كميليا كلوديل: ضحيةُ رودان؟ أَم مُلهمَتُه؟ (4)

كميليا: “صبية عارية في حالة تفكير”

هنري زغيب*

مرَّت في الأَجزاء الثلاثة الأُولى من هذا المقال المتسلسل مراحلُ زمنية قطعتْها النحاتة الفرنسية كميليا كلوديل، منذ نشأَتها في كنف العائلة، حتى مطالعها في النحت، حتى الزيارة التي قام بها رودان إِلى محترفها، وتنبُّهه إِلى موهبتها والطلب إِليها أَن تكون مساعدته في محترفه.

في هذا الجزء الرابع مطالعُ كميليا لدى محترف رودان في المرحلة الأُولى قبل اندلاع شرارة الحب بينهما.

كميليا: “العاشقان إلى انفصال”

موديل ثم مساعدة

في تلك الفترة، إِبان اللقاء الأَول بين رودان وكميليا، كان لدى رودان عدد من النحاتين يعملون له في محترفه، إِنما لم يرْقَ أَحد منهم إِلى مرتبة أَكثر من منفِّذ رسوم. وهو كان منذ 1879 -بتكليف من “متحف الفنون التزيينية”- يعمل على منحوتته الكبرى “بوابة الجحيم”، وهي تمثل بابًا كبيرًا من البرونز ليكون باب المتحف عند تدشينه سنة 1882 في مقر المجلس العدلي الذي كان احترق سنة 1871 بنيران الثورة.

استلهم رودان موضوعه من رائعة دانتِه “الكوميديا الإِلهية”، وجعل في الباب أَكثر من 200 تمثال صغير لإِظهار العذاب والشغَف في الجحيم. وهذه المنحوتة ستكون لاحقًا رائعته الخالدة بين جميع أَعماله قبلها وبعدها. وبدخول كميليا محترفه، يجوز أَن كانت له “موديل” أَكثر من شخص بين تلك التماثيل، وقد تكون يدًها عملَت أَيضًا على عدد منها.

سنة 1884 انضمّت إِلى فناني المحترف النحاتة الإِنكليزية جيسي ليبْسْكومْبْ. وسرعان ما أَصبحت صديقة كميليا، ولم تهتزّ صداقتهما حتى في أَصعب مراحل العلاقة بين رودان وكميليا، بل غالبًا ما كانت الوسيطة بينهما في حالات الخلاف.

كميليا تعمل وتبدو صديقتها جيسي

بقي يساكن عشيقته

لا تاريخ محدَّدًا لبدء “العلاقة الحميمة” بين رودان وكميليا. الأَرجح أنه 1884، أَي فور الْتقيا وطلب منها أَن تكون مساعدته في المحترف.

سوى أَن رودان كان، منذ 1864 (سنة ولادة كميليا)، يعيش مع روز بوريه Beuret المرأَة التي بدأَت موديلًا أَمامه، ثم مدبرة منزله ثم صارت عشيقته. ولم يتزوّجا إِلَّا سنة 1917 (قُبَيْل وفاته). وكانت، لفترة قصيرة، عملَت في الخياطة لمساعَدَته على المصروف إِذ كانت مداخيله قليلة.

عاشا معًا في بلجيكا حتى 1870 ثم انتقلا إِلى باريس. كانت روز تقدِّر أَنه على علاقة حميمة مع النساء والصبايا “موديلاته”، لكنها كانت واعيةً أَن رجلًا في مزاج رودان وطاقته الإِبداعية القوية لا يمكنه أَن يكتفي بالعلاقة الباردة العادية كأَيِّ تاجر أَو مقاول. وسعى رودان أَن يقيم علاقة مع كميليا من دون أَن تتنبَّه والدتُها إِلى ذلك. لذا كانا يتصرفان بسرية تامة، حتى أَن والدة كميليا ذات يوم دعت “السيد رودان وزوجته السيدة روز” إِلى غداء لديها.

بداية عرض منحوتاتها

منحوتة “رأْس مدام ب” أَنجزتها كميليا تحت إِشراف رودان، وقبِلَتْها “جمعية الفنانين الفرنسيين” في معرضها السنوي (أَيار من كل عام). وفي شُرعة الجمعية أَن كل تمثال ينال جائزة في المعرض تقتنيه الدولة، وكانت الحكومة توصي على أَعمال جديدة من الفنانين الذين نالوا الجائزة الأُولى. ومع أَن عددًا كبيرًا من أَعمال النحاتات كان مقبولًا للمشاركة في المعرض، نادرًا ما كان تمثال نحاتة ينال جائزة.

بين 1884 و1888 عاشت كميليا وجيسي حياة بوهيمية باريسية كما كان الجو الباريسي عهدذاك. فحين لا تكونان في المحترف تعملان، كانتا تتسكَّعان في شوارع باريس، تزوران متحف اللوفر وقصر فرساي وحديقة اللوكسمبورغ، وتستريحان بعد الظهر في مقهى وتدخنان، إِذ كانت موجة تدخين النساء رائجة عهدذاك ومستفِزَّة.

سنة 1885 أَنجزَت كميليا تمثال رأْس شقيقتها لويز، وسنة 1888 أَنجزَت رأْس صهرها فردينان دو ماساري. وعامئذٍ كذلك، أَنجزت تمثال ساكونتالا (عن أُسطورة هندية حول عاشقين مرغمَين على الانفصال يتعانقان للمرة الأَخيرة). عرضته في معرض الجمعية ونالت عليه تنويه اللجنة التحكيمية.

رودان: “باب الجحيم”

مناقشات في المحترف

في المحترف، غالبًا ما كانت تحصل مناقشات حول أُسلوب النحت وتشارك فيها كميليا. وكان رودان يوجّه طلَّابه دومًا كيف ينحتون اليدين والقدمين لأَن منها تتَّخذ المنحوتة شكلها السليم. وفي المحترف كانت كميليا وجيسي تهيئان القوالب، وتكبِّران التصميم الأَول أَو تصغِّرانه، وتضعان تصاميم ودراسات لمنحوتات كبرى ينجزها رودان مثل “بوابة الجحيم” وبورجوازيو كاليه”. وفي مبادئ رودان أَن يتم نحت الشخص عاريًا ثم يصار إِلى نحت ردائه.

كان عمل كميليا في المحترف أَهمَّ من عمل الباقيات. هؤُلاء كُنَّ يعملْنَ على نحت الرداء، بينما كان على كميليا أَن تنحت اليدين والقدمين. وغالبًا ما كان رودان يستشير كميليا في بعض الشؤُون المتعلقة بإِنجاز عمل جديد. هكذا، في تلك الفترة الأُولى، كانت علاقة رودان بكميليا مقتصرة على العمل النحتي. لذا كانت له اللمسات الأَخيرة على منحوتاتها ثم يوقِّعها باسمه، ما خلق في تلك الأَثناء خلْطًا بين الناحت الحقيقي: كميليا؟ أَم رودان؟

لكن ذلك لم يكُن يزعج كميليا التي بدأَت تشعر بشعلة حُب تجاه رودان أَقوى من لمسات إِزميله.

كيف بدأَت تتجلَّى تلك الشعلة؟

هذا ما أُفصّله في الجزء التالي من هذا المقال المتسلسل.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى