رُغمَ ذَوَبانِ الجليد الإقليمي، لا يزالُ الصِراعُ يَلوحُ في أُفُقِ الشرق الأوسط

كابي طبراني*

جادَلَ العديدُ من المُتفائلين في الشرق الأوسط كما في واشنطن لبعض الوقت بأن الحكومات في المنطقة سوف تَجِد طُرُقًا جديدة لتبنّي الديبلوماسية والتعاون في ما بينها إذا احتلت القوى الأجنبية مثل الولايات المتحدة مقعدًا خلفيًا وقلّصَت وجودها في المنطقة.

في السنوات الأخيرة، شهدت المنطقة جولات من الديبلوماسية بالإضافة إلى الصراع. وأسباب هذا الصراع أتت، وما زالت تأتي، من داخل وخارج المنطقة. على عكس أجزاء أخرى من العالم حيث خفّضت القوى العظمى إنفاقها ونفوذها العسكري الشامل بعد نهاية الحرب الباردة، واصلت الولايات المتحدة التدخّل في الشرق الأوسط لعقودٍ عدة بعد ذلك، حيث بلغت هيمنتها في المنطقة ذروتها خلال غزو واحتلال العراق في العام 2003.

بحلول العام 2012، بعد الانتفاضات العربية، ترسّخت ديناميكياتٌ حتميّة في الشرق الأوسط. واصلت القوى العالمية الكبرى التدخّل عسكريًا في المنطقة، بينما فشلت في القيام باستثماراتٍ كبيرة وضرورية لمساعدة حكوماتها على توفير السلع العامة والضرورات الحياتية لمواطنيها. في غضون ذلك، استمرت مجموعة متزايدة من القوى الإقليمية الناشطة -قائمة تضمّ إسرائيل وإيران وتركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية وحتى مصر- بالتدخّل في شؤون جيرانها.

يبدو الآن أن هذه التدخّلات قد بلغت ذروتها. ولكن في حين أن ذلك قد يفتحُ نافذةً من الفُرَص لتهدئة الصراع، إلّا أنه قد يُمهّد الطريق لمزيدٍ من المواجهة في المدى الطويل.

على الصعيد الديبلوماسي، تستمر المفاوضات المُثمرة بين الأطراف المتحاربة في الصراع اليمني، الذي دخل عامه السابع الآن. زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الإمارات العربية المتحدة، خصم أنقرة السابق، في شباط/فبراير الفائت. قبل شهرين، ذهب إلى الرياض لإصلاح العلاقات مع المملكة العربية السعودية. ثم استضاف قبل أسبوعين ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في العاصمة التركية، حيث بدا مُتعَبًا ومُتَوَتِّرًا، لكنه ختم التقارب بينهما بشكلٍ رمزي بمصافحة، بعد أربع سنوات على مقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي في اسطنبول. وكان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في الرياض في الأسبوع  الفائت، للعمل على استئناف المحادثات التي توسّطت فيها بغداد بين السعودية وإيران. تهدف سلسلة الزيارات هذه إلى تعزيز التعاون الإقليمي والسلام تحسّبًا لفشل الجهود المبذولة لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، والذي يبدو أنه الآن في غرفة العناية الفائقة.

على الجبهة العسكرية، خفّت حدّة الحرب في ليبيا، لكن المأزقَ السياسي المستمر في البلاد يُهدّد بالعودة إلى القتال، بينما يستمر الصراع المفتوح بالاشتعال في أجزاءٍ من سوريا. لا يزال تنظيم “الدولة الإسلامية” يخوض اشتباكاتٍ مع قوات الأمن في كلٍّ من العراق وسوريا. كما تواصل الفصائل المتحالفة مع إيران – وفي بعض الحالات القوات الإيرانية نفسها – قصف أهدافٍ في العراق وخصوصًا في كردستان. من جانبها، تقصف إسرائيل بانتظام أهدافًا في سوريا تعود للميليشيات التابعة لإيران. ومما يثير القلق أن كل هذه الصراعات تتصاعد أو هي على شفير التصعيد، حيث باتت الحرب في اليمن – التي امتد وقف إطلاق النار فيها إلى الشهر الثالث – بمثابة نقطة مضيئة وحيدة.

تُعتَبَرُ إيران القوة الرئيسة لـ “محور المقاومة” الذي يضم العديد من الفصائل القوية في العراق، وحكومة الرئيس السوري بشار الأسد، والمتمرّدين الحوثيين في اليمن، و”حزب الله”، الذي يتمتّع بمركز قوة مُهَيمِن وغير مُقَيَّد في لبنان. وهذا المحور يواجه محوَرًا مُعارضًا يضم الآن تحالفًا شديد التماسك يضم إسرائيل والمملكة العربية السعودية والأردن والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى بعض الأطراف في دول أخرى في المنطقة.

لقد كسر شركاء وحلفاء واشنطن في الخليج التقاليد من خلال تنويع رُعاتهم، وإقامة شراكات أمنية مع روسيا والصين اللتين تُهدّدان بشكلٍ مباشر المصالح الأميركية في المنطقة. على عكسِ كلّ منطق، يُطالب هؤلاء الزعماء الآن بتحالفٍ ومعاهدة استراتيجية جديدة مع الولايات المتحدة، ويبدو أنه من المرجّح أن يحصلوا على ما يريدون خلال زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السعودية في منتصف هذا الشهر مع ضماناتٍ أمنية جديدة كبيرة، في الوقت الذي يبتعدون من الولايات المتحدة ويتحدّون تفضيلاتها ومصالحها السياسية.

على الرغم من التحرّكات الحالية لإخماد الخصومات والصراعات، فإن هذه الالتزامات الأمنية الجديدة والتحالفات الإقليمية الضخمة ستسبب مشاكل لواشنطن وكذلك للشرق الأوسط. لقد اكتسب العديد من القادة في كلتا الكتلتين الإقليميتين سمعةً مُستَحَقَّة عن تهوّرهم. إذا اعتقد هؤلاء أن لديهم دعمًا أقوى وتحالفات متنامية، فمن المرجح أن يسعوا وراء أهدافٍ عسكرية عدوانية بدلًا من السعي إلى وقف التصعيد واعتماد الديبلوماسية لإحلال السلام.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى