فلسطين على شفا الهاوية

فيما الشرق الأوسط يشتعل، تحاول إسرائيل إستغلال الظروف لقضم أراض فلسطينية أكثر وبناء مستعمرات جديدة أو توسيع القديمة، غير حافلة بما آلَ إليه الوضع الإقتصادي والإجتماعي في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي نشر الإحباط بشكل حاد وحدا بقسم كبير من الفلسطينيين بالتمرد على سلطتهم في رام الله والعودة إلى العنف ولو فردياً.

الرئيس محمود عباس: في مأزق
الرئيس محمود عباس: في مأزق

رام الله – سمير حنضل

في 31 كانون الثاني (يناير) الفائت، قاد أمجد السكري، الوالد الفلسطيني لأربعة أبناء، سيارته قاصداً نقطة تفتيش عسكرية إسرائيلية خارج مدينة رام الله في الضفة الغربية. وفيما إقترب مما يُعرَف محلياً بمعبر “الشخصيات المهمة” “VIP” – يستخدمه عادة العاملون في المجال الإنساني والديبلوماسيون ورسميو السلطة الفلسطينية – سحب السكري، الذي كان ينتمي إلى أمن المدّعي العام في رام الله، مسدساً وأطلق النار على ثلاثة جنود مما أدى الى إصابتهم، قبل أن يقتل نفسه.
الواقع أن هجوم السكري قد سجّل للمرة الثانية في الأشهر الأخيرة إقدام ضابط أمن من السلطة الفلسطينية على إطلاق النار على إسرائيليين. كانت المرة الأولى في كانون الاول (ديسمبر) 2015، عندما أطلق ضابط مخابرات فلسطيني النار وقتل جنديين إسرائيليين على حاجز حزما قرب مدينة القدس. مازن حسن عريبة، وهو أيضاً أب لأربعة أطفال، قُتل في مكان الحادث، حيث عُرف في ما بعد أنه إبن حنان شقيقة صائب عريقات، المفاوض الفلسطيني الرئيسي لإتفاقات أوسلو في العام 1993، التي أدت إلى إنشاء السلطة الفلسطينية.
وقعت هاتان الحادثتان خلال موجة من الطعن وغيرها من الهجمات ضد الإسرائيليين، ومعظمها كان من الشبان الفلسطينيين الساخطين، بدأت في تشرين الأول (أكتوبر) 2015. وخلال هذه الفترة، فقد قتل أكثر من 180 فلسطينياً و28 إسرائيلياً. ويعكس هذا العنف، وخصوصاً من قبل المسؤولين في السلطة الفلسطينية، مستوى غير مسبوق من الشعور بالضيق والإنزعاج اللذين خيّما على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. مع عدم وجود نهاية في الأفق للإحتلال الإسرائيلي، وإقتصاد منهار، فإن الوضع لم يعد يُحتمَل بحيث أن حتى قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي تعتمد عليها السلطات الإسرائيلية كخط دفاعها الأول، بدأت تتحوّل ضد إسرائيل. وكان لكل من السكري وعريبة عائلة ووظيفة ثابتة، لكنهما وجدا صعوبة متزايدة في تجاهل الطبيعة المتناقضة لعملهما اليومي كضباط أمن – التنسيق مع الجيش الإسرائيلي فيما هو ينفذ عمليات إعتقال وقتل بحق الفلسطينيين الآخرين بشكل شبه يومي.

علاقة “مقدسة”

بعد التوقيع على إتفاقات أوسلو، بدأت إسرائيل والسلطة الفلسطينية التنسيق حول القضايا الأمنية. وبتمويل وتدريب من أميركا والإتحاد الأوروبي، نمت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية بشكل كبير — ليس فقط من حيث العدد، ولكن أيضاً في المسؤوليات المُسنَدة إليها، مثل وقف المتظاهرين الفلسطينيين ومنعهم من الوصول إلى المنشآت العسكرية الإسرائيلية. كما إتُّهمت قوات أمن السلطة الفلسطينية بسحق المعارضة السياسية الداخلية.
ساءت العلاقات الأمنية خلال الإنتفاضة الثانية 2001-2005 بعدما ثار الفلسطينيون ضد ما إعتبروه تطبيع الإحتلال الإسرائيلي. في العام 2002، توقفت المحادثات بين إسرائيل والفلسطينيين على الحل القائم على إقامة دولتين، وغزت القوات الإسرائيلية الضفة الغربية، وقامت بتدمير مراكز الشرطة ووزارات السلطة الفلسطينية. وقد إستؤنفت العلاقات الأمنية بين الجانبين بعد وفاة ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية، في العام 2004، الذي خلفه محمود عباس في المنصبين. وفي العام 2005، عينت الولايات المتحدة الجنرال كيث دايتون مبعوثاً خاصاً لإعادة تأهيل وإعادة تدريب قوات الأمن الفلسطينية. عباس، الذي كان دائماً واضحاً أنه يعتقد بأن الإنتفاضة الثانية كانت خطأ إستراتيجياً، تبنّى وأيّد دعم واشنطن لقطاع أمن السلطة الفلسطينية. في العام 2007، شرعت السلطة الفلسطينية ببرنامج رسمي لإصلاح القطاع الأمني من طريق مَركَزة جميع الميليشيات والجماعات تحت هيئة واحدة: قوات الأمن الوطني الفلسطيني.
وقد إستمرت هذه الهيكلية حتى اليوم، ولكنها نفّرت الكثيرين من العناصر المؤيدة والداعمة للسلطة الفلسطينية. وعلى الرغم من التهديدات المتكررة، فقد إستمر التعاون بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، حتى بعد وفاة زياد أبو عين، الوزير الفلسطيني الذي توفي في أواخر العام 2014 بعدما إعتدى عليه جندي إسرائيلي خلال حفل لغرس الأشجار في الضفة الغربية. وقبل بضعة أشهر فقط من وفاة أبو عين، قال عباس بأن التنسيق مع القوات الإسرائيلية في المسائل الأمنية شيء “مقدس”. وفي مقابلة نادرة في الشهر الماضي، كشف رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطيني، ماجد فرج، أنه منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2015، أحبطت السلطة الفلسطينية نحو 200 محاولة لشن هجمات ضد إسرائيل.

دولة قانون ونظام أو بوليسية؟

إن التصريحات مثل تلك التي أطلقها عباس — وإستمرار التسيق الأمني – قد ساهمت في إرتفاع مستوى الإحباط ضد النخبة السياسية الفلسطينية. مع وقف عملية السلام، والجمود السياسي، وتكاثر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، فقد رأى العديد من الفلسطينيين بأن قوات أمن السلطة الفلسطينية تمثل أداة لإدامة الإحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة. في إستطلاع حديث للرأي، قال 64 في المئة من الفلسطينيين أنهم يؤيدون إنهاء التنسيق الأمني مع إسرائيل، وأيّد الثلثان منهم الهجمات الحالية ضد الإسرائيليين. كما كشفت إستطلاعات الرأي أيضاً تراجع التأييد لعباس وحل الدولتين الذي ما زال يدعو إليه.
اليوم، تعاني السلطة الفلسطينية أزمة خطيرة تتعلق بالمساءلة والشرعية. لا يزال عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية على الرغم من أن فترة ولايته التي تمتد على أربع سنوات قد إنتهت في 25 كانون الثاني (يناير) 2009، ولكن تم تأجيل الإنتخابات إلى أجل غير مسمى بسبب خلافات بين حركتي “فتح” و”حماس”، اللتين تحكمان الضفة الغربية وقطاع غزة على التوالي. والبرلمان المنحل الآن، المجلس التشريعي الفلسطيني، لم يجتمع منذ العام 2007، حيث أن العديد من أعضائه محتجز في السجون الإسرائيلية لجرائم سياسية مختلفة، بما في ذلك عضوية “حماس”.
وقد تفاقمت أزمة السلطة هذه بسبب حملة القمع التي شنتها السلطة الفلسطينية حتى على المعارضة السلمية. قبل أسابيع قليلة فقط، تم إرسال ضباط أمن من السلطة الفلسطينية لوقف إحتجاج الآلاف من المعلمين الفلسطينيين للحصول على أجور ومزايا أفضل. وتنظم العضوة في المجلس التشريعي الفلسطيني نجاة أبو بكر، حالياً داخل البرلمان إعتصاماً بعدما حاولت الشرطة القبض عليها بعد تصريحات أدلت بها ضد الوزير الفلسطيني حسين الأعرج الذي إتهمته بالفساد.
وجاءت هذه الحوادث بعد إحتجاز أستاذ فلسطيني بسبب تصريحات أدلى بها خلال مقابلة على قناة “فضائية القدس” التي تبث من بيروت بشأن التنسيق الأمني. وقال عبد الستار قاسم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية، أن منظمة التحرير الفلسطينية فرضت إلزامياً عقوبة الإعدام على أولئك الذين “يتعاونون” مع إسرائيل. بعد فترة وجيزة، قبض عليه ضباط الأمن الفلسطينيون وإحتجزوه، متّهمينه بالتحريض على الفتنة. وقالوا بأن تعليقاته بلغت مستوى الدعوة إلى إغتيال عباس. وإعتبرت “فتح” تصريحات قاسم بأنها “دعوة لتدمير قاعدة وركائز السلطة الوطنية، ومقومات الدولة الفلسطينية”. وقال المتحدث باسم الحركة، أسامة القواسمي، “إن تصريحات عبد الستار قاسم تمثل دعوة إلى الفتنة”. وكان قاسم نفى أنه حرّض على قتل الرئيس عباس وقيادات الأجهزة الأمنية. وأفاد في بيان صحافي، بأنه “لم يدعُ إلى قتل أحد، وأن من ردّد هذه العبارات كان التلفزيون الفلسطيني الرسمي”، مؤكدًا أن ما جاء في البرنامج هو “كذب ولا أساس له”، بحسب قوله.
قاسم ليس وحده الذي شجب التنسيق الأمني الفلسطيني الإسرائيلي. في آذار (مارس) 2015، دعا المجلس المركزي الفلسطيني، ثاني أعلى هيئة تنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، لإنهاء التعاون الأمني مع إسرائيل. بعد أشهر عدة في تشرين الأول (أكتوبر)، صوّت المجلس المركزي الفلسطيني على وقف التعاون الأمني، مشيراً الى “عدم إلتزام إسرائيل المنهجي والمستمر بإلتزاماتها بموجب الإتفاقات الموقعة”. اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، التي يمكنها تنفيذ التوصيات الصادرة عن المجلس المركزي الفلسطيني، لم تتصرف ولم تنفّذ هذا التصويت.
اليوم، تنفق السلطة الفلسطينية ما يقرب من ثلث موازنتها على الأمن — تقريبا مساوياً للمبلغ عينه الذي يُخصّص لموازنتي الصحة والتعليم مجتمعتين. ويستخدم أيضاً قطاع الأمن نحو 40 في المئة من 145،000 العاملين على قائمة رواتب السلطة الفلسطينية. وعلى الرغم من أن التعاون الأمني لا يزال السمة المميزة لإدارة عباس، فإن إسرائيل تخشى من أنه يمكن أن ينهار في أي لحظة. عاموس هرئيل، المحلل العسكري للصحيفة اليومية الإسرائيلية “هآرتس”، وصف هذا “السيناريو بالكابوس الذي يثير قلق المؤسسة العسكرية الإسرائيلية”. وقال هاريل أن هذه المخاوف تأتي في ظل “فشل إسرائيل في. . . وقف الهجمات الفردية الأخيرة قبل أن تحدث”. إن إنهيار قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية سيتبعه من دون شك زيادة في مثل هذه الحوادث.
ويقول بعض الخبراء أن الجنرال الأميركي دايتون حذّر من مثل هذا السيناريو في العام 2009 عندما قال: “مع توقعات كبيرة، تأتي مخاطر كبيرة. هناك ربما حياة جانبية لمدة سنتين حيث يقال أنك تقيم وتبني دولة، عندما لا تكون تفعل ذلك”.

على مفترق طرق

على الرغم من الضغوط على عباس لإنهاء التعاون الامني، فمن الصعب التصور بأنه سيقوم بذلك عندما يكون وجوده في السلطة الفلسطينية يعتمد على إسرائيل. على هذا النحو، فقد كانت للسلطة الفلسطينية ردود فعل متباينة على الهجمات. بعد الهجوم الأول، قال رئيس المخابرات الفلسطينية فرج، “هناك فرق بين الأعمال الفردية والجماعية. . . في بعض الحالات، قد نرى الأفراد يتصرفون. . . حتى اليوم، نحن حقاً ما زلنا مؤسسة مستقرة. وسنواصل القيام بعملنا”. وفي الوقت عينه، قال أيضاً: “نحن حقاً على مفترق طرق. إننا نعتبر أنفسنا عاجزين عندما يغزو الإسرائيليون حيث نعيش. . . . ماذا يمكنني أن أقول لضباطي والشعب الذي من المفترض أن نحميه؟”.
وبالمثل، حذّر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بعد الهجوم الأول بأن هناك “شعوراً عميقاً بالإغتراب واليأس” في غزة والضفة الغربية، وخصوصاً بين جيل الشباب. إن “الإحباط الفلسطيني ينمو تحت وطأة نصف قرن من الإحتلال والشلل الذي أصاب عملية السلام”، قال، مثيراً غضب السياسيين الإسرائيليين. “وكما برهنت الشعوب المقهورة على مرّ العصور، فمن طبيعة الإنسان الرد على الإحتلال”، مؤكداً.
بعد أقل من أسبوعين على بيان بان كي مون وقبل ساعات فقط من قيادة السكري سيارته إلى معبر “الشخصيات المهمة” وجرحه ثلاثة جنود إسرائيليين، كتب في صفحته على “فايسبوك”، ناقلاً قولاً كتبه الشاعر الفلسطيني المشهور محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة. ولكن لا أرى أن هذا صحيح طالما أن الإحتلال يكمّ أفواهنا ويقتل إخواننا وأخواتنا. رحم الله شهداءنا، وضمّد جروحنا، وكسر أغلال أسرانا”.
وظل المجتمع الدولي إلى حد كبير صامتاً فيما ترد إسرائيل بقوة على هذه الهجمات. إن القوات العسكرية الإسرائيلية قد حوّلت القرى في الضفة الغربية والأحياء في القدس الشرقية، من حيث أتى المهاجمون، إلى مناطق عسكرية مغلقة، فارضةً الإغلاق وحظر التجول. حتى أنها دمرت منازل أسر المهاجمين. وعلى الرغم من أن كلاً من النقاد الإسرائيليين والأجانب قال بأن هذا الرد هو بمثابة عقاب جماعي ولا يعمل كرادع لهجمات في المستقبل، فإن السلطات الإسرائيلية لم تستمع أو تصغي لذلك. لقد وصل الجيل الحالي من الفلسطينيين إلى قناعة بأن وعد إقامة دولة لن يتحقق مطلقاً، وأن السلطة الحاكمة تضحّي بكرامتها ومستقبلهم للحصول على مستوى من الهدوء على الأرض. في هذا السياق، فإن جماعات العنف مثل “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، التي رفضت أن تأخذ مكاناً على طاولة المفاوضات رسمياً مع إسرائيل، تبدو أكثر قوة. في هذه الأثناء، لا يزال الوضع الراهن الهش يزداد هشاشة. ولكن إلى متى يستطيع الصمود؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى