لماذا تَخسَرُ حكومةُ إقليم كردستان الكثيرَ من الحُكمِ الذاتي لصالحِ بغداد؟

كانَ هيكلُ الحُكمِ الفريد لحكومةِ إقليم كردستان بمثابةِ إنجازٍ تاريخي نَتَجَ عن نضالٍ طويل، لكنه يبدو الآن أنهُ آخذٌ في التلاشي.

رئيس المحكمة العليا فائق زيدان: كل أحكامه حتى الآن كانت لصالح “الإطار التسيقي الشيعي”.

محمّد سليم*

على مدى العقودِ الثلاثة الفائتة، تمتّعَ إقليمُ كردستان العراق بمستوى عالٍ من الحُكم الذاتي عن الحكومة المركزية في بغداد. استخدمَت أربيل المجالَ الواسع الذي يُوَفّره دستور العام 2005 لصياغةِ مسارِها السياسي والاقتصادي الخاص. فقد عقدت صفقاتِ نفطٍ وانتخبت برلمانها وأقامت علاقات مع حكوماتٍ أجنبية.

ومع مُعاناةِ بقيّةِ العراق من الصراع والاختلال الوظيفي، بدا أنَّ قيامَ كردستان المستقلة بات أمرًا مُمكِنًا في العام 2017. وبدا الوضعُ وكأنَّ العراقَ كان يواجهُ خطرَ التفتّت.

أما اليوم فالوَضعُ مُختلفٌ تمامًا. وسط بيئةٍ أمنية أكثر استقرارًا، تستخدِمُ حكومةٌ مُتماسِكة سياسيًا في بغداد سلطاتَها لتقويضِ الحُكمِ الذاتي للإقليم الكردي. إن ميزانَ القوى يميلُ نحو المركز.

الضغطُ كبيرٌ لا هوادة فيه. بدءًا من منتصف تشرين الأول (أكتوبر)، شنّت الجماعات المسلحة العراقية العديد من الهجمات على أهدافٍ في محافظة أربيل، وأضافت إيران وابلها المُميت من الصواريخ الباليستية في 15 كانون الثاني (يناير). ورُغمَ أنَّ هذه الهجمات تصدّرت عناوين الأخبار في جميع أنحاء العالم، إلّا أنَّ حملةَ ضَغطٍ أكثر جدّية التي تستهدف المؤسّسات السياسية والمالية جارية على قدمٍ وساق.

في 21 شباط (فبراير)، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا في العراق حُكمَين لهما عواقب بعيدة المدى. القرارُ الأوّل نَقَلَ مسؤوليّةَ دَفعِ رواتب موظّفي حكومة إقليم كردستان إلى الحكومة الفيدرالية، وفَرَضَ على أربيل تسليم “جميع الإيرادات النفطية وغير النفطية” إلى بغداد.

والحُكمُ الثاني يُعيدُ تنظيمَ هيكلية الانتخابات المقبلة لبرلمان كردستان. وبذلك، فقد ألغى نظام الكوتا (11 نائبًا) في المجلس التشريعي الذي يضمن تمثيلًا للمكوّنات الدينية والقومية، ومن بينهم المسيحيون والأرمن والتركمان.

وأصدر رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني ردًّا غاضبًا في اليوم التالي: “من ناحية، يرتكبون جرائم بحقّنا… إنهم يمسكون بحلقنا ويقطعون أنفاسنا. ومن ناحية أخرى، فإنهم يُقدّمون أنفسهم كمُنقذين ومُضَلّلين للناس”.

يرأس المحكمة الاتحادية العليا رئيس المحكمة العليا فائق زيدان، المُقرَّب من “الإطار التنسيقي الشيعي”، وهو كتلة من الأحزاب السياسية الشيعية المدعومة من إيران والتي تسيطر على الحكومة الفيدرالية الحالية. ويتّهمه منتقدوه بتسييس المحكمة واستخدامها لمهاجمة منافسي “الإطار التنسيقي الشيعي”.

منذ العام 2021، أصدرت المحكمة أحكامًا بإلغاء قانون النفط والغاز في إقليم كردستان، وإقالة رئيس البرلمان السنّي من منصبه، وعرقلة محاولة تشكيل الحكومة بقيادة الصدريين والتي كان من شأنها أن تستبعدَ “الإطار التنسيقي الشيعي”. وباعتبارها محكمة الاستئناف الأخيرة، فإنَّ قراراتها نهائية، مما يترك أولئك الذين هم في الطرف الخاسر مع قدرةٍ ضئيلة على الردّ.

من المؤكّد أنَّ السلطات الكردية ليست بلا لوم. يشهدُ الحزبان الحاكمان –الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني– انقساماتٍ عميقةٍ بسببِ الخلافاتِ الشخصية والمالية والأمنية بين قادتيهما. وقد أثبتت جهودُ الوساطة عدم جدواها.

وتُعاني حكومة إقليم كردستان أيضًا من مشاكل اقتصادية عميقة. لأكثرِ من عقدٍ من الزمان، لم تتمكّن بغداد من سدادِ حصة موازنة إقليم كردستان إلّا بشكلٍ محدودٍ وسطَ نزاعٍ حول السيطرة على موارد النفط والغاز. لسنواتٍ، تمكّنت أربيل من دعم نفسها من خلال مبيعات النفط المستقلّة، لكن الحكومة المركزية فازت بحُكمِ تحكيمٍ دولي ضد تركيا العام الماضي أدّى إلى إغلاقِ خطِّ أنابيب حكومة إقليم كردستان.

وبدون مصادر نقدية جاهزة، فإن أربيل تفشل بانتظام في دفع رواتب الموظفين الحكوميين في الوقت المحدد. وينظر العديد من موظفي الحكومة إلى بغداد باعتبارها الجهة الأكثر موثوقية لدفع الرواتب، وقد تنفّسوا الصعداء عندما أعلنت المحكمة أنَّ الحكومة الفيدرالية ستتولّى دَفعَ الرواتب.

وعلى الرُغمِ من أنَّ هذا التحوّل قد يجلبُ بعضَ القدرة على التنبؤ المالي للعمال المُحاصَرين في حكومة إقليم كردستان، فمن المرجح أن تقاوم أربيل بشدة شَرطَ تسليمِ جميع الإيرادات النفطية وغير النفطية، لأنَّ القيامَ بذلك سيضفي طابعًا رسميًا على اعتمادها على بغداد. ومع ذلك، يبدو أنَّ عصرَ الاستقلالِ المالي لأربيل قد وصلَ إلى نهايته.

إنَّ حُكمَ المحكمة الاتحادية العليا بإلغاءِ المقاعد المخصصة للأقليات العرقية والدينية يُشكّلُ انتهاكًا لاستقلالية المؤسّسات السياسية الكردية، حتى لو كانت المقاعدُ نفسها مُثيرةً للجدل.

زَعَمَ المنتقدون أنَّ النوابَ الأحد عشر -خمسة مسيحيين، وخمسة تركمان، وأرمني واحد- لا يعكسون المصالح الحقيقية للمجتمعات التي يمثّلونها ظاهريًا، بل تصرّفوا كنوّاب فعليين للحزب الديموقراطي الكردستاني من خلال التصويت بالتوافق معه.

بدأ الإجراء بدعوى قضائية رفعها الاتحاد الوطني الكردستاني سعيًا إلى إصلاحِ النظام على أملِ الحصول على نفوذٍ على بعض المقاعد. ولكن من خلالِ إلغاءِ تمثيلِ الأقليات بشكلٍ كامل، يمكن القول إنَّ المحكمة الفيدرالية تجاوزت سلطتها القضائية وتصرّفت تشريعيًّا.

هذه الحادثة هي جُزءٌ من عمليةِ تسليحٍ أكبر وخيارٍ مُشترك للأقليات في العراق من قبل الأحزاب الشيعية والسنّية والكردية. بدلًا من زيادةِ تمثيلِ المجموعات الصغيرة وتعزيز مصالحها، سعت المحكمة والحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني إلى استخدامها لتحقيقِ مكاسب سياسية.

وتمتدُّ هذه الديناميكية إلى ما هو أبعد من إقليم كردستان وتظهر بوضوح في سهل نينوى وفي سنجار. سيحتفل اليزيديون هذا الصيف بمرور 10 سنين على الإبادة الجماعية التي ارتكبها تنظيم “داعش” بحقهم، لكن منازلهم لا تزال في حالةِ خراب وسطَ حطام الوعود التي قطعها قادة العراق.

زارَ بارزاني واشنطن في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر بحثًا عن الدَعمِ في الاستجابة للضغوط التي تمارسها بغداد. ولم يتّضح بعد ما إذا كان ناجحًا. وتنخرطُ إدارة بايدن في رقصتها الصعبة مع العراق بشأن مستقبل القوات الأميركية في البلاد، وتأمل في تجنّبِ أيِّ تعقيداتٍ سيئة قبل الانتخابات الأميركية الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.

من ناحيةٍ أخرى، فمن الصعب أن نتجاهلَ حقيقةً مفادها أنَّ العراق يتغيّر، وأنَّ سلطته المركزية أصبحت أكثر قوة، في حين يُسَهِّلُ زعماء إقليم كردستان انزلاقه إلى انقسامٍ سياسي وخَللٍ اقتصادي.

على الرُغم من كل عيوبها، فإنَّ مؤسّسات الحُكمِ الذاتي السياسية في إقليم كردستان هي إنجازٌ تاريخي نَتَجَ عن عقودٍ من النضال ضد القمع الذي ارتكبه نظام صدام حسين. إنَّ الحُكمَ الذاتي الكردي هو جُزءٌ من الدستور العراقي ويجبُ الاعتراف به وحمايته. لا ينبغي السماح له بالانزلاق بعيدًا.

  • محمّد سليم هو صحافي من أسرة “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى