الدولة الجزائرية تستخدم السلفيين الهادئين لمواجهة السلفيين العُنفيين والمُسَيَّسين

فيما يعبر النظام الجزائري فترة حرجة في تاريخه، يعمد حالياً إلى تشجيع السلفية “الهادئة” وإتخاذها كحليف مُفيد في الكفاح ضد السلفيين المُسَيَّسين والأكثر عنفاً.

رئيس الحكومة الجزائرية أحمد أويحيى: إستنجد سابقاً بزعيم إسلامي لتعديل الدستور

بقلم أنوار بوخرص*

بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود على إندلاع الحرب الأهلية في الجزائر، والتي عجّل بها وسرّع وتيرتها إلغاء الجيش للإنتخابات التي فازت بها “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” في كانون الثاني (يناير) 1992، عادت الإيديولوجيا والنشاط السلفيان إلى الأضواء مرة أخرى كمحورٍ ونقطةٍ مركزية للخلاف الإجتماعي والجدل السياسي.
تتعالى الأصوات العلمانية في الجزائر أكثر فأكثر، مُحذّرةً من “السلفنة الزاحفة” للمجتمع. وقد نشرت الصحف، خصوصاً تلك الناطقة بالفرنسية مثل “الوطن”، مقالات مثيرة للقلق حول ما زُعم أنه “خطة حرب” رسمها السلفيون من أجل تقويض إسلام الدولة الجزائرية. ومنذ تولّيه منصبه في أيار (مايو) 2014، إنضمّ وزير الشؤون الدينية محمد عيسى إلى أولئك الذين يرفعون الصوت ضد وعظ الدعاة المتمرّدين ونشر الأفكار التي يُفترَض أنّها تخريبية وتشوّه وتعطّل الفكر والممارسة الدينيين.
إن التوسع المُطرَد للسلفية في الجزائر، ولا سيما السلفية “الهادئة” التي تتجنّب النشاط السياسي، هو مظهر من مظاهر تدهور المؤسسات الدينية والأحزاب السياسية في الدولة، وخصوصاً الأحزاب الإسلامية. وقد صار أئمة الأحياء، الذين كانوا يلعبون دوراً مهماً في تشكيل الرؤى العالمية للجزائريين العاديين، موضع نزاع ومنافسة بشكل متزايد مع الأئمة السلفيين. لقد غرق الإسلاميون الجزائريون في شكل من أشكال الخمول الفكري، وكثيراً ما إنقطعوا عن التواصل مع قواعدهم الشعبية. والمصير عينه قد حصدته المنظمات الصوفية، التي يُنظَر إلى ممارساتها من قبل عدد كبير من الجزائريين على أنها خارجة عن الفقه الإسلامي المقبول.
من جهتها لعبت الدولة دوراً لا يُستهان به في صعود السلفية الهادئة. ونظراً إلى ولاء هؤلاء السلفيين الهادئين للنظام ومعارضتهم الكبيرة للسلفية السياسية والعنيفة، فليس من المستغرب أن النظام سمح للسلفيين الذين يعارضون التدخل في السياسة وغير المُسيَّسين بتشغيل مدارسهم وإدارة أعمالهم الخاصة. لقد أصبح العديد من السلفيين الذين نبذوا التطرف العنيف جهات فاعلة في القطاع الاقتصادي غير الرسمي. وقد غطت الصحافة الجزائرية على نطاق واسع أخبار الجهاديين السابقين الذين إزدهروا بفضل التسهيلات التي منحتها لهم السلطات والعلاقات التي أقاموها مع نظرائهم في الأعمال في الخليج.
وزاد إندلاع الإنتفاضات العربية في العام 2011 من أهمية وفائدة السلفيين الهادئين بالنسبة إلى الدولة. فقد أصدرت جميع الشخصيات الرئيسية المنتمية إلى السلفية الهادئة نداءات إلى الجزائريين تطلب منهم الوقوف ومقاومة موجة الإحتجاجات السياسية التي تهزّ العالم العربي. وقد أكدت فتاواهم وخطبهم على وجود مخططات أجنبية للتلاعب بالمّحرِّضين والساذجين المحليين لإثارة إضطرابات سياسية وعنفية. وحذروا من أن الكافرين قاموا بتزيين فضائل الثورات الديموقراطية وأذكوا الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقاد ذلك إلى دكّ إسفين بين الحكام والمحكومين، مؤدياً إلى تفاقم الإنقسامات الإجتماعية، والذي كان سيقود حتماً إلى زيادة إنعدام الأمن وتفاقم الفساد.
وأصدر عبد المالك رمضاني، رجل دين جزائري يعيش في المملكة العربية السعودية، فتوى مؤلفة من 48 صفحة تحثّ الجزائريين على عدم الوقوع في فخ الفتنة. وردّد التحذيرَ الذي يكرّره كثيراً قادة السلفية العالمية الهادئة، من أنّه “طالما أنّ قائد الأمّة مسلم، لا بدّ من إطاعته والإنصات إليه”. أما إذا كان الحاكم مقصّراً في واجباته الدنيوية، فنصح رمضاني بـ”الصلاة والصبر”.
ومحمد علي فركوس، رجل دين جزائري آخر الذي عُيِّنه رجل الدين السعودي السلفي الهادئ ربيع المذهلي في كانون الثاني (يناير) 2018، إلى جانب عبد المجيد جمعة وأزهر سنيغرا، كممثل للسلفية في الجزائر، عارض بدوره أيضاً الإنتفاضات العربية. فقد إستخدم منبره على الإنترنت لحثّ الجزائريين على عدم الإنضمام إلى الاحتجاجات. كما أصدر فتوى تُدين أعمال التضحية بالنفس بإعتبارها إنتهاكات لإرادة الله. أما بالنسبة إلى المظاهرات العامة والمسيرات والاعتصامات ، فقد شجبها فركوس وإعتبرها أفكاراً وأساليب حديثة مستوحاة من الثورة الفرنسية.
وتعرّض فركوس بسبب هجماته على الحزبية والفئوية إلى توبيخ قوي من الناشط السلفي البارز عبد الفتاح حمداش. في العام 2013، أطلق حمداش “جبهة الصحوة الإسلامية”، التي لم تعترف بها الدولة. وإستخف بسلطة فركوس الدينية، ورفضه بسبب إفتقاره إلى الخبرة والمعرفة لإصدار الأحكام بشأن القضايا المعاصرة.
في العام 2014، واجه علي بلحاج، أحد مؤسسي “جبهة الإنقاذ الإسلامية”، الذي أطلق سراحه من السجن في العام 2006، الصعوبات عينها التي واجهها حمداش في الحصول على إعتراف الدولة بالجبهة كحزب سياسي. والشيء نفسه ينطبق على الأمير السابق ل”جيش الإنقاذ الإسلامي”، مدني مزراق، الذي قاتل الدولة خلال الحرب. وهذا الأخير يتمتع بحق الظهور والوصول إلى وسائل الإعلام ويسمح له بالوعظ وتنظيم اللقاءات. في حزيران (يونيو) 2014، إستشاره رئيس الوزراء الحالي أحمد أويحيى، الذي كان في ذلك الوقت وزير دولة ورئيس موظفي رئاسة الجمهورية، بشأن مراجعة الدستور. لكن على الرغم من معاملة مرزاق “كشخصية وطنية”، فإن النظام لا يزال مُصمماً على إبقاء السلفيين السياسيين والأعضاء السابقين في “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” على الهامش خارج الإطار السياسي.
إن هذا الحظر وغياب إستطلاعات الرأي العام ذات المصداقية يجعلان من الصعب تقييم درجة الدعم التي تتمتع بها السلفية السياسية بين السكان. ويدّعي كل من حمداش ومزراق أن القاعدة السلفية الشابة تتوق إلى التمثيل في النظام القائم. لكن المراقبين المتابعين لهذه الظاهرة يشكّون في قدرة السلفيين الناشطين على إعادة تشكيل “التسونامي” السياسي والانتخابي الذي حققته “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” في 1990-1991.
كافح النظام الجزائري لوضع إستراتيجية مُتمَاسكة لإحتواء التوسّع التدريجي للسلفية في المجتمع. من جهة، حذّر عيسى، وزير الشؤون الدينية، من التعاليم الصارمة والتمرّد من رجال الدين المُتأثّرين بالوهابية. ومن ناحية أخرى، يستمر بعض الفصائل داخل النظام في إعتبار السلفية الهادئة أداة مفيدة ضد التهديدات الإقليمية والقبلية والطائفية والجهادية التي تواجهها الجزائر. في آذار (مارس) 2017، بدا أن أويحيى يؤكد شكوك النقاد، الذين يلومون حكومته على إستخدام السلفية للتقسيم وحكم المشهد السياسي. في خطاب إلى نشطاء الحزب في تمنراست، صوّر السلفية كنموذج للإتِّبَاع حين قال رئيس الوزراء: “نحن نحب السلفية، إنها في ديننا. دعونا نكون سلفيين في قوميتنا”.
أياً كانت الحقيقة حول سياسة النظام تجاه السلفية، فإن التوسع المُطرد للسلفية الهادئة يكشف عن الأزمة العميقة للمؤسسات الدينية الرسمية. إن إعادة تأهيل هذه المؤسسات، كما أوصى عيسى، يُمكن أن تكون حاسمة في بناء سردٍ مُضاد موثوق للأفكار والممارسات غير المتسامحة لبعض رجال الدين السلفيين. في نهاية المطاف، لا يزال هذا المنحى مجرد أداة واحدة في تشويه الأفكار المتطرفة. وطالما بقي الركود الإقتصادي والشلل السياسي والإفتقار إلى الفرص، فسوف يكون هناك دائماً مخزون من الشباب الغاضبين الساخطين الذين تُغريهم الحجج والأساليب الفقهية واللاهوتية التي تقدمها مختلف فروع السلفية.

• أنوار بوخرص باحث غير مقيم في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط. وهو أستاذ مشارك في العلاقات الدولية في كلية ماكدانيال في وستمنستر بولاية ماريلاند الأميركية.
• عُرّب هذا الموضوع من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى