مصر تُوقِفُ الحِوارَ مع تركيا: فَتِّش عن عَبَقِ الغاز!

محمّد قوّاص*

خُيِّلَ للمراقب أن وزير الخارجية المصري سامح شكري تقصّد في 28 تشرين الأول (أكتوبر) إجراء مقابلة تلفزيونية لمُناقشةِ ملفّاتِ الدنيا من أجل أن يُعلِنَ أمرًا واحدًا: مصر أوقفت الحوارَ مع تركيا.

تُبَلِّغُ القاهرة أنقرة وَقفَ مسارٍ مع مصر أراده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان واجهةً من واجهاتِ طَيِّ صفحاتِ الخلاف مع السعودية والإمارات أيضًا.

تُعلِّقُ مصر حوارًا مع تركيا بَقِيَ مُتواضِعَ المُستويات ومَحشورًا في إطارٍ أمنيٍّ مُخابراتي لم يَرقَ إلى مستوياتٍ سياسية كانت تطمح إلى اجتماعٍ على مستوى وزيري الخارجية وصولًا إلى لقاءٍ يَجمعُ الرئيس التركي بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

في التفسير العاجل أن القاهرة استنتجت من الاتفاقات الأخيرة التي وقّعتها أنقرة مع حكومة عبد الحميد الدبيبة في ليبيا إمعانًا تُركِيًّا في تنفيذِ أجندةٍ خاصةٍ لا تأخذُ في الاعتبارِ بديهيات الحوار مع مصر ومصالحها الحيوية داخل مجالها الاستراتيجي الذي تُمثّله الجغرافيا السياسية الليبية. استنتجت أيضًا أن أنقرة تبني حوارًا مع القاهرة على قاعدةِ فَرضِ أمرٍ واقعٍ في البحر والبرّ الليبيين وليس على قاعدة التوافق والاتفاق التي تفرضها قواعد طاولة الحوار.

وكانت حكومة الدبيبة في طرابلس وقّعت مع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في 26 تشرين الأول (أكتوبر)، إتفاقيتين جديدتين للتعاون العسكري بناءً على اتفاقيةٍ سابقة مع حكومة فايز السراج في العام 2019. وفي 3 تشرين الأول (أكتوبر) وقّعَ وفدٌ تركي، ضم وزراء الخارجية والطاقة والدفاع والتجارة ومتحدث الرئاسة التركية، في العاصمة الليبية مجموعة اتفاقيات تجارية منها التنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية.

واللافِتُ في المُقاربةِ التركية أن أنقرة ركّزت بشكلٍ مُصطَنَعٍ ومُفرِطٍ على تقديم “هبات” في ملف “الإخوان” من خلال الإيحاء بضبط المنابر والمنصّات المُعارِضة لمصر في تركيا. ذهبت أنقرة أيضًا إلى تنفيذ اعتقالاتٍ تُطاولُ معارضين إسلاميين ثم إخلاء سبيلهم في تمرينٍ يُرادُ منه أيضًا الإيحاء للقاهرة بالقدرة، إذا ما تمّ توافقٌ ما، على الإمساك بهذا الملف وجعله هامشيًا، كما الإيحاء أيضًا بالقدرة على تفعيل هذا الملف في غياب هذا الوفاق.

يُعيدُ إعلانُ العودةِ إلى القطيعة بلسان وزير الخارجية المصري ضَبطَ عقارب تماسٍّ مصري – تركي بدأ من دون أُفُقٍ جاد. لم تعد مصر تقبل بجوائز الترضية التي تُقدّمها أنقرة في ملف “الإخوان المسلمين” وتعتبر أن أجواء تركيا لا تزال عدائية وتعتمدُ على هذا العداءِ ورقةً من أوراق الحوار. وترى القاهرة أن ما تُقدّمه أنقرة من “تنازلاتٍ” ليس كافيًا أو جدّيًا من قبل دولةٍ تُريدُ صلحًا كاملًا مع مصر. وترى في التدخل العسكري والسياسي والاقتصادي التركي في ليبيا مَسًّا مُباشرًا بمصالح مصر وأمنها القومي.

وفيما ترى تركيا أن من حقّها الكامل أن تُقيمَ علاقاتٍ مُعَيَّنة مع ليبيا وأن تستثمر شركاتها في الاقتصاد الليبي وخصوصًا في قطاع الطاقة، فإن المشكلة بالنسبة الى القاهرة تَكمُنُ في أن علاقة تركيا مع ليبيا تقوم على تدخلٍ عسكريٍّ مباشر سواء في عملية إرسال الأسلحة عَلَنًا أو في عملية نشر المرتزقة و”المستشارين” داخل هذا البلد، وهو أمرٌ لا تعتمده دولٌ مثل فرنسا أو إيطاليا مثلًا لتشغيل شركتي “توتال” و”إيني” على سبيل المثال.

والمسألة لا تتعلق فقط بملفات البلدين، بل بحالة التنافس بين تركيا ومصر على تَبَوُّءِ مَوقِعٍ استراتيجيٍّ داخل سوق الطاقة عامة وفي البحر المتوسط خاصة.

تطمح تركيا إلى أن تكون مركزًا محوريًا لتوزيع الغاز نحو أوروبا، خصوصًا أن ذلك المُتَدَفِّق من روسيا وأذربيجان وإيران وتركمانستان وغيرها على خطوط بحر قزوين قد يكون مُتعثّرًا وخاضعًا لفيتو روسي أو إيراني، وهو ما يفسّر سعي تركيا إلى موارد “طاقوية” أخرى منها تلك في ليبيا. في المقابل تعمل مصر، من خلال منتدى غاز شرق المتوسط ومن خلال اتفاقات مُتعدّدة أُبرِمَت مع الاتحاد الأوروبي وقبرص واليونان وإسرائيل، على أن تكون محطة تسييل الغاز الأولى وباب العبور الأول لإعادة تصديره إلى الأسواق في أوروبا.

وإذا ما كانت نزاعاتُ ترسيم الحدود المائية تبقى عائقًا لحُسنِ استثمارِ دول المنطقة مواردها البحرية من الطاقة، فإن تركيا تسعى إلى إحداثِ واقعٍ مُعاندٍ داخل المناطق الاقتصادية اليونانية والقبرصية والليبية، ما من شأنه أيضًا تعطيل سيرورة اتفاقات الدول في ما بينها ويشوّش على مصالح مصر في هذا المضمار.

والحقيقة أن منطقة شرق المتوسط تعيش تحوّلات بدأت ملاحظتها منذ سنواتٍ حين تراكمت التقارير المُتخصّصة حول حقول الطاقة المُكتَشَفة في مياه بلدان المنطقة، وباتت سريعة ضاغطة بسبب الحاجة الدولية الملحّة التي تداعت عن الحرب الروسية ضد أوكرانيا.

ولئن مَثَّلَ قيامُ منتدى غاز شرق المتوسط (بات منظمة دولية في العام 2020 تضمّ مصر وقبرص واليونان وإسرائيل وفلسطين وفرنسا وإيطاليا والأردن) تشكّلًا بقيت تركيا خارجه، سعت الأخيرة في المقابل على نحوٍ دراماتيكي، عبر التدخّل العسكري في ليبيا والتلويح بالخيار العسكري في النزاع مع قبرص واليونان بشأن مسائل الحدود والحقوق المائية، إلى فَرضِ أمرٍ واقعٍ قابلٍ للنقاش، إذا ما ارتأت كل الدول إعادة رسم خرائط عَصِيَّة على التسويات.

وفق معطى الحاجة إلى الطاقة في شرق المتوسط تمّ الدفع باتجاه التسوية التي أنتجت اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل الذي قد يتمدّد ليشمل اتفاقًا على ترسيم تلك الحدود بين لبنان وقبرص وربما لاحقًا ووفق ظروفٍ أخرى بين لبنان وسوريا. ووفق هذا المعطى أيضًا أعلنت مصر التوصّل إلى “اتفاق إطار” لتسوية النزاع على حقول الغاز في بحر غزّة. ووفق هذا المعطى أيضًا وأيضًا يُفهَمُ تصاعد الصراع بين مصر وتركيا الذي يأخذ أبعادًا تثقل ملف ليبيا أو ملف “الإخوان”.

والواضح أن أردوغان يُلوِّحُ بملف حقوق بلاده في ملف الطاقة من ضمن عدّة الشغل أيضًا الضرورية للاستقطاب الداخلي تحضيرًا للانتخابات في العام 2023. والمفارقة أن الانتخابات هي مُفتَرَقٌ لليونان وقبرص أيضًا اللتين تستعدان لخوضها في العام نفسه على نحوٍ يُصبِحُ معه التصعيد الجماعي من بديهيات هذه المواسم بحيث من الصعب التَحَلِّي بالمرونة وتقديم التنازلات.

غير أن إعلان مصر وقف حوارٍ مع تركيا استمرَّ 18 شهرًا لن يكونَ كافيًا وقد لا يُزعِجُ أنقرة التي ستعود إلى ما كانت عليه علاقاتها مع مصر قبل ذلك. بمعنى آخر فإن أيَّ سَعيٍ مصري لردع “الزحف” التركي داخل ليبيا يتطلّبُ إجراءاتٍ إضافيةٍ غير واضحةٍ حتى الآن ولم يلمّح إليها الوزير المصري، خصوصًا أن تركيا تُمسِكُ بورقة نجاحها في فتح صفحةٍ جديدة مع السعودية والإمارات وإمكانية التعايش حتى إشعار آخر مع حالة مراوحة في علاقاتها مع مصر.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى