمٍ له. وقد فتح ذلك الباب أمام الموالين الشخصيين مجتمع الشرطة وحماية قيادة السيسي. وقد قدمت مجموعة من المحامين أخيراً دعوى لإجبار البرلمان المصري على الشروع في مناقشات حول إزالة وإلغاء الحدّ الرئاسي لفترتين، المفروضة من خلال الدستور الجديد الصادر في كانون الثاني (يناير) 2014، وهي خطوة أخرى في الحملة التي تسمح للسيسي بالترشح لمرة ثالثة في العام 2022.
في عهد مبارك، أصبح الجيش قوة إقتصادية على قدم المساواة مع عشرات الشركات العائلية التي هيمنت على الإقتصاد المصري. لكن يبدو أن الجيش تحت رئاسة السيسي هو المحرّك الإقتصادي الرئيسي. تمتلك الشركات المملوكة للجيش مزايا متعددة مقارنة بنظيراتها في القطاع الخاص، بما في ذلك سهولة الحصول على التمويل والحصول على موافقات حكومية أسرع. ولكن من خلال مزاحمة القطاع الخاص، فإن الترتيب الحالي يخاطر بتعطيل جهود البلاد المتوقفة نحو الإنتعاش الإقتصادي.
وإلى جانب برنامج الإصلاح الذي يطلبه ويشترطه صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، فإن غالبية السياسات الإقتصادية في مصر منذ العام 2013 كانت مدفوعة بمشاريع حكومية واسعة النطاق، تتميز بكميات هائلة من الإستثمارات وعوائد غير مؤكدة.
لقد عانى المصريون فعلياً سنوات من المصاعب الإقتصادية. لا تزال البلاد تعتمد بشكل كبير على استيراد المنتجات الغذائية والسلع الأخرى، مما يجعلها عرضة للصدمات الخارجية. كان التضخم السنوي أعلى من 15 في المئة في أوائل كانون الأول (ديسمبر). ومن المستحيل التنبؤ بما سيعني المزيد من التدهور في الاقتصاد لقيادة السيسي.
ومع ذلك، فإنه يدل على المأزق الحالي في مصر بأن رؤية السيسي للتجديد الإقتصادي والوطني يبدو أنها تتمحور حول بناء مدينة من الصفر في وسط الصحراء، بعيدة من النيل. وسيفتخر رأس المال الجديد بمبانٍ حكومية شاهقة وبراقة ومنازل ومساحات خضراء مفترضة تبلغ ضعف مساحة “سنترال بارك” في نيويورك. وكثيراً ما يتحدث المسؤولون الحكوميون عن المشروع، بموازنة تقديرية تبلغ 45 مليار دولار، كبداية جديدة. قبل كل شيء، يزعمون أن المدينة الجديدة ستكون نظيفة وآمنة. إن تطبيقها في أماكن أخرى – لتحسين الإسكان والمستشفيات وفرص الأعمال التجارية الصغيرة والمتوسطة – كان يمكن لهذه الأموال والموارد الضخمة أن يكون لها تأثير ملموس في حياة عدد أكبر من المصريين. بدلاً من ذلك، يبدو أن عرض عاصمة جديدة براقة لبدء نهضة مصر المزعومة كان مُغرياً للغاية لدرجة أن القيادة الحالية لم تستطع مقاومته.
إن اللوحات الإعلانية العملاقة التي تبيع المنازل الراقية في المدينة المستقبلية، وفي غيرها من المشاريع الصحراوية التي انتشرت لسنوات على هوامش القاهرة، تبدو الآن وكأنها تتزاحم على كل شيء آخر على طول أجزاء كورنيش النيل. إنها بالطبع هروب، ولكن ليس فقط للمصريين الذين قد يكونوا قادرين على شراء العقارات هناك، ويرغبون في الفرار من حركة المرور والتلوث في القاهرة. بالنسبة إلى السيسي وأنصاره، فإن المدينة الجديدة تعد بالفرار من الشيء الذي يخشونه أكثر: المصريين.
ومع ذلك، وبسبب الطريقة القمعية التي تعامل بها مع المصريين على مدى السنوات الخمس الماضية، فمن غير المرجح أن يُعطي رأس المال الجديد للرئيس الحالي ما تطلع إليه منذ توليه السلطة في العام 2013: أن ينأى بنفسه عن الوصول، وعن النتائج … إلى السخط الشعبي.
• فرانسيسكو سيرانو كاتب وصحافي ومحلل سياسي. وقد نُشر كتابه “A Captura de Abdel Karim” حول الإنتفاضات العربية في عام 2013.
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.