اليمن بعد غزة: صعودُ الحوثيين وكلفةُ الفراغِ الأميركي

كَشَفَ ما بعد حرب غزة أنَّ اليمن لم يَعُد ساحةً هامشيّة في صراعاتِ الإقليم، بل نقطة ارتكازٍ جديدة لاختبار توازُنات القوّة والفشل الاستراتيجي. وبين صعود الحوثيين وتردُّد واشنطن، يقتربُ البلدُ المُنهَك من جولةٍ أخطر من عدم الاستقرار.

عبد الملك الحوثي: المعركة مع إسرائيل حتمية.

أبريل لونغلي آلي*

كانَ من المُفَترَض أن يُشكّلَ وقفُ إطلاق النار في غزة خلال تشرين الأول (أكتوبر) نقطةَ تحوُّلٍ تتجاوز حدوده الجغرافية، وأن يَنعكِسَ تهدئةً تلقائية في ساحاتٍ إقليمية مُتشابكة معه، وفي مقدّمها البحر الأحمر، وربما الساحة اليمنية أيضًا. وقد عزّزت التطوّرات الأولى هذا الانطباع، إذ أوقف الحوثيون —القوة المسلّحة المسيطرة على شمال اليمن بما في ذلك صنعاء، والمُرتبطة سياسيًا وعسكريًا بإيران و”حماس”— هجماتهم على السفن التجارية في البحر الأحمر، كما علّقوا عملياتهم ضد إسرائيل.

جاء هذا التراجُعُ في التصعيد مُتزامِنًا مع مفاعيل تفاهُمٍ سابق رعته سلطنة عُمان بين الحوثيين وواشنطن، أسهَمَ في خفض مستوى التهديد المباشر للمصالح الأميركية في أحد أهم الممرّات البحرية العالمية. وعلى الجبهة اليمنية الداخلية، استمرّت هدنةٌ هشّة، قائمة منذ نحو ثلاث سنوات ونصف، في تجميد خطوط القتال بين الحوثيين والحكومة المُعتَرَف بها دوليًا، من دون أن تفتحَ بابًا لتسويةٍ سياسية أو تَحسُمَ الصراعَ عسكريًا.

ورُغمَ أنَّ ميزان القوى لم ينقلب ضد الحوثيين، سادَ داخل دوائر صنع القرار الأميركية اعتقادٌ بأنَّ الملفَّ اليمني دخلَ مرحلةً من الاحتواء النسبي، ما أتاح لواشنطن إعادة توجيه اهتمامها نحو أولوياتٍ إقليمية ودولية أخرى، على افتراض أنَّ هذا الهدوء قابلٌ للاستمرار ويُمكِنُ التعويل عليه.

غير أنَّ هذا الافتراض لم يَصمُد طويلًا. فبعد أقلِّ من شهرين، بدأ الاستقرارُ الهشّ التآكل. ففي مطلع كانون الأول (ديسمبر)، أطلق الانفصاليون في جنوب اليمن حملةً واسعة للسيطرة على أجزاءٍ كبيرة من حضرموت، المنطقة النفطية المُتاخِمة للسعودية، والمهرة المُحاذية لسلطنة عُمان. ومَثّلَ تحرُّكُ المجلس الانتقالي الجنوبي —وهو فصيلٌ مُشارِك اسميًا في الحكومة المُعترَف بها دوليًا لكنه يدعو إلى انفصال الجنوب— تحوُّلًا نوعيًا في موازين القوى داخل البلاد.

يحظى المجلس الانتقالي بدعمٍ مباشر من دولة الإمارات، وقد أدّى توسُّعه السريع إلى فتحِ توتّرات جديدة مع السعودية، التي تدعم فصائل منافسة داخل الحكومة اليمنية وتتعامل مع أيِّ تغييرٍ جذري في الجنوب باعتباره تهديدًا مُحتَمَلًا لأمنها القومي. والأخطر أنَّ هذا الهجوم يُوفّر، عمليًا، ذريعةً جاهزة لتحرّكات أوسع من جانب الحوثيين.

وبالفعل، ومع تبلور معالم الحملة الجنوبية، سارع الحوثيون إلى التعهّد بتوسيع سيطرتهم على المناطق الغنية بالنفط والغاز في شرق اليمن. وعلى مدى السنوات الماضية، عملت الجماعة، بدعمٍ إيراني وبمساعدة شبكات إقليمية، على تطوير ترسانة متنامية من الأسلحة المتطوّرة، إلى جانب تعزيز قدراتها التصنيعية المحلية، ما مكّنها من تجميع صواريخ باليستية وإنتاج طائرات مسيّرة قصيرة المدى بقدرات شبه مستقلة.

تعكس ممارسات الحوثيين وخطابهم السياسي طموحًا يتجاوز تثبيت السيطرة في الشمال، نحو الهيمنة على كامل الجغرافيا اليمنية، مع الاستمرار في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة والسعودية والإمارات. وفي حال انهار وقف إطلاق النار في غزة، تبدو الجماعة مُستعدّة للعودة إلى استهداف الملاحة في البحر الأحمر، لا بوصفه ردَّ فعلٍ ظرفيًا فحسب، بل كأداة ضغط أثبتت فعاليتها وقد تُستخدم مجددًا لأهدافٍ أخرى.

في هذا السياق، يحمل تجاهل واشنطن للملف اليمني مخاطر متزايدة. فقد اقتصر تعامل إدارة دونالد ترامب حتى الآن على فرض عقوبات على الحوثيين، والحفاظ على تفاهُم ثُنائي معهم، مع التعويل على إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة في الخليج لمعالجة بقية التداعيات. وفي المقابل، تراجع الدور الأميركي في دعم الحكومة اليمنية أو قيادة مسار ديبلوماسي جاد لإنهاء الحرب الأهلية.

من دون استراتيجية أميركية أشمل، قد تأتي الضغوط المالية بنتائج عكسية. فحتى قبل تحرُّك المجلس الانتقالي الجنوبي، لوّحت قيادة الحوثيين بإمكانية التوسّع الميداني أو انتزاع تنازُلات مالية إضافية من السعودية. واليوم، ومع اضطراب الجنوب، بات المشهد اليمني أكثر قابلية للاشتعال، ما يهدد بإعادة إشعال صراع ظلّ حتى الآن يخدم مصالح الحوثيين. وأيُّ عودةٍ إلى حرب شاملة لن تبقى محصورة داخل اليمن، بل ستكون لها تداعيات مباشرة على أمن الخليج واستقرار البحر الأحمر.

محور التحدّي

مع انقشاع غبار الحرب الإسرائيلية على غزة، يبرز الحوثيون بوصفهم الاستثناء الأبرز في مشهدٍ إقليمي آخذٍ في الانكماش. ففي الوقت الذي تراجعت قدرات “حماس” بشكلٍ كبير، وانكفأ نفوذ “حزب الله” اللبناني، وسقط نظام بشار الأسد في سوريا، فيما آثرت الميليشيات الشيعية في العراق تجنّب المواجهة المباشرة مع إسرائيل، بدا أنَّ بقية أركان “محور المقاومة” الذي تقوده إيران فقدت الكثير من زخمها. وحدهم الحوثيون خرجوا من الحرب أكثر جرأةً وثقة.

لم تكن حرب غزة مُجرّدَ ساحةِ تضامُنٍ رمزي للجماعة، بل تحوّلت إلى رافعةٍ سياسية وإيديولوجية داخلية. فقد أتاحت لقيادة الحوثيين إعادة ترسيخ جوهرها العقائدي، وتهميش الأصوات البراغماتية، وتعزيز سرديةٍ تُعبّئ أنصارها حول “مهمّة مُقدَّسة” لتحرير فلسطين وقلب نظامٍ إقليمي تعتبره خاضعًا للهيمنة الأميركية والإسرائيلية. وفي هذا السياق، لم تَعُد المواجهة الخارجية عبئًا، بل أداة لإعادة إنتاج الشرعية الداخلية.

وقد جنت الجماعة مكاسب ملموسة من هذا التحدّي المستمر. فمن خلال الإبقاء على حالة تعبئة قصوى، تفادى الحوثيون المساءلة عن التدهور الاقتصادي في مناطق سيطرتهم، بما في ذلك تفشّي الفقر وعدم دفع رواتب موظفي القطاع العام. كما استغلّوا أجواء الحرب لتصفية حساباتهم مع خصومهم المفترضين، وتضييق أي هامش للمعارضة، وتعزيز قبضتهم الأمنية على المجتمع.

في الوقت نفسه، أسهمَ الصراعُ المفتوح مع إسرائيل في تسريع وتيرة التجنيد العسكري، بما في ذلك تجنيد الأطفال، وتسهيل تدريب جيلٍ جديد من المقاتلين وإخضاعه لعملية تلقين إيديولوجي مُمَنهَجة. وبحلول العام 2024، قدّرت مصادر مختلفة عدد مقاتلي الحوثيين بنحو 350 ألف عنصر، في رقمٍ يعكسُ ليس فقط التوسُّع العددي، بل أيضًا تحوُّل الجماعة إلى قوة عسكرية–اجتماعية واسعة النطاق.

وتضاعف هذا الخطر مع التطوُّر السريع في القدرات العسكرية للجماعة. ففي المراحل الأولى من حرب غزة، فشلت غالبية الصواريخ الحوثية في بلوغ العمق الإسرائيلي. غير أنَّ هذا الواقع تغيَّرَ تدريجًا، إذ بحلول أيار (مايو) 2025 باتت الصواريخ قادرة على استهداف مطار بن غوريون قرب تل أبيب. وفي أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، نجحت طائرات مسيّرة أطلقها الحوثيون في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية، ما أدى إلى إصابة أكثر من 20 شخصًا في إيلات وضرب مطار رامون القريب.

ولم يقتصر نطاق التصعيد على إسرائيل. فقد طالت صواريخ الحوثيين أيضًا ميناء ينبع النفطي السعودي، الواقع على بُعدِ نحو ألف كيلومتر من الحدود اليمنية، في إشارةٍ واضحة إلى اتساع مدى التهديد. كما وَفّرت حرب غزة للحوثيين خبرة عملياتية ثمينة، سمحت لهم بتحسين دقة الاستهداف، واختبار منظومات تسليح جديدة، من بينها صواريخ باليستية مُزوَّدة برؤوسٍ عنقودية.

ولتغذية هذا التوسُّع، عملت الجماعة على تنويع سلاسل إمدادها العسكرية وبناء شبكات خارج الإطار الإيراني التقليدي. فإلى جانب الدعم المستمر من طهران —التي كثّفت مساعداتها مع تراجع نفوذ أطراف أخرى في محورها الإقليمي— أقام الحوثيون علاقات مع خصوم آخرين للولايات المتحدة، من بينهم روسيا والصين. وباتت الجماعة تستورد مكوّنات ذات استخدام مزدوج ومواد عسكرية من الصين، تُستخدَم في تصنيع الأسلحة محليًا، ما منحها قدرًا أكبر من الاستقلالية التقنية.

وفي هذا السياق، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية في أيلول (سبتمبر) فَرضَ عقوبات على 32 فردًا وكيانًا مُرتَبطين بالحوثيين، بينهم عدد من المقيمين في الصين، بتُهَمٍ تتعلّق بجمع الأموال غير المشروعة، والتهريب، وشراء الأسلحة. غير أنَّ هذه الإجراءات، على أهميتها، لم تُحدِث حتى الآن اختراقًا حاسمًا في قدرة الجماعة على مواصلة التسلّح والتوسّع، ما يُعزّز القلق من أنَّ الحوثيين باتوا لاعبًا إقليميًا أكثر خطورة من أيِّ وقت مضى.

في المقابل، تُشيرُ تقارير غربية إلى اتساع شبكة الدعم الخارجي للحوثيين إلى ما هو أبعد من إيران. فبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، شاركت روسيا بمعلوماتٍ سرية وبيانات استهداف مع الجماعة عبر قنواتٍ مُرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، ما ساعد الحوثيين على توجيه هجماتهم ضد السفن الغربية في البحر الأحمر. كما زوّدت موسكو الحوثيين بشحنات نفط عبر ميناء الحديدة، في خطوةٍ تعكس تقاطع مصالح ظرفي بين الطرفين في مواجهة النفوذ الأميركي.

وعلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر، نسج الحوثيون علاقات أكثر خطورة. ففي الصومال، تشير تقارير أمنية إلى أنَّ الجماعة تُوَفّرُ السلاح والتدريب لحركة “الشباب” الجهادية السُنّية مقابل المال، مع بحث إمكانية إقامة شراكة لتعطيل الملاحة في خليج عدن. وبمرور الوقت، تحوّل الصومال إلى عقدة عبور رئيسة للأسلحة المهرّبة إلى مناطق سيطرة الحوثيين، ما أضاف بُعدًا أفريقيًا مقلقًا للصراع.

في هذا السياق، لم يُخفِ زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي أنَّ طموحات جماعته تتجاوز حدود اليمن. فمنذ تأسيس الحركة في مطلع الألفية، شكّل توحيد “العالم الإسلامي” في مواجهة النفوذ الغربي وإسرائيل ركيزةً أساسية في بنيتها الفكرية، غير أنَّ حرب غزة منحت هذا المشروع زخمًا غير مسبوق. وقد أعلن الحوثي صراحةً أنَّ جولاتٍ جديدة من القتال مع إسرائيل “حتمية”، واصفًا السعودية والإمارات بأنهما أدوات في المشروع الأميركي–الإسرائيلي وخائنتان للقضية الفلسطينية.

وفي خطابٍ تعبوي مُتصاعِد، يفاخر الحوثي بأنَّ حركته تُدرّب أكثر من مليون “مجاهد”، وبأنَّ اليمن الخاضع لسيطرة جماعته يتصدّر العالم العربي في مجالات الإنتاج والتصنيع العسكري. ورُغمَ أنَّ هذه الادعاءات لا تصمد أمام التحقُّق الواقعي، فإنها تؤدّي وظيفةً سياسية واضحة: ترسيخ صورة الحوثيين بوصفهم طليعة “المقاومة العربية” في مرحلةٍ يتراجع فيها نفوذ قوى أخرى رفعت الشعار نفسه.

ضغطٌ بلا سياسة

ومع تصاعُد نفوذهم، لم يَسلَم الحوثيون من الضربات. فقد ألحقت عملية “الفارس الخشن” —وهي حملة قصف مكثفة استمرت 52 يومًا وأطلقتها إدارة ترامب في آذار(مارس)— أضرارًا كبيرة بعدد من مستودعات الأسلحة ومنشآت التصنيع التابعة للجماعة، وإن ظلَّ الحجم الكامل للخسائر غير محسوم حتى الآن. كذلك، أسهم قرار الولايات المتحدة هذا العام إعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية في زيادة الضغوط الاقتصادية على المناطق الخاضعة لسيطرتهم، عبر عزلها جُزئيًا عن النظام المصرفي الدولي.

غير أنَّ هذه الإجراءات، رُغم كلفتها، تندرج في إطار ضغط أمني–مالي لا يواكبه تصوُّرٌ سياسي متكامل. فمن دون استراتيجية أوسع تُعالِجُ جذور الصراع اليمني وتوازناته الإقليمية، يبقى خطر أن يتحوّلَ هذا الضغط إلى عاملٍ إضافي يدفع الحوثيين نحو مزيد من التصعيد، بدل أن يحدّ من قدرتهم على المناورة.

منذ صيف العام 2024، ألحقت الغارات الإسرائيلية أضرارًا واسعة بالمناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين. فقد أدّت هذه الضربات إلى إغلاق المطار الدولي الوحيد في شمال اليمن، وتدمير أجزاء كبيرة من ميناء الحديدة، وإلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية للكهرباء في بلدٍ يُعاني أصلًا من انهيار خدماته الأساسية. كما طالت الهجمات الإسرائيلية بنجاح نسبي قيادة الجماعة. ففي آب (أغسطس)، أسفرت غارة عن مقتل رئيس وزراء الحوثيين وعدد من أعضاء حكومتهم في صنعاء، من دون أن يكونَ أيٌّ منهم من المُنظّرين أو القيادات العقائدية البارزة. وفي تشرين الأول (أكتوبر)، أعلن الحوثيون اغتيال رئيس أركانهم، وهو أحد أبرز الاستراتيجيين العسكريين في صفوفهم. ورُغمَ أنَّ هذه العمليات لم تنجح في الوصول إلى الحلقة الضيِّقة لقيادة الجماعة، فإنها دفعت قياداتها إلى الاختفاء، وأبطأت قنوات التواصل الداخلية، وأطلقت موجة من الشائعات حول احتمال مقتل شخصيات أخرى.

في المقابل، يبدو النهج الأميركي العام تجاه اليمن مُثقَلًا بالتناقضات. فمن جهة، وفّرت الهدنة الثُنائية التي أبرمتها واشنطن مع الحوثيين في أيار (مايو) مخرجًا سريعًا من عملية “الفارس الخشن”، التي تجاوزت كلفتها مليار دولار أميركي واستنزفت موارد عسكرية كانت مطلوبة في ساحات أخرى. لكن هذه الهدنة لم تمنع الحوثيين من مواصلة استهداف سفن غير أميركية في البحر الأحمر، ولا من الاستمرار في إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة باتجاه إسرائيل. كما إنها لم تُقدّم إطارًا طويل الأمد لحماية المصالح الأميركية في البحر الأحمر أو الخليج.

بل على العكس، أتاح هذا الترتيب للولايات المتحدة تقليص انخراطها السياسي والعسكري في اليمن، ما منح الحوثيين هامشًا أوسع لتصعيد مواجهاتهم مع خصومهم الداخليين والإقليميين بكلفةٍ أقل. وزاد من تعقيد المشهد قرارُ إدارة ترامب تعليق معظم المساعدات الإنسانية المُقدَّمة إلى اليمن، بما في ذلك تلك المخصّصة للمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المُعترَف بها دوليًا، والتي تدّعي واشنطن دعمها. وفي بلدٍ يعتمدُ فيه نحو 24 مليون شخص—أي غالبية السكان—على المساعدات الإنسانية، ويُصنَّف أكثر من 14 مليونًا منهم في خانة الاحتياج الحاد والمُلِح، شكّل هذا القرار ضربةً قاسية.

في الوقت نفسه، أدّى تشديد العقوبات وإغلاق القنوات الديبلوماسية أمام الحوثيين إلى تقويضِ أيِّ أُفُقٍ قريب لتسويةٍ تفاوضية. فلم تَعُد الولايات المتحدة تُعيّن مبعوثًا خاصًا لليمن، في إشارةٍ واضحة إلى تراجُع موقع الملف اليمني في سلَّم أولويات واشنطن. كما لا تدعم الإدارة العودة إلى الصيغة التي سبقت حرب غزة، والتي كانت تقوم على قبول الحوثيين بوقف إطلاق النار والدخول في مسارٍ سياسي مقابل حوافز مالية، تشمل دفع رواتب موظفي القطاع العام. ومع ذلك، لا تُبذَلُ سوى جهودٍ محدودة داخل واشنطن للبحث عن مسارٍ بديل قابل للحياة.

صراع جديد على السلطة

في ظل الاضطرابات المُتَجدِّدة في جنوب اليمن، قد تجدُ الولايات المتحدة وحلفاؤها الخليجيون أنفسهم أمامَ أزمةٍ أوسع نطاقًا. فمن الناحية النظرية، يُمكِنُ لكلٍّ من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية السعي إلى احتواء تداعيات سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على حضرموت، عبرَ تفاهُمٍ مُشترك يهدف إلى تهدئة التوتّرات داخل صفوف الحكومة اليمنية. وقد يفضي مثل هذا التفاهُم إلى تشكيلِ جبهةٍ أكثر تماسُكًا في مواجهة الحوثيين، بما يفتح الباب إمّا لإحياء مسار تسوية سياسية، أو لدفع القوات المناهضة للحوثيين إلى محاولة استعادة مناطق في الشمال قبل أيِّ مفاوضات مُحتَملة.

في هذا السياق، أعلن رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي أنَّ “الهدف التالي يجب أن يكونَ صنعاء، سلميًا أو بالحرب”. غير أنَّ أيَّ ترتيبٍ يسمح لقوات المجلس الانتقالي بدعم العمليات العسكرية على طول ساحل البحر الأحمر أو في محيط مدينة مأرب لاستعادة الشمال من الحوثيين سيكون بالغ التعقيد، ومن المرجح أن يتطلّبَ ضمانات للحُكم الذاتي في الجنوب، وربما التمهيد لاستفتاءٍ مستقبلي. ومع ذلك، يبقى تحقيق مثل هذا السيناريو مشروطًا أوَّلًا بحلِّ المأزق القائم في حضرموت بطريقةٍ تُراعي الهواجس الأمنية السعودية.

الوقت، في المقابل، لا يعمل لصالح هذا المسار. فاحتمالُ اندلاعِ مُواجهات بين فصائل الحكومة اليمنية يظلُّ قائمًا، وهو ما قد يمنح الحوثيين فرصةً لتحقيق مكاسب إضافية، عسكريًا أو سياسيًا. أما في حال أقدم المجلس الانتقالي الجنوبي على إعلان الانفصال —وهو خيارٌ يبدو مُتجنَّبًا في الوقت الراهن نظرًا لضعف فرص الاعتراف الدولي— فقد يدفع ذلك القوى الشمالية إلى إعادة تنظيم صفوفها ضده.

وحتى إذا لم تؤدِّ تحرُّكات المجلس الانتقالي إلى تفجيرِ حربٍ أوسع، فإنَّ الحوثيين سيواجهون قريبًا ضغوطًا لتخفيف أزمتهم الاقتصادية المتفاقمة. وهو ما قد يدفعهم إلى السعي إلى السيطرة على مزيدٍ من الموارد داخل اليمن، مثل محافظة مأرب الغنية بالنفط شرق صنعاء، أو إلى ممارسة ضغوط مباشرة على السعودية لانتزاع تنازلات مالية جديدة. وفي هذا الإطار، يُلوِّحُ الحوثيون علنًا بتهديد الرياض، مُطالبين بإنهاء الحرب الأهلية بصورةٍ نهائية، ورفع القيود المفروضة على الموانئ والمطارات، ودفع تعويضات عن الأضرار الناجمة عن الغارات الجوية السعودية بين العامين 2015 و2022. كما تعكس رسائلهم المتكررة —بما في ذلك إعادة نشر تسجيلات لتوغُّلاتٍ سابقة داخل الأراضي السعودية وهجمات على منشآت “أرامكو”— استعدادهم لاستخدام القوّة مُجَدَّدًا.

ونظرًا لانشغال السعودية بأولوياتها الداخلية وتنامي شكوكها حيال موثوقية المظلّة الأمنية الأميركية، تبدو الرياض أكثر عُرضةً للاستجابة لبعض هذا الضغط. ورُغمَ أنَّ أيَّ محاولةٍ حوثية للتوسُّع الميداني ستُواجِهُ مقاومةً داخلية يمنية، فإنَّ المملكة قد تتردّد في دعم هذه القوى المُناهضة للحوثيين خشية تجدُّد الهجمات العابرة للحدود. وفي المقابل، ومع تراجع موقع الحكومة اليمنية بفعل تحركات المجلس الانتقالي في الجنوب، قد يسعى الحوثيون إلى تعزيز مكاسبهم الإقليمية، على سبيل المثال عبر تكثيف جهود استمالة زعماء القبائل المُرتبطين بالحكومة في محيط مأرب.

أيٌّ من هذه المسارات كفيلٌ بمنح الحوثيين موارد إضافية لتعزيز قدراتهم العسكرية استعدادًا لمواجهات مستقبلية مع الولايات المتحدة وشركائها، فضلًا عن تقليص ما تبقّى من فرص التوصل إلى تسوية سياسية شاملة في اليمن.

لقد تعهّد القادة الإسرائيليون بمعاقبة قيادة الحوثيين على هجماتهم المباشرة ضد إسرائيل، وأعلنت الحكومة الإسرائيلية إنشاء وحدة استخباراتية جديدة مُخصّصة لمتابعة الملف اليمني. وفي حال انهار وقف إطلاق النار في غزة، من المرجّح أن تُستأنف المواجهات بين الحوثيين وإسرائيل، ما قد يُشتّت تركيز الجماعة عن جبهات أخرى ويوفّر فرصًا عسكرية محتملة لخصومها داخل اليمن. ومع ذلك، لا تستطيع واشنطن التعويل على إسرائيل للتصدّي للتحدّي الحوثي. فالواقع الجغرافي والعسكري يفرض قيودًا واضحة. إذ يتمركز الحوثيون على مسافة بعيدة من إسرائيل، ويتحصّنون في تضاريس جبلية وعرة تُشبِهُ إلى حدٍّ كبير بيئة أفغانستان. وكما أظهرت الحملات الجوية السعودية والأميركية سابقًا، لا يمكن القضاء على الجماعة بالقصف الجوي وحده. فضلًا عن ذلك، تتمتع إسرائيل بشعبيةٍ مُتدنّية للغاية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، ما يجعل أي ضربات إضافية—لا سيما تلك التي تطال البنية التحتية المدنية—عاملًا محفّزًا لغضب شعبي واسع ضد عدو خارجي مكروه. وحتى في حال نجحت إسرائيل في تنفيذ عمليات اغتيال جديدة تستهدف قيادات رفيعة المستوى، فقد يُفضي ذلك إمّا إلى صعود قيادة حوثية أكثر تشدُّدًا في صنعاء، أو إلى صراع داخلي على السلطة يُزعزع استقرار المنطقة بطرق جديدة.

من القاعدة إلى القمّة

إنَّ سَعيَ واشنطن لتجنُّب الانزلاق إلى حربٍ مُكلفة في اليمن أمرٌ مفهوم. فقد ألحقت نحو شهرين من القصف الأميركي المُكثَّف في ربيع العام الماضي أضرارًا ملموسة بالحوثيين، لكنها لم تُغيِّر سلوكهم أو تُضعِف سيطرتهم على الأرض. كما يُسلّطُ الهجومُ الأخير للمجلس الانتقالي الجنوبي الضوء على الانقسامات المُتزايدة داخل التحالف الداعم للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، ويكشف الطبيعة المعقّدة والمتقلّبة للسياسة الداخلية في البلاد. ومع ذلك، وبالنظر إلى الموقع الاستراتيجي لليمن على ممرِّ البحر الأحمر وقربه من حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في الخليج، لا تستطيع إدارة ترامب تحمُّل فراغ سياسي طويل الأمد.

ولتفادي انزلاق الوضع نحو صراعٍ أوسع، يتعيَّنُ على الولايات المتحدة إعادة توجيه اهتمام جاد إلى الملف اليمني. والأهم، أن تمارس واشنطن ضغوطًا على السعودية والإمارات لاحتواء التوترات في الجنوب سريعًا والتوصُّل إلى مقاربة مشتركة تجاه اليمن، باعتبار ذلك شرطًا أساسيًا لأيِّ تعامل فعّال مع الحوثيين. وبالتوازي، ينبغي تكثيف الجهود لدعم القوات اليمنية الموالية للحكومة في الحفاظ على خطوط المواجهة الحيوية، ولا سيما في مأرب وعلى امتداد ساحل البحر الأحمر، بهدف دفع الحوثيين إلى تقديم تنازلات. وفي هذا الإطار، يمكن لتعزيز الضمانات الأمنية الأميركية للسعودية والإمارات أن يؤدّي دورًا مهمًا، من خلال توفير تطمينات واضحة بأنَّ الولايات المتحدة ستتدخل للدفاع عنهما في حال تعرَّضَ أيُّ منهما لهجماتٍ حوثية.

يتعيّن على واشنطن، كذلك، إعادة إحياء دعمها لمسارٍ ديبلوماسي مُخَصّص لليمن. فالبلاد غارقة في الحرب منذ أكثر من عقد، وقد خلّفت الكلفة الإنسانية الهائلة آثارًا ستُلازِمُ المجتمع اليمني لأجيالٍ مقبلة. ولا يمكن معالجة تحدّي الحوثيين، ولا الأزمات البنيوية الأوسع في اليمن، عبر الضغوط الاقتصادية أو حملات القصف الخارجية وحدها. صحيحٌ أنَّ الإكراهَ يظلُّ عنصرًا ضروريًا —ولا سيما الضغط السياسي والعسكري الميداني الذي يقوده اليمنيون أنفسهم— غير أنَّ الديبلوماسية وصوغ بدائل سياسية لا يقلّان أهمية. ولتحقيق ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة تنسيق جهودها مع مختلف الفاعلين الرئيسيين، من اليمن والسعودية والإمارات وسلطنة عُمان إلى الأمم المتحدة وغيرها، من أجل بلورة خارطة طريق مُعدّلة لتسويةٍ سياسية.

كما يتعيّن على إدارة ترامب أن تُدرِكَ أنَّ النظام الأمني الإقليمي الذي تسعى إلى ترسيخه في الشرق الأوسط، والمُتَمَحوِر حول دول الخليج في مرحلة ما بعد غزة، لن يكونَ قابلًا للحياة إذا انزلق اليمن مجددًا إلى الفوضى. ففي غيابِ دورٍ أميركي فاعل، يُرجَّحُ أن تواصل السعودية والإمارات دعم فصائل مُتنافِسة داخل الائتلاف الحكومي اليمني، ما يُفاقم التوترات بين حليفَين أساسيين لواشنطن —وهي دينامية تتجلّى أيضًا في السودان— ويعمّق الانقسامات اليمنية، ويفتح المجال أمام الحوثيين، فضلًا عن جماعات عنيفة أخرى مثل تنظيم “القاعدة”، لاستغلال الفراغ. وقد يفضي ذلك إلى تجدّد تحرّكات الحوثيين على امتداد الإقليم.

لن تكونَ استعادةُ الاستقرار في اليمن مهمّةً سهلة. فهي تتطلّبُ ضمانات أمنية للملاحة في البحر الأحمر ولدول الخليج المجاورة، إلى جانب معالجة مطالب المجلس الانتقالي الجنوبي المتعلّقة بمستقبل الجنوب. وفي نهاية المطاف، لا مفرَّ من إشراك الحوثيين في عمليةٍ سياسية تُعيدُ توجيه اهتمامهم نحو الشأن الداخلي، عبر منحهم دورًا في صياغة مستقبل البلاد. قد تتعثّرُ أيُّ تسويةٍ في ظلِّ تضارُب المصالح وتشابك الأجندات، غير أنَّ كلفةَ التقاعُس ستكون أعلى بكثير، إذ ستضمن استمرار تصدير أزمات اليمن إلى أحد أهم الممرات البحرية في العالم وإلى الشرق الأوسط بأسره. لا تحتاج واشنطن إلى قيادة الجهود بنفسها، لكن المخاطر كبيرة إلى حدّ لا يسمح بتجاهلها.

Exit mobile version