أوقاتٌ عَصيبة في شَرقِ سوريا

ربما كان التفاهم بين الولايات المتحدة وإيران قد هدأ التوترات، ولكن أعقب ذلك قتال كردي-عربي عكس ذلك تمامًا.

الرئيسان بشار الأسد ورجب طيب أردوغان: هل تُعيد معركة دير الزور علاقتهما إلى سابق عهدها؟

أرميناك توكماجيان*

كان الصيف حارًا ومُشتَعلًا في شمال شرق سوريا، كما الانتقال إلى الخريف. بدأ الموسم مع زيادة التوترات بين القوات الأميركية، التي تُحافظ على وجودها في الشمال الشرقي، من ناحية، وروسيا وإيران والنظام السوري من ناحيةٍ أخرى. وفقًا لمسؤولين أميركيين ووثائق مُسَرَّبة من البنتاغون، تتعاون موسكو وطهران ودمشق منذ أواخر العام 2022 لزيادة الضغط على القوات الأميركية لطردها من الشمال الشرقي. لقد ضايقت روسيا الطائرات الأميركية والطائرات المتحالفة معها، كما ألحقت أضرارًا بطائراتٍ أميركية مُسَيَّرة. بدورها، هاجمت الجماعات المرتبطة بإيران القوات الأميركية وقامت بتحرّكات تصعيدية مثل نقل صواريخ مضادة للطائرات إلى محافظة دير الزور.

ومع ذلك، لم تُظهِر الولايات المتحدة أيَّ علامات على مغادرة المنطقة. بل على العكس، عززت في حزيران (يونيو) أسطولها من الطائرات هناك، بما في ذلك نشر طائرات “أف-22″ و”أف-35″ المتطورة. في 9 آب (أغسطس)، ظهرت تقاريرٌ تُفيدُ بأنَّ ممثلين عن الحرس الثوري الإسلامي الإيراني و”حزب الله” وقوات “الحشد الشعبي” العراقية، وغيرها من وكلاء إيران، قد تجمعوا بالقرب من الحدود اللبنانية-السورية لمناقشة كيفية ردع الهجمات المُحتملة على مواقعهم في دير الزور. وفي الوقت نفسه تقريبًا، أفادت التقارير أن واشنطن نقلت المزيد من القوات إلى شمال شرق سوريا عبر العراق، ويُعتَقَدُ أنها تناقش مع تركيا نقل مقاتلي المعارضة السورية من الشمال الغربي إلى القاعدة العسكرية الأميركية في التنف، بالقرب من الحدود الأردنية. ويشير ذلك إلى أنَّ الأميركيين كانوا يستعدون لإغلاق الحدود السورية-العراقية ومنع القوات الموالية لإيران من العبور بحرية.

لبعض الوقت، بدا الشمال الشرقي على شفا مواجهة عسكرية كبرى. لكن ما حدث هو العكس حيث هدأ الوضع بسرعة. وكانت هناك أسباب متعددة لذلك، ليس أقلها الاتفاق الأميركي-الإيراني في أوائل آب (أغسطس) بشأن السجناء والإفراج عن الأصول الإيرانية من قبل واشنطن. لذلك، لن يكون من المفاجئ أن تكون التهدئة جُزءًا من هذه المقايضة. وقد جاء ذلك في أعقاب تقارير في حزيران (يونيو) تُفيدُ بأنَّ الولايات المتحدة وإيران على وشك الاتفاق على “وقفِ إطلاقِ نارٍ سياسي”، والذي كان أحد بنوده هو أن طهران “ستوقف الهجمات القاتلة على المقاولين الأميركيين في سوريا والعراق من قبل وكلائها في المنطقة”.

يُمكنُ للمرء أن يجادل بأن تراجعَ التوترات بين الولايات المتحدة وإيران كان نتيجةً لتفوّقِ طهران على روسيا والنظام السوري (اللذين اعتمدا على إيران للقيام بالمهمّة الثقيلة مع واشنطن)، مما ساعد على ضمان استمرار هيمنة إيران في المنطقة. وبالفعل، يبدو أن طهران راضية عن الوضع الراهن في شرق سوريا، وأيُّ تغييرٍ في موقفها يمكن أن يرتبطَ بعلاقاتها مع واشنطن، وليس مع موسكو أو النظام في دمشق.

ومع ذلك، في أواخر آب (أغسطس)، اشتدت حدة التوتر في شرق سوريا مرة أخرى، وهذه المرة بسبب التوترات المحلية بين قوات سوريا الديموقراطية (قسد) التي يهيمن عليها الأكراد والعشائر العربية في شرق محافظة دير الزور. وكانت الشرارة هي اعتقال أحمد الخبيل وعدد من رفاقه. ويرأس خبيل مجلس دير الزور العسكري التابع لقوات سوريا الديموقراطية. أشارت التقارير إلى أن أنصار خبيل هم الذين تمرّدوا في البداية على قوات سوريا الديموقراطية، لكن سلسلة من الأحداث، بما في ذلك قتل قوات سوريا الديموقراطية لمدنيين، وسّعت دائرة التمرّد لتشمل العشائر خارج معقل خبيل. وبعد عشرة أيام، استعادت قوات سوريا الديموقراطية سيطرتها على المناطق التي سيطرت عليها القوات القبلية، بدون أي معارضة كبيرة من الولايات المتحدة.

تجدرُ الإشارة إلى عددٍ من العوامل في سياق الصراع في شمال شرق البلاد، أو أبعد من ذلك الصراع السوري الأوسع. أوّلًا، يمكن القول إن المُحفِّزَ الأساس لتمرّد العشائر  لم يكن في الواقع اعتقال خبيل، بل سعي العشائر للحصول على قدر أكبر من الحكم الذاتي من قوات سوريا الديموقراطية والأكراد في دير الزور، فضلًا عن المظالم الأخرى القائمة منذ فترة طويلة. تتمتع العشائر العربية بالفعل باستقلالية أكبر في دير الزور مما هي عليه في الرقة، ومع ذلك فإن القادة الأكراد في المنطقة هم الذين يحرّكون الخيوط. السبب الثاني المُحتَمَل للتمرّد هو تأمينُ وصولٍ أكبر إلى الموارد الاقتصادية في المنطقة، بما في ذلك النفط. وقد اشتكى السكان المحليون في دير الزور من أنهم بعد هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” لم يستفيدوا إلّا قليلًا من ثروات محافظتهم. وقد يعني المزيد من الاستقلالية أن لديهم مجالًا أوسع بكثير لاستغلال هذه الموارد.

هناك عاملٌ آخر جدير بالذكر وهو أن قوات سوريا الديموقراطية واجهت تحدّيًا حاسمًا لقوَّتها وسلطتها، ولكن يبدو أنها تغلبت عليه بسلاسة، على الأقل في الوقت الحالي. وأظهرت قوات سوريا الديموقراطية أنها قوية بما يكفي لسحق تمرّد العشائر المُسلّحة المحلية الذي يمكن أن يُهدّدَ مشروع الحكم الذاتي الكردي في شرق وشمال شرق سوريا. وأظهرت الإنتفاضة أيضًا الرغبة المحدودة (أو القدرة) لدى العشائر لشن حرب حقيقية ضد قوات سوريا الديموقراطية.

العامل الثالث هو أنَّ هذا الصراع المحلي سرعان ما اتخذ بُعدًا إقليميًا. وانتقدت تركيا قوات سوريا الديموقراطية والولايات المتحدة، وبدأت قوات العشائر المتجمّعة في المناطق التي تسيطر عليها تركيا الضغط على قوات سوريا الديموقراطية على طول الخطوط الأمامية بالقرب من تل تمر ومنبج. وفي المقابل، ألقت قوات سوريا الديموقراطية باللوم على النظام السوري وإيران في الانتفاضة. وفي حين أعرب النظام عن دعمه للعشائر، وربما قدم المساعدة، ظلَّ دور إيران غامضًا. ولم يصدر بيانٌ واضحٌ يدعم العشائر، ناهيك عن تزويدهم بالأسلحة. ومع ذلك، تُعتَبَرُ إيران دائمًا كبش فداء جيدًا لقوات سوريا الديموقراطية، لأن هذا يجذب الانتباه بعيدًا من العلاقة الجيدة تاريخيًا بين طهران وحزب العمال الكردستاني، الذي يُمثّل مكوّنه السوري جُزءًا كبيرًا من قوات سوريا الديموقراطية. كما يطرح السؤال التالي: لو كانت إيران تدعم العشائر حقًا، فهل كان بإمكان قوات سوريا الديموقراطية أن تهزم التمرّد في غضون أيام؟

إن شمال سوريا برمّته، من الشرق إلى الغرب، هو جُزءٌ من نظامٍ أمني واسع النطاق. وبعد أن بدا أن إيران تتفوَّق على روسيا والنظام السوري من خلال خفض التصعيد مع الولايات المتحدة، كان من المشكوك فيه إلى أي مدى يمكن لدمشق الاعتماد على طهران لزعزعة استقرار الوجود الأميركي في شمال شرق البلاد. إن مناورات روسيا الخطيرة في الجو ومحاولات النظام الخجولة لإثارة “مقاومة شعبية” ضد القوات الأميركية لن يكون لها تأثير يذكر على واشنطن وقوات سوريا الديموقراطية بدون المشاركة النشطة لإيران، التي هي، مع وكلائها، الطرف الوحيد الذي يمكنه التصعيد ضد الأميركيين. وإذا لم تكن إيران مهتمة بالقيام بذلك، فسيتعيّن على دمشق وموسكو البحث عن شريكٍ آخر.

الشريكُ الآخر الوحيد المُتاح هو تركيا. لدى أنقرة مصلحة حقيقية في رؤية نهاية للدعم الأميركي للأكراد، وهو الموقف الذي تتقاسمه روسيا والنظام السوري. لذلك، إذا التزمت أميركا وإيران بقواعد اللعبة في شرق سوريا التي تحدُّ من التوترات الثنائية، فقد يؤدي ذلك إلى تعزيز قوات سوريا الديموقراطية. وهذا بدوره يمكن أن يصبح حافزًا لتعاونٍ أوثق يشمل موسكو ودمشق وأنقرة، وهو ما من شأنه أن يوفر حافزًا للتقارب بين سوريا وتركيا، اللتين أدى نزاعهما إلى إعاقة احتواء الأكراد.

إذا كانت حسابات إيران في الشمال الشرقي مرتبطة بشكلٍ متزايد بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، فإنَّ روسيا والنظام السوري قد لا يرغبان في البقاء رهينتين لمثل هذه الاعتبارات. ويشكل هذا سببًا إضافيًا لروسيا للضغط على الرئيس السوري بشار الأسد ليكون أكثر استعدادًا للمفاوضات مع تركيا، ولكي يتبنّى الأسد نفسه مثل هذه الاتصالات. قد تكون سوريا وتركيا عدوتين، لكن مصالحهما في الشمال الشرقي قد تكون أكثر توافقاً لهما من مصالحهما مع  إيران.

  • أرميناك توكماجيان هو باحث غير مقيم في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. تركز أبحاثه على الحدود والصراع، واللاجئين السوريين، والعلاقات بين الدولة والمجتمع في سوريا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى