المسيحيون في لبنان: ما السَبيلُ إلى الخَلاص؟

يشعر المسيحيون في لبنان أنهم يواجهون تهديدًا وجوديًا، لكن المزيد من العزلة لن يقودهم سوى إلى الخراب.

ميشال عون: سهّل أكثر من أيِّ أحد آخر استيلاء “حزب الله” على الدولة بعد العام 2005.

مايكل يونغ*

أعلن رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، في مقابلة تلفزيونية أُجريت معه أخيرًا، أنَّ النظامَ السياسي في لبنان لا يمكن أن يستمرَّ كما هو راهنًا. وقد دفع فشلُ مجلس النواب في انتخاب رئيسٍ للجمهورية خلال جلسته الأخيرة جعجع إلى القول: “الإستنتاج […]  من جلسة اليوم هو أنه ليس بمقدور الدولة اللبنانية أن تستمرَّ بتركيبتها الحالية. يلزمها “تركيبة” أُخرى لكي نستطيع الخروج من المستنقع […] الذي نعيش فيه منذ سنين”.

بدأ جعجع، إضافةً إلى قادة مسيحيين آخرين بمن فيه خصمه الأساسي جبران باسيل، التعبيرَ عن دعمهم لشكلٍ جديد للنظام، يقوم على مبدَإٍ أساسي متمثّل في نظام أقل مركزية، ويتمتّع فيه المسيحيون بهامشٍ أكبر لإدارة شؤونهم الخاصة. وقد حثّ ذلك المسيحيين على مناقشة مجموعة من الخيارات، بدءًا من اللامركزية الإدارية، ومرورًا باللامركزية الإدارية والمالية معًا، ووصولًا إلى الفيدرالية، والتقسيم. تختلف إمكانية التطبيق العملي لكلٍّ من هذه الاقتراحات، لكن الرسالة المُبتغاة منها كلّها هي نفسها تقريبًا ومفادها أن المسيحيين لم يعودوا يشعرون بأن التطورات السياسية والاجتماعية في لبنان، وفي الشرق الأوسط عمومًا، تصبّ في صالح أقليتهم، ويريدون الانعتاق من هذا الوضع.

يمكن للمرء إنتقادَ أبعادٍ مُعينة لهذا الموقف، أهمّها أنَّ ما يُحرّك المسيحيين ليست الرغبة في تأسيس نظامٍ سياسي واجتماعي فعّال بقدر ما هو إضفاء طابع رسمي لطلاقهم مع المسلمين تحت اسمٍ آخر. وإذا كان الهدف الأساس هو الاتفاق على انفصالٍ دائم، فتصويرُ المسيحيين لموقفهم بأنه محاولة لإصلاح الدولة هو نفاق. ويتعيّن على القادة والمُرَوّجين المسيحيين التطرّق إلى هذا الالتباس الكامن في موقفهم. مع ذلك، فإن تجاهلَ التحدّي الذي يطرحه استياؤهم سيكون ضربًا من الحماقة.

واقعُ حال العقد الاجتماعي اللبناني الطائفي هو أن الطائفة المارونية أدّت دورًا رائدًا في تأسيس لبنان الحديث، الذي توطّدت أركانه من خلالِ تسويةٍ تاريخية مع الطائفة السنّية في الميثاق الوطني للعام 1943. لكن هذه التسوية انهارت في السبعينيات، ويُعزى ذلك في الدرجة الأولى إلى أن الطوائف غير المسيحية بدأت التشكيك في أُسُسِ هذا الميثاق، وسط تغييرات اجتماعية وديموغرافية متسارعة لم تعد تُبرّرُ التفوّق المسيحي. وشكّل هذا أحد أسباب الحرب الأهلية بين العامَين 1975 و1990، التي انتهت بطريقةٍ رسمية وقاسية من خلال اتفاق الطائف في العام 1989 وسيطرة السوريين على مناطق ذات غالبية مسيحية في تشرين الأول/أكتوبر 1990. الجدير بالذكر أن اتفاق الطائف أعاد توزيع الكثير من صلاحيات رئيس الجمهورية على الطوائف المُسلمة.

إذًا، من غير المفاجئ أن الكثيرين من المسيحيين يعتبرون اتفاق الطائف، وما نجم عنه من تعديلات دستورية، هزيمةً تاريخية. وقد ساهم الوجود السوري في لبنان لغاية العام 2005 في ترسيخِ هذا الشعور، حين حُكِمَ على قادة مسيحيين بارزين بالسجن أو بالنفي. وعندما غادر الجيش السوري وأجهزته الاستخباراتية البلاد في العام 2005، حلّت محله مشكلة معقدة بالقدر نفسه، وهي “حزب الله” المسلّح غير المُلتزم بالميثاق الوطني والذي كان ولاؤه الأساسي لإيران ومرشدها الأعلى. تحالف ميشال عون مع الحزب، لاعتقاده أن ذلك سيضمن له رئاسة الجمهورية، وكانت هذه خطوة تكتيكية ذكية آتت أُكلها على المستوى الشخصي، إلّا أنها في نهاية المطاف لم تُطمئن المسيحيين بأيِّ شكلٍ من الأشكال حول مستقبلهم في لبنان. وانتقلت البلاد من الهيمنة السورية إلى الهيمنة الإيرانية بالوكالة.

وإذ ينظرُ المسيحيون من حولهم، يبدو أنهم عادوا إلى الغرائز المتململة لأقلّية تشعر بأنها مهدَّدة وجوديًا. فقد ولّت الأيام التي تحلّى بها الموارنة بالثقة بالنفس التي دفعتهم ورجال دين طائفتهم بعد الحرب العالمية الأولى إلى بذل جهود من أجل الحصول على دولة موسّعة تضمّ عددًا أكبر بكثير من المسلمين، على الرغم من أن بعض المسيحيين حذّروا من أن الكفة الديموغرافية ستنقلب ضد طائفتهم خلال وقتٍ ليس ببعيد. بعدما كان المسيحيون طائفةً ذات آفاق واسعة، اتّبعوا منذ ذلك الحين أحد هذَين المسارَين القاتلَين لمستقبل طائفتهما: فهم إما تقوقعوا على أنفسهم ذهنيًا وروحيًا، أو هاجروا إلى خارج البلاد.

لكن، فيما يفقد المسيحيون إيمانهم بالعقد الاجتماعي الطائفي في لبنان وينكفئون، سيؤدّي هذا الوضع إلى نتيجةٍ قد تكون كبيرة بالنسبة إلى الطائفتَين السنيّة والشيعية. فمن نواحٍ عدة، لبنان من دون طائفة مسيحية نشطة لن يكون لبنان ببساطة. إضافةً إلى ذلك، من دون المسيحيين في الوسط، الذين باستطاعة الطائفتَين المسلمتَين الأساسيتَين المناورة حولهم، سيضطرّ السنّة والشيعة إلى التعامل مباشرةً مع بعضهما البعض. لا يشكّل هذا الواقع مشكلة في الكثير من الأحيان، لكن حين يتعلّق الأمر بقضايا وطنية حسّاسة، مثل سلاح “حزب الله”، قد يدفع ذلك الجانبَين إلى مواجهة سيكون من الصعب التنبّؤ بنتيجتها.

في ظل الظروف العادية، سيقود هذا الوضع إلى نقاشٍ وطني حول طرق تعديل النظام من أجل الكفّ عن استخدام مؤسساته كعوائق في لعبة قوّة طائفية مستمرّة. لكن طالما أن ل”حزب الله” اليد العليا، فمن غير المُرجّح أن يحدث ذلك. فنظرًا إلى أن الحزبَ لا يملك أي خيارات جيدة لدوره في لبنان في المدى الطويل، فليس لديه حافزٌ لإصلاح نظامٍ تفتح أوجه قصوره مجالات واسعة للحزب لمحاولة تحقيق أجندته السياسية. كذلك، لم يخفِ الحزبُ أبدًا ازدراءه للميثاق الوطني الذي لم تُمثَّل فيه الطائفة الشيعية. لكن المفارقة هي أن “حزب الله”، الذي سعى إلى تغيير النظام السياسي الطائفي في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، بات اليوم من أبرز المدافعين عنه، كما أثبتت معارضته العنيفة لثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019.

لن ينخرطَ “حزب الله” أبدًا في حوارٍ جدّي حيال تعديل النظام اللبناني، وذلك تحديدًا لأن هذا النقاش من شأنه أن يؤدّي إلى مطالبة الحزب بتسليم سلاحه. ثمة لبنان، وثمة لبنان “حزب الله”، ومن المستحيل أن يتعايش هذان اللبنانان معًا بانسجامٍ ما دام الحزب يحتفظ بسلاحه الذي ستعتبره سائر الطوائف دائمًا موجّهًا ضدها.

ما الذي تستطيع الطائفة المسيحية فعله حيال هذا الأمر؟ عليها، في المقام الأول، أن تُدرِكَ أن خلاصها لا يكمن في زيادةِ الإنعزالِ عن محيطها، بل في تقليله. إذا أراد المسيحيون الحفاظ على موقعهم في لبنان، فعليهم القتال من أجل ما تبقّى – من خلال إيضاح مبادئهم حول ما يُشكّلُ عقدًا اجتماعيًا لبنانيًا مُجديًا، من دون الانزلاق إلى حماقةٍ كبرى مفادها أن الانعزالَ الأكبر سيفضي، بطريقةٍ أو بأخرى، إلى أمنٍ أكبر. ترتبط التعدّدية في لبنان على نحوٍ وثيقٍ باستمرار الوجود المسيحي في البلاد، لكن يجب على المسيحيين أن يرغبوا في ذلك.

من سخرية القدر أن ميشال عون الذي سهّل أكثر من أيِّ أحد آخر استيلاء “حزب الله” على الدولة بعد العام 2005، حقّق أمرًا أساسيًا من خلال إظهاره للمسيحيين أنهم ما زالوا يحتفظون بالسلطة على الرُغم من اتفاق الطائف. لا يمكن اعتبار عون نموذجًا مثاليًا، ناهيك عن جعجع، فهذان الرجلان أوصلا المسيحيين إلى الخراب في فترة 1989-1990. لكن بعد التسبّب بكلِّ هذا الضرر، بإمكانهما التعويض عن ذلك. فوحدهم المسيحيون الذين لا يزالون مُنخرطين في تشكيلِ مصير لبنان ستكون لهم كلمة في النتيجة. أما أولئك الذين يبنون متاريس حول طائفتهم فسيتحمّلون مسؤولية هلاكها.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى