الثقافَةُ السِياسيّة الأردنية ودَورُها في عمليّةِ صنعِ القرار

مروان المعشّر*

سلّطَ غيابُ السياسي والمفكر الكبير المرحوم الأستاذ عدنان أبو عودة الضوء على أوجهِ قصورٍ واضحة باتت تعتلي عملية صناعة القرار في الأردن ولم تعد باستطاعة البلاد تجاهلها. ويبدو أن ميزاتٍ رئيسة يُفترَض توفّرها في المسؤول العام، وتُعتَبر من البديهيات في الدول الناجحة، باتت نادرة في الحياة السياسية الأردنية، بل لعلها أضحت غير مرغوب بها.

في غياب الحياة الحزبية القادرة على إنتاجِ ما يُمكن أن ندعوه بـ”المسؤول البرامجي” المتسلح ببرنامجٍ حزبي مُنتَخَب على أساسه، فإن الضرورة تقتضي، ريثما يتم الانتقال لحياةٍ حزبية حقيقية، أن تكون عملية صنع القرار مُدعّمة ببعض السياسيين القادرين على رفد العملية بتحليلٍ استراتيجي للأمور يُساعد صانع القرار على اتخاذِ القرار ضمن سياقٍ استراتيجي بعيد المدى، وليس استجابة لظرفٍ آني فحسب.

ليس بالضرورة أن يتمتّعَ كلُّ مَن يعمل في القطاع العام بمثل هذه القدرة التحليلية، ولكن غياب هذا العامل في صناعة القرار السياسي والاقتصادي يُنتجُ بالضرورة مواقف مُجتَزأة غالبًا ما تفتقر الى الرؤية الواضحة. بدلًا من تطوير هذه القدرة التحليلية، فقد شهد الأردن غيابًا أو تغييبًا لمثل هذا النوع من المسؤولين، وصل حدّ تسفيه كلّ مَن يُحاول التنظير السياسي أو تقديم أطر عامة لاستراتيجيات طويلة المدى.

وبالتدريج، بدأت ثقافة سياسية جديدة تتغلغل في عملية صنع القرار، لا تتوانى عن اتهامِ المُفكّرين والمُنَظّرين السياسيين إما بالسذاجة أو الجهل في أحسن الأحوال، أو أكثر من ذلك بكثير في أسوَئها، حتى بات التنظير السياسي تهمة بدلًا من وجوب كونه ركنًا أساسيًّا في عملية صنع واتخاذ القرار. إن التنظيرَ السياسي المبني على منهجيَّةٍ علمية وبُعدٍ ثقافي عميق وخبرة عملية يُمثّلُ أعلى درجات الحكمة في المجتمعات الحيّة، ويكفيني هنا أن أشير إلى مثال السياسي الأميركي هنري كيسنجر، برغم اختلافي العميق مع طروحاته، الذي تحظى آراؤه باهتمامٍ كبير داخل المجتمع الأميركي رُغم تركه الحياة العامة قبل أكثر من خمسة وأربعين عامًا.

أما الميزة الثانية الآخذة في الأفول في الحياة السياسية الأردنية فهي غياب المطبخ السياسي القادر على دراسة وتمحيص المواضيع من كافة جوانبها، والقدرة ليس فقط على الاختلاف في الرأي، ولكن أيضًا عن التعبير عن هذا الاختلاف بوضوحٍ وجرأة، حتى وإن أدّى ذلك الى استياء صاحب القرار. إن الاختلافَ في الرأي ظاهرةٌ صحّية للغاية، بل ركيزة أساسية في عملية صنع القرار المُستَنير الذي لا يعتمد على رأي شخصٍ أو جهة أو تيار دون غيره.

وفي حين لا أزعم بأن مثل هذا المطبخ السياسي وصل مرحلة متقدمة في أيٍّ من مراحل تطوّر الدولة الأردنية، لكنني أستطيع أن أزعمَ أنه حتى وجود مثل هذا المطبخ مشكوك فيه اليوم. إن أيَّ قارئ ليوميات عدنان أبو عودة، أو مذكرات طاهر المصري أو مضر بدران، أو مذكرات السيدة نوزت شاكر عن حياة المرحوم الأمير زيد بن شاكر، حتى وإن احتوى بعضها مُبالغاتٍ مزعومة، تُشيرُ بوضوحٍ إلى أن درجة الاختلاف في الرأي والتعبير عنه أمام جلالة الملك، وعدم الخوف من ذلك، بلغت مرحلة مُتقدّمة أكثر بكثير مما نشهده اليوم على الرغم من دعوات جلالة الملك المُتكررة لمثل هذا النوع من المصارحة والجرأة في إبداء الرأي.

لقد وصلنا الى حالة لا يوجد فيها وعاءٌ حقيقي ومُنتظم وصريح، يستطيع المسؤول فيه التعبير عن رأيه الصريح بثقةٍ ودون خوف، بل تمّ تطوير ثقافة سياسية مفادها أن الأفضل للمسؤول أن يترك رأيه الصريح لنفسه إن أراد المحافظة على منصبه وعدم الإضرار بمصالح وحياة المُقرَّبين إليه. ولم يعد في الدولة الكثير من صنف المٌحلّلين او المُتمتعين بالجرأة، بل اختُزلت عملية صنع القرار من خلال إدارة الدولة بالقطعة، والاهتمام بحلِّ المشاكل اليومية، وبدون أُطُرٍ استراتيجية واضحة أو دراسة مُعَمَّقة للقرارات.

إن الدلائل على ذلك كثيرة، من مقاربة العلاقة مع إسرائيل حيث التناقض الواضح بين التقارب الاقتصادي معها وما يُفترَض أنه تباعد سياسي، وبين القدرة على حلِّ التحدّيات الاقتصادية حيث لم ننجح في تخفيض البطالة أو العجز رُغم أكثر من ثلاثين عامًا من الإصلاح الاقتصادي، أو الموقف المُتردّد من عملية إصلاحٍ سياسي تُنادي من جهة بحياة سياسية حزبية، وتُعرِبُ في الوقت نفسه عن خوفها من هذه الحياة.

لا تتم خدمة جلالة الملك، أو الوطن، إن تمَّ السماح لمثل هذه الثقافة في استمرار انزلاقها نحو الأحادية والانغلاق.

نحنُ اليوم أمام واقعٍ دستوري جديد أُنشئ بموجبه مجلس أمن قومي. من المؤمّل أن يتولّى هذا المجلس مهمة المطبخ السياسي الذي أشرت إليه، شرط أن يكون هيئة استشارية تابعة للسلطة التنفيذية، وليس بديلًا منها، وأن تكون مهمته الرئيسة وضع كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية في أيِّ قضيةٍ تتعلّق بالأمن الوطني أمام صانع القرار لاتخاذ القرار المناسب بشأنها عوضًا عما كان يجري سابقًا حيث كانت الجوانب الأمنية هي المُهَيمِنة على عملية صنع القرار. المطلوب اليوم أن يكون هذا المجلس مُسانِدًا لعملية اتخاذ القرار الأمني والدفاعي والخارجي من طريقِ إشراكِ كافة الجهات المعنية بهذا القرار في صنعه، وعدم تركه للقرار الأمني البحت كما كان الحال في السابق في غالب الأحيان.

يحتاج الأردن اليوم، ريثما تنضج الحياة السياسية الحزبية، إلى تخطيط استراتيجي والجرأة في إبداء الرأي المُستَنير. كما يحتاج الى وقف التدهور الحاصل في الثقافة السياسية الحالية ودورها في عملية صنع القرار. فتحديات الأردن الجمّة لا يُمكنُ حلّها بالقطعة ولا بالمواقف المرعوبة. نُدينُ بذلك للوطن، كما نُدينُ به لمستقبل الأجيال المقبلة.

  • مروان المعشّر هو نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، حيث يشرف على أبحاث المؤسسة في واشنطن وبيروت حول شؤون الشرق الأوسط. شغل منصبَي وزير الخارجية (2002-2004)، ونائب رئيس الوزراء (2004-2005) في الأردن، وشملت خبرته المهنية مجالات الديبلوماسية والتنمية والمجتمع المدني والاتصالات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى