كيف تستخدم الصين التكنولوجيا المالية للهَيمَنة الإقتصادية على العالم

بعدما وسّعت دائرة مساعداتها وقروضها المالية دولياً بهدف توسيع نفوذها، تسعى الصين الآن من خلال تطبيقات الدفع بواسطة الهاتف المحمول الصيني والتكنولوجيا المالية الرقمية للهيمنة الإقتصادية عالمياً وفرض اليوان كعملة احتياط دولية.

التكنولوجيا المالية: حصان طروادة صيني للهيمنة على العالم

بقلم ناديا شادلو وريتشارد كانغ*

في واحد من آخر قراراته كرئيس، أصدر دونالد ترامب أمراً تنفيذياً يُحظّر بموجبه ثمانية تطبيقات برمجية صينية، بما فيها “آليباي” (Alipay)، أكبر تطبيق للدفع عبر الهاتف المحمول في العالم. يجري سكان الصين، وبشكل متزايد في البلدان الأخرى، جميع أنواع المعاملات عبر “آليباي” و”ويتشات باي” (WeChat Pay)، وهو تطبيق آخر تم حظره بأمر من ترامب – بالنسبة إلى كل شيء بدءاً من دفع فواتير الكهرباء إلى شراء الطعام من الباعة الجائلين إلى التسوّق في المتاجر الراقية.

سعى حظر ترامب، الصادر في 5 كانون الثاني (يناير)، إلى معالجة المخاوف من أن هذه التطبيقات الصينية الشعبية قد تسمح لبكين بالوصول إلى بيانات حسّاسة عن الأميركيين. لكن هَيمنة الصين الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية، المعروفة أيضاً بال”فنتاك” (fintech)، تطرح مشكلة أكثر جوهرية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. لا يُمكن لواشنطن الوثوق في أن يقوم الحزب الشيوعي الصيني بتسخير نفوذه المتنامي في الأسواق المالية لصالح الجميع. على الأرجح، ستستخدم بكين التكنولوجيا المالية لاحتلال مكانة عالية في التجارة العالمية، وتعزيز الدولة المراقبة، ووضع الأساس لتحدّي الدولار الأميركي كعملة احتياطية في العالم.

حصان طروادة في هاتفك الذكي

بدأت تطبيقات الدفع عبر الهاتف المحمول في الصين كطُرقٍ مُمتعة وسهلة لإرسال هدايا العطلات “المغلف الأحمر” إلى العائلة والأصدقاء في العام القمري الجديد، لكنها سرعان ما ازدهرت لتصبح صناعة هائلة. يستخدم ملايين المستهلكين الصينيين تقنيات الدفع الرقمية في المعاملات اليومية. لقد قفزت الطبقة الوسطى المزدهرة في الصين من طريق بطاقات الإئتمان وانتقلت مباشرة إلى المدفوعات الرقمية، التي يتجاوز حجمها الآن 42 تريليون دولار سنوياً في الصين – ما يقرب من 150 ضعفاً حجم المعاملات الأميركية على تطبيقات مثل “باي بال” (PayPal) و”فينمو” (Venmo).

يُهدّد صعود شركات التكنولوجيا المالية الصينية بتقوية وتعزيز دولة المراقبة الأكثر انتشاراً في العالم. إن البيانات المُستَنفَدة من مليارات المعاملات الرقمية تُكمّل البيانات الموجودة من التعرّف على الوجه، وتاريخ البحث، واتصالات الشبكات الاجتماعية، وتُزوّد  الحزب الشيوعي الصيني مع نظام “جي بي أس” (GPS) بأختام الوقت والموقع والمكان، وتاريخ المعاملات، وسجلات السفر، وتفاصيل الحساب المصرفي، والمزيد. تتيح هذه المعلومات مُجتَمعةً للسلطات الصينية مراقبة أفراد ومجتمعات مُعَيَّنة عن كثب والتحكّم فيها من طريق تقليل أو إلغاء الوصول إلى الحسابات المصرفية، وتجميد طرق السفر، ومنع الدخول إلى مواقع مُحدّدة. للأسف، بدأت السلطات المالية في هونغ كونغ أخيراً مطالبة البنوك بالإبلاغ عن المعاملات لمساعدة السلطات في تحديد النشطاء المؤيدين للديموقراطية.

يشعر المسؤولون خارج الصين بالقلق بشكل مفهوم بشأن كيفية قيام السلطات الصينية بتسخير البيانات التي ينتجها المستخدمون في بلدانهم. تفتخر “آليباي” (Alipay) بمستخدميها في أكثر من 110 دول. وقد حذّر عضو البرلمان الهندي ناريندرا جادهاف في العام 2018 من أنه إذا تمكنت شركات التكنولوجيا المالية الصينية من الوصول إلى البيانات المالية لملايين الهنود والشركات الهندية، فإن ذلك سيعرض الهند إلى “مخاطر جيوسياسية خطيرة”. ودفعت مخاوف مماثلة إلى الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب في كانون الثاني) يناير بحظر “آليباي” “و”ويتشات” وتطبيقات البرامج الصينية الأخرى.

لكن هَيمَنة الصين في مجال التكنولوجيا المالية تَعِدُ أيضاً بتعزيز الطموحات التوسّعية للحزب الشيوعي الصيني بطريقة أخرى، مما يؤدي إلى ربط البلدان الأخرى بالإقتصاد الصيني. تعمل شركات التكنولوجيا المالية الصينية مثل حصان طروادة جغرافي إقتصادي. أولاً، تندمج “آليباي” و”ويتشات باي” – الشركتان اللتان تُشكّلان 95 في المئة من سوق مدفوعات الهاتف المحمول في الصين – في الحياة الاقتصادية اليومية في بلد آخر. بعد ذلك، من خلال الإستفادة من هذه البنية التحتية المالية، تحصل هاتان الشركتان وشركات صينية أخرى على تراخيص مصرفية رقمية وتتوسع بسرعة في قطاعات أخرى، بما فيها التأمين الرقمي والإئتمان الاستهلاكي والتحويلات والإقراض. سرعان ما تصبح هذه الشركات مندمجة في البلد المضيف بحيث يتعذّر إزالتها. في أوائل كانون الأول (ديسمبر)، على سبيل المثال، كانت ثلاثٌ من الشركات الأربع الفائزة (تم اختيارها من بين مجموعة من 21 شركة متقدمة) بتراخيص الخدمات المصرفية الرقمية في سنغافورة صينية أو مدعومة بشدة من قبل مستثمرين صينيين. لم تكن هناك شركات أميركية أو غربية أخرى مشاركة، مما ترك الساحة مفتوحة للصين.

إن محاولة بكين الهيمنة من طريق التكنولوجيا المالية في آسيا هي خطوة نحو هدف أكبر: تحقيق هيمنة عملة حتياط عالمية. في الخريف الفائت، توقّع مُحلّلون في شركة الخدمات المالية الأميركية “مورغان ستانلي” أن اليوان الصيني قد يتجاوز الين الياباني والجنيه الإسترليني ليصبح ثالث أكبر عملة احتياط في العالم بحلول العام 2030، وهو ما يُمثّل ما بين خمسة وعشرة في المئة من أصول احتياط النقد الأجنبي العالمي. إن بكين تعمل على تحدّي نفوذ الدولار الأميركي على جنوب شرق آسيا وأجزاء من إفريقيا حيث تستعد لإطلاق، على الأرجح في العام المقبل، يوان رقمي سيادي، ما سيجعل المعاملات أسهل ويُمكّن الصين أيضاً من تتبع كيفية استخدام عملتها بشكل أفضل .

يوان للجميع

سيتمكّن المستهلكون والتجار في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا قريباً من استخدام اليوان الرقمي على “آليباي” و”ويتشات باي”. في وقت لاحق، ستعمل التطبيقات كمُوَزِّعة لليوان الرقمي حيث ستجد الشركات المحلية أن استخدام اليوان أكثر كفاءة من الدولار في المعاملات مع الشركات الصينية. يُمكن أن يدفع الحزب الشيوعي الصيني بعد ذلك لاستخدام اليوان الرقمي بدلاً من الدولار الأميركي من قبل المؤسسات والشركات الأكبر التي تجري معاملات كبيرة، مثل سداد مدفوعات الفائدة وتمويل سلاسل التوريد.

لقد بدأ هذا التحوّل بالفعل – حتى قبل إصدار العملة الرقمية السيادية الجديدة للصين. مع نمو التجارة الثنائية بين بكين ودول جنوب شرق آسيا في العقود الأخيرة، نمت أيضاً حصة التجارة التي تتم باليوان الصيني، ما أدّى إلى تآكل حصة الدولار الأميركي في التجارة الثنائية. أشار دينو جلال، السفير الإندونيسي السابق لدى الولايات المتحدة، إلى أن التجارة الثنائية لإندونيسيا مع الصين في العام 2019 بلغت 79.4 مليار دولار، بزيادة عشرة أضعاف عن العام 2000، ما يجعل استخدام اليوان “أكثر جاذبية” للشركات الإندونيسية عند التعامل مع الشركات الصينية. وتضاعفت حصة اليوان في التجارة الثنائية بين الصين وإندونيسيا أربع مرات في السنوات الأربع الماضية.

ومن المتوقع أن تبدأ دول المنطقة قريباً زيادة حصة اليوان في احتياطاتها من العملات الأجنبية. وقد يُنذر مثال روسيا بمستقبل جنوب شرق آسيا في هذا الصدد. رفعت موسكو بشكل كبير حصة اليوان في احتياطاتها من أكثر من 2٪ في 2018 إلى أكثر من 14٪ في 2019. كما خفّضت حصتها من الدولار الأميركي من حوالي 30٪ إلى حوالي 10٪ خلال الفترة عينها. وانخفضت حصة الدولار في التسويات التجارية بين الصين وروسيا من 90 في المئة إلى 46 في المئة منذ 2016.

يمكن لليوان الرقمي الصيني أن يسحب المعاملات بعيداً من منصّات تبادل الأموال التي يهيمن عليها الغرب مثل “سويفت” (SWIFT)، وهي الآلية الرئيسية التي تُحافظ على هيمنة الدولار الأميركي في التجارة العالمية. وقد وصف مسؤولو الحزب الشيوعي الصيني نظام “سويفت” بأنه وسيلة للولايات المتحدة للحفاظ على “الهيمنة العالمية” وجني “أرباح ضخمة بفضل منصة الإحتكار”. يجب على المسؤولين الأميركيين أن يأخذوا التحركات الصينية في هذا المجال على محمل الجد. ويعتقد ماكس ليفتشين، أحد مؤسسي “باي بال” (PayPal)، أنه إذا لم تقم الولايات المتحدة بعملها كما يجب وجعلت نسخة رقمية من الدولار مُتاحة بسهولة أكبر، “فإننا نخاطر بترك اليوان الصيني بأن يصبح العملة الاحتياطية الرقمية في العالم”. ستفقد أميركا نفوذها وتأثيرها على العديد من البلدان إذا اختارت بشكل متزايد استخدام اليوان على الدولار.

توفير بديل

يجب على الولايات المتحدة أن تكون جادة بشأن تقديم بدائل لدول أخرى من شركات التكنولوجيا المالية الصينية، والاستفادة من قوة شركات التكنولوجيا الأميركية. ومع ذلك، كانت هذه الشركات بطيئة في إشراك نفسها في المنافسة المتزايدة مع الصين. إستثمرت كلٌّ من “أليبابا” (Alibaba) و”تنسنت” (Tencent) في 13 شركة أحادية للتكنولوجيا – شركة ناشئة تقدر قيمتها بمليار دولار أو أكثر – في جنوب شرق آسيا. على النقيض من ذلك، استثمرت “فايسبوك” “وباي بال” في أول لاعب في مجال التكنولوجيا المالية في جنوب شرق آسيا، “غوجيك” (Gojek)، في آذار (مارس) الماضي فقط. يجب ألا تخرج الشركات الأميركية مثل “فايسبوك” و”غوغل” و”باي بال” من أهم أسواق النمو في العالم، والتي تقع في الغالب في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. في غضون ذلك، تحتاج حكومة الولايات المتحدة إلى إيجاد طرق لتشجيع عمالقة التكنولوجيا لديها على الشراكة مع شركات التكنولوجيا المالية غير الصينية حول العالم. كما ينبغي أن تُحفّز كبار أصحاب رؤوس الأموال المغامرين في أميركا على الاستثمار بطرق تخدم المصالح الوطنية – تماماً كما تفعل الصين. في النهاية، تحتاج الولايات المتحدة إلى المساعدة على تزويد الدول ببديل من التبعية التكنولوجية للصين.

تُعَدُّ أنظمة المدفوعات التجارية الرقمية الشائعة والملائمة التي يستخدمها المستهلكون الصينيون يومياً جزءاً مُهمّاً من دولة المراقبة الاستبدادية التي تُحرّكها التكنولوجيا في الصين، وهو ما نطلق عليه “نظام التشغيل الصيني”. من خلال التكنولوجيا المالية، تعتزم الصين على المشاركة في مطالبة أكبر بالاقتصاد العالمي وكسب سيطرة أكبر على النظام المالي العالمي. لا يزال أمام الولايات المتحدة الوقت لتنتصر وتفوز في هذه المنافسة، لكن الفشل في التحرّك قريباً سيُجبرها على لعب لعبة اللحاق بالركب الصعبة.

  • ناديا شادلو هي زميلة في معهد هدسون وشركة “ميتر” (MITER) ورئيسة الجيوستراتيجيا في “بريسم غلوبال منجمنت” (Prism Global Management). وريتشارد كانغ هو المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “بريسم غلوبال منجمنت”.  
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى