هل باتَت حَربُ سوريا حاجةً لا مصلحة في إنهائها؟

محمّد قوّاص*

لا يُريدُ العالم أن يعترفَ بأنَّ هناك حربًا في سوريا. حتى في عزّ الصراع الذي انفجر في العام 2011، تعاملت العواصمُ الكبرى بارتباكٍ وتحفّظ مع “الحرب” السورية من دون اكتراثٍ كبير، من واشنطن إلى لندن مرورًا بباريس وبرلين، بالمآلات التي ستنتهي إليها تلك الحرب.

في التحليل البدائي، أنه رُغمَ الجيرة الجغرافية بين سوريا وأوروبا، ورُغمَ مأساةِ اللجوء التي فرضتها الكارثة السورية على دول الاتحاد الأوروبي، إلّا أن موقف أوروبا القريبة ظَّل تابعًا لموقف أميركا البعيدة ومُرتَهِنًا له. فحتى حين عبّرت باريس ولندن عن موقفٍ غاضبٍ ضدّ النظام السوري، لا سيما إثر استخدام السلاح الكيماوي ضد غوطة دمشق في العام 2013، فإن قرار واشنطن في عهد الرئيس باراك أوباما أطفأ مُحرِّكات كانت تستعد لأداءٍ عسكريٍّ مُعَيَّن ضدّ دمشق.

لم يتغيّر موقف أوروبا. تكتفي مع الأميركيين بموقفٍ سلبي من دمشق مُستَندًا إلى القرار الأممي 2254 لتبرير القطيعة مع نظام الرئيس بشار الأسد. ولم يرقَ هذا “الحرد” إلى مواقف ديبلوماسية وربما عسكرية ضاغطة للخروج من هذا ال”ستاتيكو” الكارثي ودائرته المُغلقة. ومَن يُراقبُ الأولويات الاستراتيجية الكبرى للدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، يلحظ مدى التهميش إلى حدّ النكران لـ”الحرب” في سوريا، وكأنها من بديهيات المشهد الدولي ومُسَلّماته.

جاءت مداخل “الحرب” الأولى مُطيعةً لسياق “الربيع” الذي ضرب المنطقة، لكن سرعان ما توقّفَ طابعها السوري بعد أشهر. بدا أن الوجود العسكري المكشوف، ولو بنسبٍ مختلفة وبأجندات متنوّعة، للولايات المتحدة وإيران وتركيا وروسيا وإسرائيل فخّخَ الحراك السوري بأبعادٍ مُعقّدة تتجاوز بلادةَ الصراع الطائفي وتصادُمَ المصالح وجدلَ النظام والمعارضة. بات الصراع في سوريا إقليميًا دوليًا (كونيًا بحسب الرئيس بشار الأسد)، وهو امتدادٌ لسياساتِ هذه الدول في العالم ومُرتبطٌ بأمنها الذاتي للبعض والاستراتيجي للبعض الآخر.

إحدى واجهات الاستقالة الغربية تمثّلت بالضوء الأخضر المُضمِر الذي منحه أوباما لنظيره الروسي فلاديمير بوتين في أيلول (سبتمبر) 2015. إجتمعَ الرجلان على هامش المؤتمر السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، فأطلقت موسكو حملتها العسكرية في سوريا بعد ساعات من قمّة الزعيمين. بعدها التزم اللاعبون العرب والأوروبيون بكلمة السرّ التي طُبِخَت في نيويورك وأوقفوا أيّ دعم عسكري نوعي للمعارضة السورية من شأنه عرقلة الحملة الروسية أو إرباكها.

كان الغربُ يحاول أن يدفع “البركان” السوري عن جدول أعماله فيُكلّف روسيا بالتعامل معه مع “شيك على بياض”. بدا أن واشنطن تؤكّد (ما كان معروفًا لدى استراتيجييها) غياب أي مصلحة مباشرة ملحّة للولايات المتحدة في سوريا، وأنَّ لا ضيرَ من توكيل موسكو إدارة هذا الملف بما ينتج هذا الوضع الراهن الحالي الذي يعيشه البلد.

في المقابل، استنتج بوتين من الاستقالة الأميركية، حتى لو كانت خبيثة مُلتبسة، إقرارًا أميركيًا بنفوذ روسيا واعترافًا بمصالحها في الشرق الأوسط، وفي سوريا بالذات، وثقة بقدراتها على إدارة ملفاتٍ ساخنة هي من صلب مهمات الولايات المتحدة منذ أن تزعّمت العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

المشهدُ الذي طرأ على سوريا خلال السنوات الأخيرة، كما ذلك الذي شهده البلد مُكثّفًا خلال الساعات الأخيرة، يختصر مأزق “الحرب” وتفاقم عبثها مقابل استقالة غربية تبدو حكيمة رُغمَ طابعها البليد وربما غير الأخلاقي.

فأن تقوم تركيا وإسرائيل وروسيا هذه الأيام وقبلها بأسابيع الولايات المتحدة بشن غارات على “أهداف” في سوريا أو آتية إليها، فتلك ملهاة يلعب اللاعبون على مسرحها أدوارًا تكاد تكون مُنسّقة، تتكامل في ما بينها لتتشكّل منها الحبكة الكاملة للقصة.

وفي ما تُخطّطُ له أنقرة وترسمه تل أبيب وتديره موسكو، تتكشّف خطوطٌ حمر تتشارك الأطراف في وضعها، وربما التواطؤ في صنعها، من دون أن تنال غارات تلك الدول من مصالح بعضها الآخر داخل سوريا أو خارجها.

سوريا، التي تُرِكَت لشأنها تفتك الحرب بمواطنيها قتلًا وتشريدًا، ما زالت داخل “ثلاجة” جيوستراتيجية رُغمَ حماوة النيران التي تلتهمها بالمعنى المباشر أو ما يتداعى عنه.

تركيا تسعى، لدواعٍ انتخابية لم يعد المحللون الأتراك أنفسهم يخفونها، إلى فتحِ جبهةٍ في شمال سوريا (والعراق) من دون أن تَفرُضَ هذه الخطوة أيّ تغيّر في ال”ستاتيكو” الذي يتحكّم في سوريا، وبالتالي فإن لأنقرة حديقة خلفية في سوريا تطلّ منها توفّرها الحرب هناك.

روسيا فهمت، منذ تَمَسَّكَ الغربُ بالقرار 2254، أن الوكالة التي منحها الغرب لموسكو وصلت إلى سقفها المُتاح، ولم يعد بإمكان روسيا الغَرفِ من معركتها السورية أكثر مما غرفته، ناهيك بما سبّبته حربها في أوكرانيا من أضرار في همّتها وعلى مهمتها السورية. غير أن استمرارَ الحرب مُبَرِّرُ وجودٍ لموسكو ومُبرِّرُ ديمومة لنفوذها في هذا البلد.

إسرائيل ما زالت منذ اليوم الأول لـ”الحرب” في سوريا تحظى برعاية الغرب والصين وروسيا لعملياتها العسكرية في هذا البلد كلما ارتأت ضرورات ذلك. وعليه، توفّر الحرب السورية لإسرائيل ساحةً مُعترَفًا بها، حتى من جانب طهران، لتصفية جرعات من حسابات الطرفَين.

أما إيران فباتت تنظر بقلق إلى شللها المتناسل من وضعها الداخلي من جهة، ومن تقلّص هامش المناورة لديها في اللعب داخل سوريا. كثرت داخل البلد أجندات أخرى منافسة باتت فاعلة حيوية وتُهدّدُ ما راكمته طهران في سوريا من نفوذ وإنجازات على مدى العقود الماضية. ويبقى أن استمرار الحرب يكرّسها وميليشياتها رقمًا صعبًا حتى إشعارٍ آخر.

ضجيجُ النارِ يأتي متواكبًا مع المداولات التي يجريها ممثلو عملية أستانة، في وقتٍ بات واضحًا أنه لم يحن أوان إقفال ملف سوريا ووقف “الحرب” داخلها. حتى أنَّ اندلاع الحرب الأوكرانية وتعقّد علاقات الغرب مع الصين أجّلا الورش الجادة لبناء مخارج الأزمة وتعبيد طرق الخروج منها. واللافت أن أزمة اللاجئين لم تعد هاجسًا أوروبيًا ضاغطًا إلى درجة الدفع بتدخل ما تأخر وبات مُتقادمًا.

وسط ضبابية الموقف الأميركي، فإنَّ من الثابت أن أصحاب المقاتلات التي تقصف سوريا هم الذين سيجلسون بالنهاية إلى طاولة التسوية، ويُبلّغون أهل البلد بمخرجات مداولاتهم. وحتى ذلك الحين ستبقى “حرب” سوريا خلف الكواليس رُغمَ خطورة واجهاتها وما تُنتجهُ وما تُصدّره من مآسٍ. يبقى تأمل هذا “العتب” الذي تُبديه واشنطن من عمليات روسيا وتركيا ومراقبة إمكانات تطوره لتشييد موقفٍ متطوّر غير مُتَوَقَّع.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى