بين الوفاء للجنسية والولاء للهوية
بقلم هنري زغيب*
مطلعَ هذا الأُسبوع، بعد فوز المُنتخَب الفرنسي في مونديال 2018، صدَر على الصفحة الأُولى من جريدة “اليوم في فاسُو” (Aujourd’hui au Faso يومية تَصدُر في واغادُوغُو عاصمة بوركينا فاسُو) مقالٌ جاء فيه أَنّ “بين 23 لاعبًا إختارهُم المُدرِّب الفرنسي ديدييه دي شان، 16 لاعبًا فرنسيًّا من أُصُول أَفريقية، بينهم مَن مهاراتُهم في المَلعب حقَّقَت الفوز”. وختام المقال عبارة: “هكذا ديكُ أَفريقيا صَدَح كوكو كوكو مع ديك فرنسا”. وحين قفَز الرئيس الفرنسي من الفرَح عند صفّارة الحَكَم الختامية، هَرَع يُهنِّئُ المُنتخَب الذي سجَّل النصر بـ”جميع” عناصره الحاملين الولاءَ لفرنسا.
الجوهرُ هنا: الوَلاء. وهو الإندماج في الهوية حتى الذَوَبان في كُنْهِها. الجنسية ليست مُجرَّد حَمْل جواز السفر أَو بطاقة الهوية. الجنسية هي الوَلاء مُتَوَّجًا بالوفاء. أَعضاءُ المُنتخَب الفرنسي جاؤُوا إِلى فرنسا مهاجِرين من القارة الأَفريقية، بيضَ البشرة (شماليَّ القارة) وسُمْرَها (جنوبيَّها)، فاندمجوا معًا في مجتمع فرنسي إنتسبوا إِليه، أَعطاهم جنسيَّته فأَعلنوا له الولاء من دون التخلّي عن وفائهم للجُذور.
لا لُبنانيَّ أَكثر من جبران خليل جبران: لم يترك نبضةً في دمِه إِلَّا حمَّلها وفاءَه للُبنان، وحنينَه إِلى لُبنان، وذكْرَ لُبنان، وحُلْمَه بالعودة إِلى لُبنان، وأَعلن من قمّة نيويورك: “لو لم يكُن لُبنان وطني لاتَّخذْتُ لُبنان وطني”، وطلَب أَن يَرقد جثمانُه في أَرض لُبنان، وأَوصى بِموجوداتِ مُحترفه لبلدته الأُمِّ الغالية بْشَرّي، ومع ذلك لم يُنكِر فضْل أَميركا التي حَملَتْهُ إِلى العالَمية، فخاطب “الأَميركيين الشباب من أَصل سوريّ” (تموز 1926): “أُؤْمنُ أَن يقول واحدُكم لِمُؤَسِّسي هذه الأُمَّة: “أَنا شابٌّ من أَرومةِ شجرةٍ مغروزةٍ على تلَّةٍ في لبنان، وها أَنا مغروزٌ عميقًا هنا وسأَكون نافعًا… أَنا حفيدُ شعبٍ بَنى دمشق وبيبلوس وصور وصيدا، وأَنا هنا لأَبْني كذلك. افتخِروا بأَن تكونوا أَميركيين، ولكنْ كُونوا أَيضًا فَخورين بأَنَّ آباءَكم جاؤُوا من أَرضٍ مَدَّ فَوقها الربُّ يدَه الكريمةَ وباركَها”.
اللبنانيون المُجنَّسون في فرنسا، وحاملُو الجنسيةِ الفرنسيةِ اللبنانيون في لبنان، فَلْيُهَنِّئُوا المُنتخَب الفرنسي، إِنَّما من دون أَن يَسْتَخِفّوا بلبنانيَّتهم “فَخرًا” بجوازِ سفرٍ فرنسيٍّ ليس سوى جوازٍ للعبور، أَما الهوية فهي دَمُ الجذور. وهذا ما ربَّما لم يَتَنَبَّه له مَن سطَّروا مرسوم التجنيس حديثًا كي يَمنحوا الجنسيةَ اللبنانية مئاتِ مكتومي قَيد أَو غُرَباءَه، سيحملونها لغايةٍ أَو مصلحةٍ أَو غُنْمٍ سياسي، ولن يكون ولاؤُهم ولا وفاؤُهم لِلُبنان. ورُبَّ مسؤُولين لبنانيين يَحمِلُون جنسيةً أُخرى يُباهون بها وَلاءً وَوَفاءً، مع أَنّ الخُبز في معجنهم من قمحِ أَرضهم اللبنانية.
عنوانُ الجنسية: الانتماء. وهو شرفٌ جناحاهُ الوَفاءُ والوَلاء.
ومَن ليس له هذان الجناحان معًا، لا يستحقُّ حتى جوازَ السفر.
• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. تستطيع التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib