تكاليفُ الدَعمِ الأميركي غير المَشروط لإسرائيل

حسب الإحصاءات الرسمية، منحت واشنطن إسرائيل ما يعادل 253 مليار دولار من المساعدات منذ تأسيس الدولة العبرية في العام 1948، وقدمت هذه المساعدة أخيراً بإيقاعٍ يبلغ حوالي 3 مليارات دولار سنوياً.

الرئيس جو بايدن: يجب أن يخرج من حالة الإنكار لكي يصل إلى الحل في الشرق الأوسط.

هوارد فرينتش*

كمواطنٍ أميركي، فإن مشاهدة أعمال العنف التي انفجرت بين إسرائيل والفلسطينيين على مدى الأسبوعين الماضيين بدت وكأنها صحوةٌ من نومٍ مُخدِّر ثقيل.

المُخدِّر، في هذه الحالة، كان الإنكار المُتعَمَّد والمستمر الذي تبنّاه السياسيون الأميركيون ووسائل الإعلام على حد سواء بشأن الأزمة الخطيرة التي، على الرغم من أنها هُمِّشَت أخيراً، كانت لسنوات بمثابة قنبلة موقوتة في هذا الجزء من الشرق الأوسط.

نظراً إلى أن الوضع بين إسرائيل والفلسطينيين أصبح أكثر خطورة بشكل مطرد، فإن جرعات الإنكار اللازمة لتجاهلها، أيضاً، أصبحت مثل المُخدّرات أكبر باستمرار. من السهل ازدراء ديبلوماسية إدارة دونالد ترامب، لأن الوهم الذي استندت إليه لم يكن أعظم فحسب، بل كان أيضاً أكثر علانية، وحتى بفخر، معروضاً. لكن التنقيط الثابت والمستمر للمقاربة المُخدِّرة للديبلوماسية الأميركية تجاه هذه الأزمة يعود إلى عقودٍ إلى الوراء – ولا يحمل أي نكهة حزبية مُعَيَّنة.

إن تحدّيات تحقيق السلام والعدالة في هذه الزاوية من العالم مُعقَّدة للغاية بلا شك، لكن المشكلة المركزية في قلب أزمة الإنكار هذه يمكن مع ذلك التعبير عنها بكل بساطة: لقد استوطنت إسرائيل بثبات الأراضي التي استولت عليها واحتلتها من خلال الحرب مع جيرانها، وفي الوقت عينه نبذت وهمّشت مواطنيها العرب، الذين يُشكّلون خمس سكان إسرائيل (1,890,000 شخص، إحصاء 2019)، وعاملتهم بشكل متزايد كمواطنين من الدرجة الثانية.

كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة متواضعة التدخل في ما يتعلق بالمشكلة الأولى وصمتت جميعها بالنسبة إلى المشكلة الثانية. في عهد بيل كلينتون، سعت الولايات المتحدة مبدئياً إلى حجب الأموال من حزمة مساعداتها السنوية السخيّة لإسرائيل لتجنّب دعم مستوطناتها في الضفة الغربية المحتلة، لكنها دفعت معظم الأموال في النهاية ولم تقل سوى القليل عن المستوطنات. كما جعل باراك أوباما تجميد الاستيطان حجر الزاوية في مساعي إدارته لحل الدولتين الذي كان يجري التفاوض عليه للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، لكن إسرائيل رفضت مطالبه المُتكرّرة من دون أي تأثيرٍ سلبي على الهبة الأميركية.

حسب الإحصاءات الرسمية، منحت واشنطن إسرائيل ما يعادل 253 مليار دولار من المساعدات منذ تأسيس الدولة العبرية في العام 1948، وقدّمت هذه المساعدة أخيراً بإيقاعٍ يبلغ حوالي 3 مليارات دولار سنوياً. وهذا يجعل إسرائيل فريدة من ناحيتين على الأقل. الأولى أنها تتلقى مثل هذه المساعدات السخية على الرغم من ارتفاع مستوى تنميتها الاقتصادية. والأمر الجدير بالملاحظة، مع ذلك، أن الولايات المتحدة تبذل القليل من الجهد للاستفادة من مساعدتها سياسياً كما تفعل مع معظم مُتلقّي المساعدات.

بأخذِ الناحيتين معاً في الاعتبار، بدلاً من مساعدة صديقتها المُقرَّبة، كما يُفترَض أن تفعل المساعدة الأميركية، فإن عدم استجابة أميركا للأزمة التي بالكاد تكون خفية والتي تم تحديدها أعلاه، إلى جانب دعمها غير المشروط تقريباً لإسرائيل، قد أدّى إلى تفاقم الوضع الخطير للغاية.

خلال إدارة ترامب، بدأت واشنطن التظاهر بأنه يُمكن تخيّل الفلسطينيين خارج الواقع السياسي الذي يكمن وراء المخاطر الزلزالية التي تلوح في الأفق في المنطقة. إعترف ترامب رسمياً بالقدس عاصمة لإسرائيل، مُتجاهِلاً مُطالبات الفلسطينيين بالمدينة، وفعل ذلك من دون السعي إلى الحصول على أيِّ التزاماتٍ من إسرائيل بشأن المستوطنات المُستقبلية أو حقوق العرب، سواء أولئك الذين يعيشون في الأراضي المحتلة أو في إسرائيل كمواطنين.

في غضون ذلك، لعب مسؤولو ترامب دوراً مهماً في للوصول إلى اتفاقات أبراهام، التي أدّت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان. كان هناك أملٌ في أن يتم تطبيع مُماثل مع السعودية، أهم لاعب عربي في المنطقة الذي لا يزال من دون علاقات مع إسرائيل. لكن عقارب الساعة توقّفت الآن بالنسبة إلى ديبلوماسية ترامب.

في ظاهر الأمر، تبدو إعلانات السلام شيئاً رائعاً، لكن المنطق وراء هذه الدفعة يعكس مجرد تسارع أو تعميق الإنكار الأميركي: إذا كان بإمكان المرء إقناع الدول العربية بعلاقات ديبلوماسية منتظمة مع إسرائيل، فإن مشكلة حلّ صراعها مع الفلسطينيين سوف تتلاشى تدريجاً.

تَبِعَ نهجَ ترامب نوعٌ آخر من التخيّل. لقد فاجأت إدارة بايدن معظم المراقبين بجرأة بعض سياساتها، بخاصة عندما ينظر المرء إلى الهوامش الضيّقة لغالبيتها القليلة في الكونغرس. عندما يتعلق الأمر بالأزمة المُشتعلة بين إسرائيل وفلسطين، فقد تصرّفت كما لو أنها تعتقد أنه من خلال إبقاء رأسها منخفضاً، فإن اللوائح البدائية التي تخزن التوتر المتفجر في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة سوف تتباطأ بطريقة ما أو تتوقّف عن الصرير.

اليوم، حتى في مواجهة الدليل على أن هذا النهج لن ينجح، حشدت إدارة بايدن أكثر قليلاً من تصريحاتٍ عمياء ومُخدِّرة أخلاقياً – “كستناء” تم استردادها من المُفردات الديبلوماسية الأميركية غير الفعّالة في الماضي. هنا يتحدث المرء عن عبارات طقسية مثل “إسرائيل لها الحق في الدفاع عن النفس”، أو التأكيد على عدم وجود تكافؤ بين الهجمات الصاروخية من قبل “حماس” وأي سلوك تنتهجه الحكومة الإسرائيلية.

لا يوجد دفاعٌ هنا عن قصف “حماس” الصاروخي للمناطق المدنية في إسرائيل في الصراع الحالي أو عن القصف الجوي الإسرائيلي لبعض أكثر الأراضي كثافة بالسكان على وجه الأرض في غزة. لكن التظاهر الآن بأن السلوك الإسرائيلي الإشكالي في الأسابيع الأخيرة ولسنواتٍ عديدة لا علاقة له بانفجار العنف هو أمر لا يساعد أحداً.

لا تمتلك الولايات المتحدة مفتاحاً سحرياً لحلّ هذه المشكلات، لكن من المؤكد أن أيّ حل، مهما كان صعباً، سيتطلّب من واشنطن أن تجد صوتها المفقود منذ فترة طويلة بشأن الظلم الأساسي المرتبط بهذه الأزمة. يُصبح كل هذا مستحيلاً عندما يتم فرض اللغة التي يتم توجيهها لشجب التطرف فقط تجاه جانب واحد في المعادلة. نعم، “حماس” عنيفة وحتى متهوّرة، ولكن كذلك العديد من العناصر المحافظة المُتطرفة في المجتمع الإسرائيلي التي أصبحت تلعب دوراً أكبر بشكل مطرد في سياسة الدولة على مدى العقدين الماضيين. إن دفعها من أجل التوسع المستمر في المستوطنات ومن أجل العوز والفقر التدريجي للفلسطينيين، اقتصادياً وسياسياً، يفتقر إلى ألعاب الصواريخ النارية ولكنه مُتفجّرٌ تماماً.

في مواجهة ذلك فقدت واشنطن لسانها تماماً. الدول العربية المعتدلة ربما أصبحت هادئة ومُسالمة من خلال الديبلوماسية الأخيرة والعلاقات الاقتصادية وانعدام الثقة المشترك مع إيران. لكن أزمة الحياة الفلسطينية لم تختفِ ولن تنتهي. في الواقع، كما أظهر هذا الانفجار الأخير للعنف، يُمكن للحرب أن تتخذ أي عدد من الأشكال، ويشير أحدث تجسيد للصراع إلى تعميق الظلام والخطر الوجودي على إسرائيل. هنا يتحدث المرء عن العنف الطائفي الذي اندلع في الأيام الأخيرة في شوارع أماكن مثل حيفا واللد. هذا يختلف تماماً عن العنف بين الدول أو الجهات الفاعلة الشبيهة بالدولة، لأنه يصطدم بنسيج المجتمع ذاته.

تودّ إسرائيل أن تكون دولة يهودية، وبالنسبة إلى العديد من مواطنيها على الأقل ، فإنها تتمسك بفكرة أن تكون دولة ديموقراطية. لكي تكون صديقةً حقيقيةً لإسرائيل، يجب أن تخرج الولايات المتحدة من إنكارها من أجل إيجاد توازنٍ حقيقي والمساعدة على البحث عن حلّ لهذا التناقض الذي يبدو أنه لا ينفصم.

  • هوارد فرينتش هو صحافي أميركي ومراسل أجنبي محترف وكاتب في الشؤون العالمية ومؤلف لأربعة كتب، بما فيها كتابه الأخير: “كل شيء تحت السماء: كيف يساعد الماضي في تشكيل دفع الصين لكي تكون قوة عالمية”. يمكنك متابعته عبر تويتر على: @hofrench
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى