غَزّة وثَورَةُ الجامعاتِ الأميركية

بينما يَحتَجُّ طلاب الجامعات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا، فإنَّ علاقةَ النُخَبِ الغربية بإسرائيل تجري إعادة تعريفها.

(نعمت) مينوش شفيق: هل تؤدي ثورة طلابها للإطاحة بها؟

مايكل يونغ*

أنتَ تَعلَمُ أنّكَ تنجحُ عندما تتحوّلُ الدراما الخاصة بك إلى دراما سيكولوجية أميركية. مع استمرارِ الطلاب في الولايات المتحدة في الاحتجاج على المذبحة التي ترتكبها إسرائيل في غزة وتدميرها لمساحاتٍ واسعة من القطاع لجعل الحياة هناك مستحيلة، أصبحت محنة الفلسطينيين قضيةً أخلاقية مركزية لجيلٍ من الشباب الأميركيين الذين لا يستطيعون تحمُّلَ رؤيةِ هذا العمل المُشين الفاحش المُستَمر.

لقد أرادت إسرائيل أن يكونَ رَدُّها الانتقامي لا يُنسى، حتى لا يُحاوِلُ الفلسطينيون مرةً أخرى شنَّ هجومٍ مثل ذلك الذي حدث في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت. ولكن، هناك نتيجتان لذلك. كُلَّما واصلَ الإسرائيليون قصفَ سكان غزّة بلا رحمة، أصبحَ الأمرُ أكثر إحراجًا لتلك المؤسّسات الأميركية التي تُعارِضُ سَحبَ الإستثمارات من إسرائيل – حيث أعربت جامعة كولومبيا عن هذا الرفض في 29 نيسان (أبريل).

على سبيل العزاء، عَرَضَت رئيسة جامعة كولومبيا، (نعمت) مينوش شفيق (المصرية الأصل)، “الاستثمار في الصحّة والتعليم في غزّة، بما في ذلك دعم تنمية الطفولة المُبكرة ودعم الأكاديميين النازحين”. كم هو كاشفٌ أنَّ شفيق، في تلك الجملة الواحدة، بدا وكأنها تعترفُ بأنَّ ثلاثةً من الأشياء التي أرادت إسرائيل تدميرها فقط في غزة هي قطاعَي الصحة والتعليم وعالم الأطفال الصغار.

والنتيجة الثانية هي أنه كلما زاد الدمار الذي يُلحِقهُ الإسرائيليون بغزّة، زادت شعبية “حماس”. يؤكّدُ أنصارُ إسرائيل، ولعلّهم على حق، أنَّ العديدَ من الدول العربية سوفَ تُرَحِّبُ بهزيمة “حماس”. ولكنَّ الزعماءَ العرب يُدركون أيضًا أنَّ غضبَ شعوبهم إزاء الوحشية الإسرائيلية في غزة سوف يُخَلِّفُ تأثيرًا مُرَوِّعًا على سلوكهم في المستقبل، الأمر الذي يَحُدُّ من هامشِ مناورتهم تجاه إسرائيل.

جاءت إدانةُ الطلّابِ المُحتَجّين بأشكالٍ عديدة. اتُهِموا بـ”معاداة السامية” ودَعمِ الإرهاب، بل وقد وصفهم أحدُ المحافظين الأميركيين المؤيِّدين لإسرائيل بأنهم “أبناءُ النُخَب [الأميركية] والأجنبية المُثيرين للشفقة والمحظوظين الذين يتظاهرون نيابةً عن المصالح السياسية للأنظمة المناهضة لـ[الولايات المتحدة] والمناهضة لإسرائيل”. إنَّ الحذفَ في هذا الاقتباس مُمَيَّز، ولكنه أيضًا حقيقةٌ أساسية تُسلّطُ الضوءَ عليه ولكن يبدو أنَّ المؤلف قد أغفل مضامينه. من الواضح أنَّ الاحتجاجات الطلابية لم تضرب وترًا حسّاسًا بين المدافعين عن إسرائيل فحسب، بل أثّرت أيضًا في أحكامهم.

إذا كانَ هناك أيُّ شيءٍ يُمكِنُ أن يُقالَ عن علاقة أميركا الخاصة مع إسرائيل فهو أنها تمَّ الحفاظُ عليها من قبل النُخَب السياسية والعسكرية الأميركية، التي دافعت عنها باعتبارها مُفيدةً للمصالح الأميركية. ما لا يستطيع منتقدو الطلاب المؤيدين لإسرائيل تحمّله هو أنَّ ما يشهدونه اليوم في الواقع هو خيانةٌ من قِبَل النُخَبِ الأصغر سنًا في الجامعات، أولئك الذين كان ينبغي أن يكونوا في “الحقيبة”. لقد أصبحت يقينياتُ الماضي المُتعجرفة موضعَ شكٍّ لدى صناّع القرار والمسؤولين وأصحاب النفوذ المُستَقبَليين، بحيث لم يعد التعاطف مع إسرائيل، الذي كان في متناول اليد في الماضي، مضمونًا. وقد أدى ذلك إلى اتساع الفجوة بين الأجيال، حيث أكد الطلاب أنَّ آراءَ آبائهم بشأن إسرائيل لم يَعُد لها وزنٌ كبير في ظلِّ ما يعتبرونه إبادة جماعية في غزة.

وقد تطرّق زميلي آرون ديفيد ميلر، وهو مفاوض أميركي في الشرق الأوسط لسنوات، إلى تداعياتِ ذلك في مقابلةٍ مع إسحاق شوتينر من صحيفة نيويوركر، عندما قال: “أوه، إذا كُنتَ تسألني: هل أعتقد أن جو بايدن لديه عمقُ الشعور والتعاطف نفسه تجاه الفلسطينيين في غزّة كما يفعل مع الإسرائيليين؟ لا، ليس لديه ذلك، ولا ينقله. لا أعتقد أن هناك أي شك في ذلك”.

ضمنيًا، كان في تصريحات ميلر إشارة إلى انفصالِ بايدن عن الواقع الجديد. وجاء ردّه بعد أن أشار شوتينر إلى أنَّ الرئيس غير قادر على الخلط بين خسائر الفلسطينيين والخسائر الشخصية التي تكبّدها في حياته، والتي كانت مختلفة تمامًا عن ردِّ فعله على الضحايا الإسرائيليين في 7 تشرين الأول (أكتوبر).

وكان هذا الانفصال بين رأي النخبة والجمهور واضحًا بعد وقتٍ قصير من بدء حرب غزة. في حين سارع بايدن والزعماء الأوروبيون إلى الدفاع عن إسرائيل بعد هجوم “حماس”، فإن مجتمعاتهم كانت أكثر تردّدًا في منح الإسرائيليين “شيكًا” على بياض. بعد مرور سبعة أشهر على الحرب، ارتفع عدد القتلى الفلسطينيين إلى أكثر من 30 ألفًا، وفقًا لمسؤولي الصحة في غزة، بينما تعترف الوكالات الحكومية الأميركية بأنَّ إسرائيل منعت الإمدادات الغذائية إلى غزة، ما تسبّبَ في مجاعةٍ “حتمية”. وفيما تواصل الحكومة الإسرائيلية إصرارها على أنها ستدخل رفح، حيث يعيش 1.5 مليون شخص، فإنَّ المتشككين هم الذين ثبت أنهم على حق، في حين أن المسؤولين الأميركيين والأوروبيين يتراجعون الآن عن موقفهم بسرعة.

قليلٌ من الأشياء قد يكونُ أكثر إثارة للغثيان من مشاهدة الساسة يقلبون المفتاح ويغيِّرون الاتجاه بسرعة. لنستمع إلى أورسولا فون دير لاين وهي تقول في 14 تشرين الأول (أكتوبر): “أوروبا تقف إلى جانب إسرائيل، ولإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها. في الواقع، من واجبها الدفاع عن شعبها”، أما تصريحها في وقت سابق من شهر آذار (مارس) بأنَّ “غزة تواجه المجاعة ولا يمكننا قبول ذلك”، فهو نفاقٌ محض. إذا كان هناك أيُّ شيءٍ دفع إسرائيل إلى ارتكاب جرائم حرب في غزة، فهو الدعم الصادق الذي تلقّته من أمثال رئيسة المفوّضية الأوروبية.

على نحوٍ مُماثل، فإنَّ سماعَ بايدن يصفُ القصفَ الإسرائيلي لغزة بأنه “تجاوَزَ الحدود”، ثم وافقت إدارته في وقت لاحق على تقديم مساعدات بقيمة 17 مليار دولار للجيش الإسرائيلي، يُظهِرُ لماذا الطلاب على حقّ في ازدراء قادتهم إلى هذا الحد.

يتعيّنُ على المرء أن يُشيدَ بالطلّاب المُحتَجّين في الجامعات الأميركية والأوروبية لأنهم رفضوا الخضوع لإداراتهم الجبانة، أو للساسة المُخادِعين الذين أمضوا أشهرًا في إعادة تكييف مواقفهم بشأنِ غزة لتتماشى مع مزاج ناخبيهم. وكما يرى الطلاب، لا توجد خفايا عميقة في جريمة القتل الجماعي التي يشهدونها يوميًا. أعرب طالب جامعة ييل، تشيساتو كيمورا، عن هذا الرأي في برنامج “عالم واحد” على قناة “سي أن أن”، قائلًا: “لكن في ما يتعلق بفَهمِ ما يحدث، فإنَّ العنف الذي يحدث ضد الفلسطينيين في غزة هو إبادة جماعية… قالت [محكمة العدل الدولية] إن هناك قضية معقولة، وهو أعلى قرار يمكن أن تتخذه في هذه المرحلة ، أن هناك إبادة جماعية تحدث. كما تعلمون، فقد أجمعَ المجتمع الدولي، من خبراء قانونيين ومحامي حقوق الإنسان وأكاديميين والعديد من الأشخاص، على الاعتراف بشكلٍ صحيح بأن ما يحدث هو إبادة جماعية. وأعتقد أن هذا مهم حقًا في تحديد سبب وجودنا هنا، لأننا نرى العنف يتم بثّه مباشرةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر وسائل الإعلام. وأعتقد أنه من المستحيل تجاهله”.

كان تعليق أحد المحاورين، بِيانا جولودريجا، الذي سلط الضوء بشكلٍ خاص في هذا المقطع، الذي ذكّر كيمورا، بأنَّ “إدارة بايدن، في وقت مبكر من هذا الشهر، قالت إنه ليس لديها دليل على ارتكاب إبادة جماعية في إسرائيل أو من قبل إسرائيل”. ويمكن للمرء أن يرى بوضوح كيف شعرت شبكة “سي أن أن” أنه كان عليها أن تدرج هذا التعليق المشكوك فيه في المناقشة، للتخفيف من حدة تصريحات كيمورا، كما لو إنَّ الإدارة التي تزود إسرائيل بالأسلحة اللازمة لقتل عشرات الآلاف من سكان غزة يمكن أن تكون صوتًا مستقلًّا ذا مصداقية في كل ما يتعلق بالعملية العسكرية الإسرائيلية الساحقة في غزة.

لا تزال النخب في الولايات المتحدة منغلقة إلى حدٍّ كبير على علاقتها بإسرائيل، حيث ترفض النظر في سحب الاستثمارات، وتقاوم أي استخدام لمصطلح “إبادة جماعية” لوصف ما يحدث، وتشعر بالإحباط إزاء عدم رغبة الطلاب في الانحناء ووقف احتجاجاتهم لأسابيع طويلة رُغمَ التهديدات الموجَّهة إليهم. ولكن ما يحدث في غزة واضح للغاية بحيث لا يمكن إخفاؤه في هذه المرحلة، كما إنَّ كلَّ التحرّكات الرامية إلى تعزيز الخط الرسمي في التعامل مع إسرائيل باءت بالفشل. إن غريزة التمرّد المثيرة للإعجاب لدى الطلاب قد تؤدّي، أو لا تؤدي، إلى تغييرٍ كبير، ولكنها تُمثّلُ فترةً جديدة في الكيفية التي ينظر بها الأميركيون إلى الفلسطينيين، بل وكيف ينظر الطلاب إلى أنفسهم وإلى بلدهم في العالم.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى