حَربُ أوكرانيا: ما قصّة تسوية الشتاء؟

محمّد قوّاص*

لم ينقطع التواصل بين موسكو وواشنطن منذ ما قبل بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) الماضي. حافظ البلدان على وَصلٍ على مستوى وزراء الخارجية والدفاع ناهيك باستمرار الاتصال على المستويَين المخابراتي والعسكري للتنسيق بشأن احتمالات التماس في مناطق عديدة في العالم، منها سوريا. في المقابل تمسّكت الدولتان بموقفيهما المتضادين في مقاربة “العملية العسكرية الخاصة”، وفق التسمية التي اختارها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للحرب الأوكرانية.

في 9 كانون الأول (ديسمبر) شهدت اسطنبول اجتماعًا عُقِدَ بين ديبلوماسيين أميركيين وروس. لم يتسرّب الكثير عن أجندة الحدث، لكن الرئيس بوتين قال تعليقًا إن التواصل مستمر بطلبٍ من الولايات المتحدة. وإذا ما كان الزعيم الروسي يحتاج إلى تصوير الأمر لدى الرأي العام (الداخلي والخارجي) وكأنه استجداءٌ أميركي، فإنه يُسَجَّل للأميركيين السعي إلى إبقاء حرب أوكرانيا تحت سقفٍ مُنضبطٍ لا يتفلّت إلى صدام أوسع وشامل.

عشية اجتماع اسطنبول كان الزعيم الروسي يُعظِّمُ في موسكو من شأن صواريخ بلاده الفرط صوتية التي لا تُضاهيها صواريخ الغرب قوةً وتدميرًا وحمولة وقدرات سفر، بحسب تقييمه. لمّح من جديد إلى احتمالات اللجوء إلى السلاح النووي، مُقترحًا هذه المرة تعديلًا على العقيدة العسكرية الروسية بشأن الاستخدامات النووية لتصبح استباقية تلاقي ما هو معمول به في الولايات المتحدة.

والحال أن ما هو “استباقي” في عقائد العسكريتاريا الأميركية كان يتعلق بالحرب التقليدية وليس النووية. وفق هذا المفهوم شنّت الولايات المتحدة حربها ضد العراق في العام 2003 واستمرت في حربها في أفغانستان حتى تاريخ انسحابها في أواخر آب (أغسطس) 2021. ولئن تراقب الأجهزة العسكرية الأطلسية تطابق حركة البنى التحتية النووية الروسية مع تهديدات بوتين فلا تلاحظ نشاطًا مُقلقًا، فإن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ أعاد في 10 كانون الأول (ديسمبر) في توقيتٍ مُلتبس التحذير من إمكان أن تنزع حرب أوكرانيا إلى صدام ٍروسي-أطلسي.

يُحافِظُ خطاب الحرب على توتّره من قبل روسيا والغرب لكنه مُتوازٍ هذه المرة مع خطاب الحوار والتسوية والتفاوض، وإن يبدو خجولًا تجريبيًا. والأرجح أن أعراضًا تتراكم في موسكو وعواصم غربية وحتى في كييف نفسها تحضيرًا للحظة العبور إلى طاولة المفاوضات المقبلة ولو بعد حين. تنبغي هنا ملاحظة تشدّد الحكومة الأوكرانية واقتراح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عشر نقاط كشرطٍ للتفاوض وقراءة هذا التطور، بما في ذلك دعوته إلى مؤتمرٍ دولي للسلام، من زاوية شعور كييف أن المفاوضات باتت قريبة وينبغي الاستعداد لتموضعٍ ما وفق مناخاتها.

اللافت أيضًا أن روسيا باتت تُصدِرُ مواقف شاكية من رفض أوكرانيا التفاوض وعدم جديتها في إقامة السلم. صحيح أن الأمر لا يعدو إطار المناورة غير الجدية من قبل بلد شنّ الحرب واحتلَّ أراضي دولة مستقلة ذات سيادة يعتبرها ديميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، “الحقائق الجديدة”، إلّا أن خطاب السلم الذي تنفخ به موسكو بات ضرورة ولو شكلية للحفاظ على بيئة صديقة متحفّظة تحظى بها روسيا من قبل دول كبرى مثل الصين والهند ناهيك بتجمعات دولية مثل منظمة شنغهاي ومجموعة “بريكس”.

والواضح أن أهداف روسيا وأوكرانيا من الحرب هذه الأيام لا توحي بأيِّ واجهاتٍ للنزوع نحو السلم. ضمّت روسيا 4 أقاليم في أوكرانيا وتُجاهر بأن المفاوضات تهدف إلى الاعتراف بالضمّ والإقرار به نهائيًا. وتشترط أوكرانيا لبدء المفاوضات انسحاب القوات الروسية من كامل الأراضي التي احتلتها بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي يعود احتلالها إلى العام 2014. ووفق “خشبية” تلك الأهداف وسقفها العالي لا يزال الطرفان يُعوِّلان كثيرًا وأساسًا على الخيار العسكري وإنجازات الميدان المأمولة.

وقد تكون فلسفة السلم في أوكرانيا مُستوحاة من مُفارقةٍ كبيرة في موقف العواصم من مسألة الحرب التي أدّت إلى احتلال القرم وإعلان ضمّها إلى روسيا قبل 8 سنوات. فالصين، الحليف الأساسي لروسيا لم تعترف بضم القرم في العام 2014، في المقابل فإن الغرب الذي فرضَ حينها إجراءاتٍ عقابية لم يتّخذ تدابير رادعة، وبقيت أوروبا تستورد الطاقة الروسية كالمعتاد واستقبلت عواصمها بحفاوة الرئيس بوتين (لا سيما في باريس وبرلين)، وجمعت قِمَمٌ الرئيس الروسي بنظيريه الأميركيين دونالد ترامب (هلسنكي 2018) وجو بايدن (جنيف 2021).

صحيح أن الزمن قد تغيّر وظروف حرب أوكرانيا بما تمثله من أخطار استراتيجية على أوروبا والحلف الأطلسي مختلفة عن حروب بوتين في الشيشان وأبخازيا (جورجيا) والقرم، غير أن تكلفة الحسم العسكري وأخطاره على الاقتصاد وأمن الطاقة والسلم الدولي تدفع كل الأطراف إلى سلوك منافذ حلّ لا تزال تبدو بعيدة معقّدة.

وحتى لو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس يسوّقان بصعوبة لضرورات التحدث إلى الزعيم الروسي، فإن هذا السلوك لم يستبعده الرئيس الأميركي أيضًا حين التقى نظيره الفرنسي في واشنطن في 1 كانون الثاني (يناير) مُعلنًا استعداده للقاء بوتين، قبل أن يصوّب البيت الأبيض هذا العزم ويعلن أن “الوقت” لم يحن بعد، بما أوحى أن استمرار الضغط العسكري الغربي من خلال القوات الأوكرانية لا يزال من الضرورات.

والوقتُ مُرتَبطُ بما يمكن أن يُنجزَ عسكريًا داخل أوكرانيا وما يتطلبه الأمر من تشدّد أميركي-بريطاني-أوروبي-أطلسي مُجمِع على الاستمرار في تقديم الدعم العسكري النوعي لكييف.

والوقتُ مُرتَبِطُ أيضًا بما يمكن أن تنجزه واشنطن وحلفاؤها من تحوّلاتٍ ديبلوماسية للتأثير في أي تسوية من خلال اختبار مواقف وضغوط قوى أساسية في العالم، لا سيما الصين، والتي لا يُمكنُ إنضاج صفقة دائمة أو موقتة من دون الاعتراف بموقفها “المُتفهّم” لروسيا والأخذ برؤاها في ابتكار مخارج للحرب.

في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) وبعد ساعاتٍ على سقوط صاروخ داخل بولندا العضو في الحلف الأطلسي، شكّكَ بايدن في رواية زيلينسكي حول أن الصاروخ روسي المصدر. بعدها قال الرئيس الأوكراني إنه لا يعرف ماذا حدث. كشف الأمر حرص واشنطن بعدم التورّط والانجرارِ إلى حربٍ كبرى.

والأرجح أن واشنطن بدأت تميل للشروع في ورشة التسوية. وما أعلنه رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) من أن “احتمال نجاح أوكرانيا عسكريًا في دفع روسيا للانسحاب من كامل الأراضي الأوكرانية التي تحتلها ضئيل”، ملمّحًا إلى “نافذة تسوية بعد الشتاء”، الذي يفاجئ أوروبا بصقيعٍ مُنخفض الدرجات، لم يكن إلّا تعبيرًا من المؤسسة العسكرية عن مناخ المؤسسات السياسية حتى لو تدخل البيت الأبيض لاحقًا لتوضيح اللبس.

يبقى أن حراك الثنائي ماكرون-شولتس متأثر بالمزاج الأميركي الذي ينتظر بالمقابل قراءة مختلفة ما زالت لم تصدر في روسيا. تريد موسكو تسوية تُخرِجها من المأزق منتصرة. أمر يرى الغرب مجتمعًا أن روسيا لا تستحقّه.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى