بُرودٌ غير مسبوقٍ بين بيروت وطهران… ماذا يتغيَّرُ في دور “حزب الله”؟

يَعكِسُ البرودُ غير المسبوق في العلاقات بين بيروت وطهران خلال العام 2025 تحوّلات أعمق فرضتها الحرب والضغوط الدولية وصراعات الأجنحة داخل إيران. وفي قلب هذا المشهد، يعودُ السؤال حول دور “حزب الله” وسلاحه ليُشَكِّلَ محور التجاذب الداخلي والإقليمي في مرحلة دقيقة.

المرشد الأعلى علي خامنئي: الأمر لي.

الدكتور سعود المولى*

شهد العام 2025 تراجعًا لافتًا في مستوى العلاقات الرسمية بين لبنان وإيران، بلغ حدّ ما يمكن وصفه ببرودٍ ديبلوماسي غير مسبوق، وفق ما أظهرت تقارير دولية وإقليمية متقاطعة. وبدأت مؤشرات هذا التدهور بالظهور منذ قرار إلغاء رحلات الطيران الإيرانية إلى بيروت في 16 شباط (فبراير) 2025، مرورًا بتشديد الإجراءات الأمنية على الوفود الإيرانية والطائرات الأتية من العراق، وصولًا إلى امتناع وزير الخارجية يوسف رجي عن رفع نسخة من أوراق اعتماد السفير الإيراني الجديد إلى مجلس الوزراء أو القصر الجمهوري في 13 كانون الأول (ديسمبر) 2025، من دون أن تُبلَّغ طهران حتى الآن بالموافقة الرسمية اللبنانية على تعيينه. وزاد هذا المسار وضوحًا مع رفض الوزير رجي، في 10 كانون الأول (ديسمبر)، دعوة نظيره الإيراني عباس عراقجي لزيارة طهران، مبرّرًا ذلك بأن “الأجواء غير مهيّأة” حاليًا لأيِّ حوارٍ بين البلدين.

وتكتسب هذه التطورات أهمية إضافية في ضوء الانتقادات السابقة التي وُجِّهَت إلى السفير الإيراني الجديد مجتبى أماني، الذي شغل المنصب نفسه خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، واتهمته قوى معارضة لإيران بتجاوز الأعراف والتقاليد الديبلوماسية، وبالقيام بأدوار مرتبطة بنشاط “حزب الله”. وقد فاقمت تفجيرات أجهزة “النداء” (البيجر) من حدّة هذه الانتقادات، ولا سيما بعد إصابة السفير نتيجة انفجار أحد هذه الأجهزة. ويرى خصومُ إيران والحزب أنَّ إعادةَ إثارة هذا الملف، عبر تصويره كتعطيلٍ متعمّد أو كاستخفاف بمكانة إيران بذريعة دعمها للطائفة الشيعية، لا تهدف سوى إلى افتعالِ إشكالية داخلية، من خلال السعي إلى توتير العلاقة بين المكوّن الشيعي ومؤسسات الدولة اللبنانية.

تصاعد الخلافات الداخلية الإيرانية

على الساحة الإيرانية، تصاعد في الأشهر الأخيرة الحديث عن خلافاتٍ متنامية بين تيارات مختلفة داخل بنية الحكم حول كيفية التعامل مع الواقع الجديد الذي فرضته الحرب الأميركية–الإسرائيلية على إيران، وما رافقها من ضغوط دولية وعربية متزايدة على طهران، منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024. ويتمحور جوهر هذا الخلاف حول دور “حزب الله” وسلاحه، وكذلك حول مستقبل المشروع الإقليمي الإيراني، ولا سيما في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد وقيام تحالف واضح ومُعلن بين واشنطن والسلطة الجديدة في دمشق.

في هذا السياق، برزت في الآونة الأخيرة مؤشّرات إلى مرونةٍ نسبية في خطاب رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان ووزير خارجيته عباس عراقجي، خصوصًا في ما يتصل بالحديث عن مساعٍٍ جدية للتوصل إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة. وكان بزشكيان قد لوّحَ سابقًا بالاستقالة، احتجاجًا على حالة الانسداد السياسي وتفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية، وعجزه عن اعتماد مقاربة واقعية في إدارة شؤون البلاد، محمّلًا المسؤولية بشكلٍ أساسي لتدخُّل الحرس الثوري في تفاصيل القرار السياسي داخليًا وخارجيًا.

هذا الموقف دفع برئيسين سابقين إلى إعلان دعمهما العلني لبزشكيان، هما محمود أحمدي نجاد وحسن روحاني. وبينما يخضع أحمدي نجاد لإجراءات غير رسمية تحدّ من حضوره السياسي والإعلامي، في ظلِّ تراجُع نشاطه العام بعد الحرب الأخيرة، يواصل حسن روحاني تحركاته ولقاءاته المكثفة، مُهاجمًا بشدة مَن يعرقلون السياسات الواقعية للرئيس الحالي، وداعيًا إلى وضعِ حدٍّ للمزايدات والشعارات في ملف الصراع مع الغرب. ويُنظَرُ إلى روحاني بوصفه أحد أبرز المرشحين لخلافة المرشد الأعلى، إلى جانب السيد حسن، حفيد الإمام الخميني.

في المقابل، حرص المرشد الأعلى علي خامنئي على توجيه رسالة توازن محسوبة، إذ وجّه خلال لقاء خاص مع أعضاء الحكومة في أيلول (سبتمبر) 2025 شكرًا وتقديرًا لأدائهم، مع إشادة خاصة بالرئيس بزشكيان، معتبرًا أنَّ نمط عمله وروحيته هما ما تحتاج إليه البلاد في هذه المرحلة. وبهذه الإشارة، أعاد خامنئي تأكيد دوره التقليدي في الإمساك بخيوط السلطة من الوسط، محافظًا على توازن دقيق بين الرئاسة والحرس الثوري، وبين التيارَين المعتدل والمُتشدّد داخل النظام.

الوضع داخل “حزب الله”

ولا يبدو المشهد داخل “حزب الله” بعيدًا ممّا يجري في إيران، إذ يواجه الأمين العام الجديد الشيخ نعيم قاسم تحدّياتٍ داخلية جدّية، في ظلِّ وجود خصوم يعملون على عرقلة محاولاته تثبيت موقعه والإمساك بدفّة القيادة، ولا سيما أنّه يُعرَفُ بتفضيله مُقارباتٍ أكثر واقعية وبراغماتية. ويرى مراقبون أنَّ ارتفاع سقف مواقفه الأخيرة الرافضة لتسليم السلاح لا يعكس بالضرورة تشدُّدًا مطلقًا، بقدر ما يُشكّلُ رسالة مفادها الاستعداد لبحث هذا الملف، شرط أن يتمَّ ذلك ضمن إطارِ حوارٍ داخلي، وبعد وقف الضربات الإسرائيلية، لا تحت ضغطها.

في هذا السياق، تتقاطع مقاربة قاسم مع المواقف الأميركية والفرنسية والعربية المستجدّة، التي باتت تميلُ إلى احتواء مسألة السلاح والتركيز على مسار المفاوضات المباشرة بوصفه مدخلًا لتحقيق تسوية فعلية. ومن هنا يمكن فَهمُ امتناع الحزب عن شنِّ حملةٍ تخوينية عنيفة ضد تعيين مفاوض مدني، هو السفير السابق سيمون كرم، خلافًا لما درجت عليه عادته، ولا سيما أنَّ هذا التعيين حظي بغطاءٍ سياسي واضح من رئيس مجلس النواب نبيه بري.

ويعكس هذا السلوك توجُّهًا لدى ما يمكن تسميته بجناح الواقعية الإيراني–اللبناني، الداعي إلى البحث عن مُقارباتٍ جديدة لإدارة المرحلة، خصوصًا بعد قرارات الحكومة اللبنانية المُتعلّقة بحصر السلاح بيد الدولة، ودخول الجيش اللبناني إلى مواقع كانت خاضعة للحزب، بموافقته، إضافة إلى الانخراط في مفاوضاتٍ مباشرة مع إسرائيل على مستوى مدني. وفي هذا الإطار، يراهن كثيرون في إيران وداخل “حزب الله” على دور نبيه بري، الذي وافق على خيار التفاوض، وسعى إلى تسويقه لدى الإيرانيين عبر إيفاد معاونه السياسي علي حسن خليل إلى طهران في وقت سابق، في محاولة لتهيئة أرضية تفاهُم تتيح تمرير المرحلة بأقل قدر ممكن من الخسائر.

ومؤخّرًا، برز تطوُّرٌ لافت عكس تبدّلًا نوعيًا في مقاربة المجتمع الدولي للملف الأمني في لبنان، تمثّل في الجولة الميدانية التي نظّمتها قيادة الجيش اللبناني في قطاع جنوب الليطاني لعدد من السفراء والقائمين بالأعمال والملحقين العسكريين، من بينهم سفير الولايات المتحدة في لبنان، ميشال عيسى، بمشاركة قائد الجيش العماد رودولف هيكل وكبار الضباط. وهدفت الجولة إلى الاطلاع ميدانيًا على التقدّم الذي يحققه الجيش ضمن خطة حصر السلاح وتعزيز الأمن في المنطقة.

وفي بيانٍ نشرته على منصة “إكس”، أكدت السفارة الأميركية أنَّ هذه الزيارة تأتي في سياق تجديد التزام واشنطن دعم الجيش اللبناني وتعزيز قدراته في حماية السيادة وتنفيذ قرارات الدولة، ولا سيما في جنوب الليطاني. وحملت الجولة في طياتها رسائل سياسية وأمنية واضحة، إذ شدّدَ السفير عيسى على الدور المحوري للجيش بوصفه الضامن الوحيد للأمن، وعلى أهمية استمرار دعم المجتمع الدولي لمؤسسات الدولة اللبنانية في هذه المرحلة الحساسة.

وفي السياق نفسه، استضافت باريس في 18 كانون الأول (ديسمبر) مؤتمرًا تحضيريًا مُخصَّصًا لدعم الجيش اللبناني، بحضور الموفد الخاص للرئيس الفرنسي إلى لبنان جان إيف لودريان، والمستشارة السياسية للرئيس إيمانويل ماكرون آن كلير لوجاندر، وقائد الجيش العماد هيكل، إلى جانب الموفدة الأميركية إلى لجنة “الميكانيزم” مورغان أورتاغوس، في خطوةٍ عكست تنسيقًا دوليًا متزايدًا حول أولوية دعم المؤسسة العسكرية اللبنانية بوصفها ركيزة الاستقرار في البلاد.

موقفان مُتَعارضان

في مقابل الموقف الذي يجسده نبيه بري ويحتمي بالرئيس بزشكيان والجناح المعتدل في إيران، ويحظى باحتضان عربي تمثّله دعوة السعودية ومصر شخصيات من الحزب لزيارتهما (قيل إن النائب والوزير السابق عمار الموسوي قام بالزيارة مؤخرًا)، وموقف مصر وقطر وتركيا الداعي للحوار والتعامل بروية مع موضوع السلاح، خصوصًا مع استمرار الاحتلال والاعتداءات، يدعو المُتشدِّدون في الحرس الثوري وجماعتهم في داخل الحزب، إلى الحفاظ على ما تبقّى من سلاح وعدم تسليمه للدولة اللبنانية، ويواصلون العمل على إعادة بناء القدرات العسكرية، وهو الأمر الذي تستخدمه إسرائيل ذريعةً لاستمرار عمليات القتل المتنقلة. وقد أعاد مستشار مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي أكبر ولايتي توجيه الأنظار إلى خط التشدُّد في إيران، بتأكيد مواصلة إيران تقديم الدعم العسكري للحزب، خلال استقباله مسؤول “حزب الله” في إيران عبدالله صفي الدين. ومعروف أنَّ صفي الدين هو شقيق الأمين العام السابق للحزب هاشم صفي الدين، ومقرب جدًا من المرشد الأعلى ومن رجال الحرس القدامى، كما إنه يقيم منذ سنوات طويلة في إيران.

ويبدو أنَّ التعبئة والتحشيد ورفع السقوف العالية التي يمارسها التيار المتشدد في الحزب، ضرورية لشد العصب الشيعي المُتراخي بعد مقتلة الحرب الأخيرة وانهيار سردية “نحمي ونبني”، بسبب عدم قدرة الحزب على الرد على الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المستمرة يوميًا، أو  التعويض لضحايا الحرب الأخيرة وإعادتهم إلى قراهم ومنازلهم. ويبدو أنَّ الهدف الحقيقي هنا هو الانتخابات النيابية المقررة في أيار (مايو) 2026 والتي يستعجل الحزب خوضها اليوم قبل الغد، لتأكيد سيطرته المُطلقة على الطائفة الشيعية، في حين تريد قوى أخرى، دولية وإقليمية ومحلية، تأجيلها.

بين هذين الموقفين يبرز موقف وسطي (يبدو أن السيد خامنئي يشجعه) يرى أنه لا بد من تقديم تنازلات شكلية لحين تمرير الأشهر المقبلة بسلام. ويراهن هذا التيار على حصول تغييرات على المستويين الأميركي والإسرائيلي… تتلبور في الانتخابات الأميركية النصفية وقرب انتهاء ولاية الرئيس ترامب، وكذلك اقتراب موعد الانتخابات في إسرائيل. كما يراهن هذا التيار على حصول تطوّرات دولية، في فنزويلا على سبيل المثال، أو أوكرانيا، أو حتى بين الهند وباكستان، أو الصين واليابان، تشغل الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي عن ملف إيران وسلاح “حزب الله”، فيتراجع الضغط وتمر المرحلة بأقل الخسائر الممكنة.

إيران تفرض معادلتها: لا تسوية من دون طهران

عمليًا، تعمل إيران، كعادتها، على الإمساك بكل الأوراق المتاحة، وعلى وحماية حلفائها في آن؛ وهذا يعني شد الحبال وترخيتها بحسب الوضع الداخلي الإيراني وحجم الضغوط التي تتعرّض لها. وبالتالي فإنَّ إيران تعتبر، عن حق، أنَّ المواجهة لم تنته، بل قد تكون مؤجَّلة، بانتظار تطورات مقبلة. وفي الانتظار، تعمل إيران على فرض أجندتها بأنَّ على أيِّ حلٍّ أو تسوية أن تكون معها حصرًا، وليس مع أيِّ طرفٍ آخر (ولا حتى مع “حزب الله”)، وأنه لا يمكن استبعادها بالتالي من معادلات رسم مناطق النفوذ في المنطقة.

تحت هذا العنوان يبقى الأهم بالنسبة إلى إيران اليوم هو الحفاظ على “حزب الله” (وعلى الحوثيين طبعًا) بجسمه التنظيمي والعسكري، ومحاولة استعادة مواقع قوية في العراق بعد نكساتٍ عابرة، وذلك استعدادًا لأيِّ مواجهة قد تندلع، أو حتى استعدادًا لأيِّ تفاوض قد يُطرح. فهذه الأوراق حيوية وخطيرة بحيث لا يمكن التفريط بها أو تسليمها لأيٍّ كان. وقد تعزز الإمساك الإيراني بكلِّ مفاصل الحزب والقرار فيه، خصوصًا بعد مقتل الغالبية الساحقة من القيادات الخبيرة والمجرَّبة وعلى رأسها أمينان عامان تاريخيان، وعدد كبير من خيرة الضباط والقادة العسكريين والميدانيين والسياسيين. وتأكيدًا على كون طهران هي التي تملك القرار السياسي والعسكري في الحزب، كانت إطلالة عبد الله صفي الدين من عند مستشار السيد خامنئي الخاص. وفي المحصّلة يوجد خطان داخل إيران يمسك المرشد بهما ويناغم بينهما بحسب مصلحة البلاد. ويوجد كذلك في داخل الحزب خطان لا يتعارضان من حيث الوجهة الإستراتيجية، وهي حفظ الذات واستمرار الهيمنة والغلبة الداخلية، وإن تعارضا في بعض المقاربات أو وجهات النظر فإنما ذلك حول كيفية تمرير المرحلة الحالية. وبالتالي يحتفط الحزب بهذين الخطين بطريقة ذكية، ففي حال جنحت الأمور نحو التسوية يكون جاهزًا لذلك، وفي حال جنحت نحو المواجهة يكون أيضًا جاهزًا لها. وكل ذلك يبقى بالطبع خاضعًا لنوع من التنسيق مع طهران أو بالأحرى للقرار الإيراني النهائي.

  • الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى