توقّعاتٌ صعبة للزواجِ غير السعيد بين تركيا والولايات المتحدة

بعدما كانت العلاقات الأميركية-التركية تمرّ بفترة صعبة إلى حدٍّ ما، فمن المتوقع أن تسوء أكثر بعد اشتعال حرب إسرائيل على غزة وإعلان الرئيس رجب طيّب إردوغان بأنَّ “حماس” هي حركة مقاومة وليست منظمة إرهابية.

حرب غزة: ستؤثر في العلاقات الأميركية-التركية.

هوارد آيسنستات*

طوالُ الجُزءِ الأكبر من العقد الفائت، ظلّت تركيا والولايات المتحدة عالِقَتَين في ما يمكن اعتباره زواجًا غير سعيد، اتَّسم بسوء التفاهم المرير وانعدام الثقة المُتزايد. وكان بعض المتفائلين يأملون في إمكانيةِ حدوثِ شيءٍ من إعادة ضبط العلاقات. كانت لديهم أسبابٌ للأمل، لكن تحليلهم كان على الأرجح ورديًا للغاية منذ البداية، والأحداث الأخيرة، سواء في الصراع التركي المستمر مع حزب العمال الكردستاني أو بسبب الآثار المتتابعة للحرب الإسرائيلية مع حركة “حماس”، تعني على الأرجح أن العلاقات الأميركية-التركية، بعيدة كل البعد من التحسّن، ومن المتوقع أن تصبح أكثر برودة في الأشهر المقبلة.

لإعطاء المتفائلين حقّهم، كانت هناك عواملٌ بدت وكأنها تدعم فكرة إعادة ضبط العلاقات. فاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعادة انتخابه في أيار (مايو)، ما عزّزَ حكمه للسنوات الخمس المقبلة على الأقل. ونظرًا إلى الضعف المستمر للاقتصاد التركي، فمن الواضح أنه يود أن يُثبِتَ للمستثمرين الأجانب والأسواق أن تركيا مستقرّة، وأن تحسين العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة من شأنه أن يقطع شوطًا طويلًا نحو تحقيق هذه الغاية. إن إعادة ضبط العلاقات مع الولايات المتحدة ستكون أيضًا متزامنة مع التقارب العام لتركيا مع القوى الإقليمية، بما في ذلك مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل. علاوة على ذلك، وافق أردوغان، في قمة حلف شمال الأطلسي في فيلنيوس في تموز (يوليو) من هذا العام، على قبول انضمام السويد إلى الحلف. وقد قدم الرئيس جو بايدن، في ما اعتبره الكثيرون مقايضة نظيفة، دعمه لشراء تركيا طائرات جديدة من طراز “أف-16” (F-16) بقيمة 20 مليار دولار، إلى جانب مجموعات ترقية لبعض أسطولها الحالي. وكان الصوت الرئيس المعارض لمثل هذه الصفقة في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السيناتور روبرت مينينديز، الذي عزل نفسه من اللجنة في أعقاب اتهامات بالفساد، وهو التطور الذي احتفل به قادة الدولة التركية بصوت عالٍ.

لا يوجد اتفاق بعد بشأن طائرات “أف-16” و السويد

حتى الآن، على الأقل، لم يتم تنفيذ المقايضة المُتَوَقَّعة بشأن طائرات “أف-16” وانضمام السويد إلى “الناتو”. في البداية، قال أردوغان إنه وافق على الصفقة، لكنه اعترض بعد ذلك، مشيرًا إلى أن القرارَ النهائي يعود إلى البرلمان التركي، وسيتعيّن عليه الانتظار حتى عودته من العطلة الصيفية في الأول من تشرين الأول (أكتوبر). وهذا بالطبع أمرٌ لا مفرَّ منه. نصف صحيح. نعم، يحتاج البرلمان إلى التصديق على انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي، ولكن لو كان يرغب في ذلك، لكان بإمكان أردوغان أن يستدعيه مرة أخرى لجلسة استثنائية نظرًا إلى الغالبية الساحقة لحكومته في المجلس النيابي، إلى جانب حقيقة أن معظم أحزاب المعارضة توافق أيضًا على انضمام السويد إلى “الناتو”، لكن يبدو أنه يريد أن تبقى القضية قائمة لهدفٍ ما.

في هذا الأسبوع فقط، في 23 تشرين الأول (أكتوبر)، قدم أردوغان بروتوكول انضمام السويد إلى البرلمان، وليس من الواضح، حتى كتابة هذه السطور، متى أو كيف سيرد البرلمان. في ظل الظروف العادية، لن تترك سيطرة أردوغان على الغالبية البرلمانية أي شك بأن البرلمان سيصوت كما يريد، لكن العملية المقبلة لا تزال غير واضحة. وقد يمضي البرلمان قدمًا ببساطة بشكل طبيعي، ولكن هذا يتطلب أن يكون لدى أردوغان الإيمان بأن الكونغرس الأميركي سيوافق على تزويد بلاده بطائرات “إف-16” في المقابل. ومن ناحية أخرى، ربما يفضّل السماح للبروتوكول بالبقاء في البرلمان إلى أن يوضّح الكونغرس نواياه. ومن جانبهم، لا يزال أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ يعربون عن بعض التحفظات بشأن الصفقة، وقد يفضل بعض الأعضاء انتظار تصديق تركيا على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي قبل أن يتّخذوا القرار. إذا بدت فرص التوصل إلى اتفاق هذا الأسبوع أكثر احتمالًا مما كانت عليه في الأسبوع الماضي، فلا يزال من غير الواضح ما هي النتيجة النهائية. لكن ما هو واضح هو أنه ما لم يتم التطرق إلى المأزق، فمن المرجح أن يزداد الاستياء في كلٍّ من أنقرة وواشنطن بشكل ملحوظ.

التوترات بين واشنطن وأنقرة بشأن الأكراد

السبب الرئيس الثاني للتوتر بين الولايات المتحدة وتركيا هو التحالف المستمر بين أميركا و”قوات سوريا الديموقراطية” (أو قسد)، التي ينتمي عنصرها الرئيس، “وحدات حماية الشعب”، إلى حزب العمال الكردستاني في تركيا. ولا توجد طريقة سهلة لحلِّ هذا الخلاف. ولسببٍ وجيه، ترى أميركا أن “قسد” هي محور حملتها ضد “داعش” في شمال سوريا. ولسبب وجيه بالقدر نفسه، ترى تركيا أن “قسد” مجرد امتداد لحزب العمال الكردستاني، الذي تخوض معه حربًا منذ ما يقرب من 40 عامًا، على حساب عشرات الآلاف من الأرواح، والذي تعتبره كل من تركيا والولايات المتحدة منظمة إرهابية.

مع ذلك، فإن لدى تركيا سببًا للتفاؤل على الجبهة الكردية. كان أداء حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد ضعيفًا في الانتخابات العامة التي جرت في أيار (مايو) 2023، وعسكريًا، استفادت تركيا من التزامها بحرب الطائرات المسيرة في حملة فعّالة للغاية ضد التمرد. وكانت عمليات حزب العمال الكردستاني محدودة ولم تتكبد تركيا سوى عدد قليل نسبيًا من الضحايا في السنوات الأخيرة.

على الرُغمِ من أنَّ عملية صنع القرار العملياتي لحزب العمال الكردستاني غامضة، إلّا أن قراره بتنفيذ هجومٍ انتحاري في أنقرة في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) جاء بمثابة مفاجأة. وبطبيعة الحال، انخرط حزب العمال الكردستاني في حروب المدن والهجمات الإرهابية في الماضي، ولكن الهجمات في المناطق الحضرية الكبرى كانت نادرة في السنوات الأخيرة. وبينما زعمت تركيا أن حزب العمال الكردستاني كان وراء تفجير تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 في إسطنبول، فإن القليل خارج تركيا يأخذون هذه الادعاءات على محمل الجد. لا يشير سوى القليل جدًا عن هذا الهجوم أو مرتكبيه إلى تورط حزب العمال الكردستاني، وقد أنكرت الجماعة نفسها مسؤوليتها. ومع ذلك، فمن الواضح جدًا أن الهجوم الذي وقع في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) كان من تنفيذ حزب العمال الكردستاني: فقد كانت أساليبه وهدفه نموذجيًا لهجمات حزب العمال الكردستاني، وعلى عكس هجوم تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، سارع حزب العمال الكردستاني إلى إعلان مسؤوليته. وردت تركيا بمضاعفة حملتها العدوانية بالفعل ضد حزب العمال الكردستاني والجماعات التابعة له في سوريا والعراق، والتي تشمل الآلاف من القوات البرية، والحفاظ على قواعد عسكرية في كل من العراق وسوريا، واستخدام القوة الجوية لمهاجمة وحدات حزب العمال الكردستاني. وفي 5 تشرين الأول (أكتوبر)، اقتربت طائرة تركية مُسَيَّرة من مواقع القوات الأميركية في سوريا؛ وبعد تحذيرات متكررة من القوات الأميركية، تم إسقاطها. وبغض النظر عما إذا كان هذا حادثًا لمرة واحدة أو عودة إلى التوترات المشحونة للغاية التي حدثت في العام 2017، فمن الواضح أن تركيز تركيا على تدمير حزب العمال الكردستاني والتزام الولايات المتحدة بإجراء عمليات مشتركة مع “قسد” في محاربة “داعش” سيظل نقطة أساسية من التوتر. وإذا كان الهجوم الذي شنه حزب العمال الكردستاني في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) في أنقرة نذيرًا بحملة أوسع نطاقًا، فسوف يصبح من الصعب على نحوٍ متزايد الحفاظ على الموقف الأميركي.

غزة

ربما يكون التهديد المباشر الأكبر للعلاقات الأميركية-التركية في الوقت الحالي هو رد فعلهما المختلف تمامًا على هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) والحصار الإسرائيلي اللاحق وحملة القصف العقابية ضد غزة.

في البداية، من المرجح أن تكون أنقرة قد حسبت أنَّ تجدّدَ الصراع بين إسرائيل و”حماس” سيحمل معه فرصةً أكثر من المخاطرة. وفي تكرارٍ لمحاولاتها لتثليث العلاقات مع أوكرانيا وروسيا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، قدمت أنقرة نفسها مرة أخرى كلاعبٍ إقليمي رئيس ووسيطٍ مُحتمل بين “حماس” وإسرائيل. على سبيل المثال، اقترح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أخيرًا أن تركيا قد تلعب دورًا كضامنٍ للتسوية من طريق التفاوض. لكن من الناحية العملية، تُعتَبَرُ قطر ومصر الوسيطين الأكثر احتمالًا في أيِّ مفاوضاتٍ مُحتملة بين الأطراف المتحاربة. والأهم من ذلك، أن الردَّ التركي على الصراع كان مؤيدًا تمامًا ل”حماس” لدرجة أنه من المحتمل أن يمنع أنقرة من لعب أي دور فعّال في وقف التصعيد.

تركيا هي واحدة من الجهات الفاعلة الإقليمية القليلة التي تتمتع بعلاقات دافئة مع “حماس”. لقد رفض أردوغان علنًا وصف “حماس” بأنها منظمة إرهابية ويميل إلى رؤية المنظمة على أنها لا يمكن تمييزها عن الفلسطينيين أو القضية الفلسطينية وهي حركة مقاومة. وقد مُنحت شخصيات رئيسية داخل الجماعة، بما فيها الزعيم السياسي للحركة إسماعيل هنية، جوازات سفر تركية، على الرغم من أنه طُلِب من البعض، وفقًا لتقارير صحافية غير مؤكّدة، بمن فيهم هنية، مغادرة البلاد خلال الأزمة الحالية. ويظل الدعم العلني الذي تقدمه تركيا ل”حماس” صريحًا وعدوانيًا.

الحقيقة أن التناقض بين استجابة الحكومة التركية للأزمة واستجابة شركائها في منظمة حلف شمال الأطلسي لا يمكن أن يكون أكثر وضوحًا، مع الاعتراف بالكاد بالفظائع التي ارتكبتها “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). ومع استمرار الرد العسكري الإسرائيلي، وتصاعد الخسائر في صفوف المدنيين، فقد أصبح من الصعب على تركيا أن تعترف بالفظائع التي ارتكبتها “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). أصبحت الفجوة أكثر عمقًا من أيِّ وقتٍ مضى. وعلى النقيض من الأعمال البوليسية العدوانية التي تمارسها الشرطة ضد الاحتجاجات المنتقدة للحكومة التركية، فقد تُركت الاحتجاجات ضد إسرائيل والولايات المتحدة إلى حد كبير لتستمر بدون عوائق. وأدان أردوغان القرار الأميركي بإرسال قوات بحرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وتُصَوِّرُ وسائل الإعلام التركية الأزمة بانتظام على أنها فصلٌ جديد من المكائد الأميركية الفاسدة في المنطقة. وأدت الأزمة ورسائل الحكومة إلى احتجاجاتٍ حاشدة ضد الولايات المتحدة. ولم تتدخل الشرطة التركية في احتجاجٍ أمام القنصلية الأميركية في إسطنبول إلّا بعد أن حاول المتظاهرون دخول المجمع. وشوهدت احتجاجات مماثلة في القواعد العسكرية الأميركية في تركيا وأغلقت القنصلية الأميركية في أضنة مؤقتا كإجراء أمني. ومن جانبها، قامت إسرائيل بسحب جميع موظفيها الديبلوماسيين من البلاد ودعت مواطنيها إلى مغادرة تركيا.

النقطة الأساسية هنا ليست الغضب الشعبي الذي أثاره الصراع في غزة في تركيا، بل هي الطريقة التي اختارتها الحكومة التركية للاستفادة من الغضب، بل وتضخيمه. وكما أكد المحلل سليم كورو، “لقد تم اختيار القضية الفلسطينية من قبل الدولة” في تركيا. أعتقد أن هناك إيديولوجية أكثر من استراتيجية في رد فعل أنقرة. صحيح أن الغضب بشأن غزة ربما يساعد الحكومة على الصعيد المحلي، ومن المؤكد أنه يصرف الانتباه بعيدًا من اقتصاد البلاد الذي لا يزال متعثِّرًا. ولكن ليس هناك شك في أن أردوغان يُصَدِّقُ كل ما يقوله عن إسرائيل وغزة؛ فهذه القضايا، في نهاية المطاف، تشكل أهمية مركزية في نظرته للعالم.

حتى الآن، على الأقل، أبقت تركيا غضبها علنًا، في حين واصلت التعاون مع إسرائيل بهدوء. وإذا كان دعمه العلني ل”حماس” واضحًا، فقد أدرك أردوغان أيضًا أن احتضان قيادة “حماس” بشكلٍ وثيق للغاية من شأنه أن يؤدي إلى ردود فعل سلبية خطيرة على أنقرة؛ وهذا هو المنطق الكامن وراء طلب مغادرة الشخصيات الرئيسة تركيا في أعقاب هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) مباشرة. وبصرف النظر عن قرار إسرائيل بإجلاء موظفيها الديبلوماسيين، لم يكن هناك حتى الآن أي انقطاع في العلاقات التركية-الإسرائيلية اقتصاديًا أو ديبلوماسيًا. ومع ذلك، فإن الحرب سوف تستمر لبعض الوقت؛ ومن المرجح أن تؤدي الصور اليومية للوفيات بين المدنيين إلى زيادة تفضيل أردوغان لإظهار غضبه الشخصي وأهمية تركيا باعتبارها صوتًا رائدًا لحقوق المسلمين. ربما تتعامل وزارة الخارجية وإدارة بايدن مع هذا التهديد باعتباره تكلفة التعامل مع أنقرة؛ وليس من الواضح إن كان الكونغرس سوف يشعر بالشيء نفسه.

الفجوة بين الولايات المتحدة وتركيا في هذا الشأن هائلة. وعلى الرغم من الاهتمام الواضح في كل من واشنطن وأنقرة بتحسين العلاقات، فإن الوضع الحالي قاتم. ومن المرجح أن الأزمة لن تؤدي إلّا إلى تعميق انعدام الثقة بين البلدين في ما يتصل بالقضايا الثنائية البحتة. ربما لا يتجه الزواج غير السعيد بين الولايات المتحدة وتركيا نحو الطلاق بعد، ولكن من غير المرجح حدوث تحسن في المدى القصير أو المتوسط أيضًا.

  • هوارد إيسنستات هو باحث غير مقيم في برنامج تركيا التابع لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن وأستاذ مشارك في التاريخ في جامعة سانت لورانس، حيث يقوم بتدريس دورات حول تاريخ الشرق الأوسط وسياساته.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى