جنين: فَشَلٌ إسرائيلي غَير مُعلَن

محمّد قوّاص*

تَكشُفُ العمليةُ العسكرية الإسرائيلية ضدّ مُخَيَّم جنين عن إمعانٍ إسرائيلي في التعاملِ مع الحالةِ الفلسطينية تعامُلًا أمنيًا صرفًا، وعن تصاعُدِ إجماعٍ مُجتَمعي وسياسي داخل إسرائيل ينفُرُ من أيِّ تفسيرٍ سياسي يُنتِجُ مُقاربةً سياسيةً ما للصراعِ مع الفلسطينيين.

تستفيدُ إسرائيل من بيئةٍ داخلية غابت داخلها فضاءات سلموية وتراجعت في ثناياها أحزاب اليسار وتمدّداتها داخل المجتمع المدني. ولئن ينتقل الحكم في العقود الأخيرة من اليمين إلى اليمين، فإنَّ هيمنةَ التطرّف الديني والإيديولوجي الصهيوني على الكنيست والحكومة واجهةٌ مُضافةٌ لعقم العبور إلى مداخل سياسية لأهمّ صراعات الشرق الأوسط. وليس صحيحًا أنَّ معركةَ جنين الجديدة تتعلّق بطبيعة حكومة إسرائيل الحالية، بل بسياقٍ مُستَمِرٍّ منذُ عقودٍ انتهجته كلّ حكومات إسرائيل في التعاملِ مع الشأنِ الفلسطيني بصفته شأنًا أمنيًا إسرائيليًا.

تستفيد إسرائيل أيضًا من بيئةٍ دولية لا ترى في ردود الفعل رادعًا أو مانعًا للاستمرار في سياساتها الأمنية التي ما زال العقلُ السياسي الإسرائيلي يراها كافيةً لتقطيع الوقت، ما دام لا مصلحة لإسرائيل ولا جدلَ داخليًا أصلًا يَشي بإمكانِ العبور نحو مساراتِ التسوية والتفاوض.

وعلى الرُغمِ من توتّرِ العلاقة بين الإدارة الديموقراطية في واشنطن وحكومة بنيامين نتنياهو، ومن مواقف أوروبية، صينية وروسية داعية إلى استعادة العملية السلمية، غير أنَّ إسرائيل تستنتجُ بسهولة غضَّ طرفٍ وتفهّمًا لـ”حقّها بالدفاع عن نفسها”. ولا عجب في هذا السياق أن يُعلّقَ نتنياهو خلال كلمته في فعاليةٍ أقامتها السفارة الأميركية في القدس على العملية في جنين بقوله: “نحنُ نُحدّدُ الآن مُعادلةً جديدةً أمام الإرهاب… كل الوقت”.

تقيسُ إسرائيل إدارتها للصراع مع الفلسطينيين ببوصلة الكلفة. وسواء في حروبها في قطاع غزة أم تلك في الضفة الغربية، وعلى الرُغم من ارتفاع أكلافها مُقارنةً بحقباتٍ سابقة كانت تحتكر فيها الهَيمنة النيرانية، إلّا أنها ما زالت تراها استثمارًا مُربحًا تستطيعُ تحمّل أثمانه، خصوصًا إذا ما مورست العمليات الأمنية بجرعاتٍ لا تستدرج تحرّك “وحدة الجبهات”. وتهدفُ إسرائيل من عمليتها في جنين هذه الأيام إلى استعادة “هيبة” فقدتها قبل أسابيع هناك، حين تعرّضت إحدى مركباتها العسكرية لتفجيرٍ واستغرقَ إنقاذُ جنودها ساعات لإخراجهم من مسرح العمليات.

كرّرت إسرائيل من منابرها العسكرية وحتى على لسان نتنياهو أنَّ العمليةَ محدودةُ الأجل. والواضحُ أنه كلّما كانت العملية سريعة وقصيرة الأمد ولا تُسبّبُ كوارثَ إنسانية كبرى مُحرِجة، فإنَّ إسرائيل ستتجنّب الضغوط الخارجية، سواء على مستوى العواصم أم المنظمات الدولية الحقوقية أم الرأي العام العالمي. والواضحُ أيضًا أنَّ زَجَّ أعدادٍ ضخمة من القوات والتهويلَ بضخامةِ القوى الضاربة والترويجَ لنجاحٍ في تحقيق الأهداف بأقل الخسائر البشرية، تضمن ترحيبًا لدى الرأي العام الداخلي وصمتَ المجتمع الدولي.

دارت العملية العسكرية في جنين وَسطَ ردودِ فعلٍ فلسطينية مُتَوَقَّعة لم تُفاجئ إسرائيل. فما صدر عن السلطة الفلسطينية من مواقف تُعلن “وقف جميع الاتصالات واللقاءات مع الجانب الإسرائيلي والاستمرار في وقف التنسيق الأمني” ليس جديدًا خارج الاحتمالات التي وضعتها حكومة نتنياهو. كما إنَّ المواقف التي صدرت عن حَرَكَتَي “حماس” و”الجهاد”، حتى تلك التي تتوعّدُ برَدٍّ شامل إذا ما تجاوزت إسرائيل “الخطوط الحمر”، جاءت مُطَمئنة لإسرائيل، لجهّةِ أن لا نية قبل تجاوز تلك الخطوط (القابلة للاجتهاد) لتحريك جبهة غزة في ظلِّ غيابِ أيِّ موقفٍ يتوعّدُ (ولو بالإيحاء) بتحرّكِ جبهاتِ الشمال من سوريا ولبنان.

تعاملت الدوائر العربية والدولية مع الحدث بصفته موقتًا محدودًا لن يتطوّرَ إلى حربٍ كبرى لا أحد يريدها في العالم. ووفق ذلك تَخرُجُ المواقفُ العربية والإسلامية والدولية المُنَدّدة المُستَنكِرة بمستوياتِ حدّةٍ مُتفاوتة وبالدعوة إلى التهدئة وإنهاء إسرائيل لهجومها. وإذا ما ينحو العالم باتجاهِ عدمِ نشوبِ حربٍ كبرى في زمنٍ تحتكر فيه حرب أوكرانيا عنوان التحوّلات، فإنَّ إسرائيل تؤكد في حربها في جنين، وربما من حيث لا تدري، أنَّ فلسطين ما زالت في قلب الصراع الوجودي لإسرائيل نفسها.

في الحصيلة، ورُغمَ طابعها الاستعراضي والتدميري، لا تقرُّ إسرائيل بأنَّ العملية فشلت ولم تُحقّق هدفها الحقيقي بـ”تطهير” المخيم من المقاتلين. أظهرَ الحدثُ جيلًا من المقاتلين الذين يتحركون وفق قواعد العقل من دون الوقوع في شرك الانفعال. إنسحبَ المقاتلون وابتعدوا من مواجهةٍ مجّانية خاسرة، مُنتظرين انسحاب المهاجمين من دون تحقيقِ هدفهم الأساسي الأوّل.

لم تستطع العمليات العسكرية منذ عشرين عامًا حتى الآن التخلّص من عبء مخيم جنين. ولم تستطع إسرائيل قبل ذلك التخلّص من عبء قطاع غزة حتى عندما انسحبت منه وجعلته مُحاصَرًا. ولم تستطع إسرائيل بالقبضة العسكرية إخضاعَ المدن على ضفتَي الخط الأخضر، كما لم تستطع قَطعَ خطوطِ الوصل بين داخل وخارج وشتات لوأدِ فلسطين قضيةً للفلسطينيين جميعًا.

يُمثّلُ المخيّمُ حكايةً فلسطينيةً كاملة. أُقيمَ في العام 1953 في الحي الغربي لمدينة جنين، وهو يُعَدُّ ثاني أكبر مخيم لاجئين في الضفة الغربية بعد مخيم بلاطة. تطوّرَ على مرّ السنين وبات يستوعب أعدادًا تتجاوز رقم الـ25 ألف نسمة الذي أعلنته إحصاءات سنة 2005. وقد ضمَّ المخيّمُ في الأصلِ لاجئين قدموا من مدينة حيفا وغيرها من بلدات جبل الكرمل. ولا تنسى إسرائيل نكستها في العام 2002 حين تكبّدت في هجومها على المخيم خسائر بشرية وصلت إلى 25 قتيلًا ما بين ضباط وجنود.

على أنَّ دروسًا وُجِبَ أن تُستَخلصَ من معركة جنين.

أوّلها، الحرصُ على عدم استفرادِ المُخيّم وجعلِ قضيّته مُنفَصِلة معزولة عن البيئة الفلسطينية الكبرى. ويُسَجَّلُ للفلسطينيين بكامل تياراتهم الحرصُ على التعبير عن موقفٍ حاضنٍ داعمٍ لا يسمح بتمرير إسرائيل لفكرة التعامل بالمفرّق مع قضيةٍ واحدةٍ تجمعُ نابلس برام الله وغزة وحيفا والنقب.

ثانيها، العبورُ الذي باتَ ضرورة باتجاه ترشيق الجسم السياسي الفلسطيني، وجعله مُوَحَّدًا ينهي الانقسام وتعدد الأجندات.

ثالثها، الوصل مع الدائرة العربية بكلِّ توجّهاتها، والاندفاع على نحوٍ غير نمطي من أجلِ تكثيفِ الحضورِ الفلسطيني داخل أجندات الدول العربية جميعها، وتجاوز المواقف المُكرّرة التي تتمسّك بالثوابت في البيانات الصادرة عن اجتماعات جامعة الدول العربية.

ورابعها، أنَّ الحدثَ كشفَ تقدّمَ جيلٍ جديد من المقاومين، فيما لم تستطع القيادةُ الفلسطينية لدى كل الفصائل الفلسطينية تجديدَ دمها والدفعَ بجيلٍ يستجيبُ في السياسة لشروطِ الراهنِ في السياسةِ والميدان.

ولئن تُلملِم جنين جراحها وتستفيق على ما ألمَّ بها وبمخيّمها من مصاب، فإنَّ معاركَ أخرى مقبلة وفق الوعيد الإسرائيلي، سواء ضد جنين أم مدنٍ ومناطق أخرى، على نحوٍ بات يتطلب استعدادات وجب في السياسة والأمن والاقتصاد أن تدفعَ باتجاهِ ديناميات أخرى فلسطينية-عربية-إسلامية-دولية لفتحٍ آخر لهذا النفق.

والواضحُ أنَّ إسرائيل التي ستزعم أنها حقّقت أهدافها وتعملُ على تسويقِ الإنجاز لدى جمهورِ أكثر الحكومات عنصرية وتطرّفًا، ستُدرك في اليوم التالي لانتهاء العملية أنَّ لا شيءَ تغيّر، ولا شيءَ سيتغيَّر، ما دامت فلسطين هي قضية شعب وليست تفصيلًا أمنيًا داخل أجندات العقل الحاكم. وإذا ما أطلق نتنياهو اسم “البيت والحديقة” على العملية، فإن أهلَ جنين أثبتوا أنّهم أصحابُ البيت وأصحابُ الحديقة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى