محمّد قوّاص*
لا نحتاجُ إلى المبعوث الرئاسي الأميركي توم برّاك لنعرفَ أنَّ لبنان دولةٌ فاشلة. استضعفَ النظامُ الدولي هذا البلد، وفرض عليه، بالضغوطِ السَلِسة تارةً والضغوطِ القاهرة أحيانًا أخرى، أعباءً لا تتحمّلها تركيبته الاجتماعية والطائفية وفرادة منظومته السياسية في المنطقة. أملت عليه الإرادات الكبرى حالة فلسطينية، ثم حالة سورية، ثم حالة إيرانية، وخلال ذلك وحاليًا حالة إسرائيلية لم تتحمّلها دول المنطقة قاطبة.
قبل تلك المراحل وُصِفَ لبنان بأنه “سويسرا الشرق”، ليستنتج المبعوث الأميركي قبل أيام بأنه دولةٌ فاشلة. اطّلع برّاك على سطرين من تاريخ المنطقة، فاندفع يهجو قدر سايكس-بيكو ويُحاضِرُ في الطبيعة العشائرية والقبلية والطائفية في الشرق الأوسط. تبرّعَ بتغيير الخرائط، مُلمّحًا إلى “عودة” لبنان إلى سوريا. أدانَ السلوك “الحيواني” لصحافيي القصر الجمهوري في بعبدا. هنّأ الرئاسة والحكومة والبرلمان على حسن إدارة البلاد. أشادَ بقرار الحكومة بحصر السلاح بيد الدولة، وأثنى على جهود الجيش وخططه للسيطرة على سلاح “حزب الله” في جنوب لبنان. ومن بيروت طالب إسرائيل بتنازُلات.
لكنه عادَ من هناك مُنقَلبًا على نفسه، مُعلنًا أنَّ حكومةَ لبنان لا تفعل شيئًا. صارَ الرجلُ كثيرَ الكلام بما لا يليقُ بديبلوماسي وسيط، وفق ما لاحظ وزير الثقافة غسان سلامة. كثيرون تحدّثوا عن أنَّ توم برّاك بات خارج الفعل، وأنَّ عودة المبعوثة الأميركية مورغان أورتيغاس إلى الانخراط في ملف لبنان وتعيين ميشال عيسى سفيرًا لواشنطن في بيروت، من مؤشّرات أفول نجم برّاك واندثار نظرياته.
لكنَّ الرجلَ مزهوٌّ في حضرة الصحافية الشهيرة هادلي غامبل في اكتشاف أنَّ لبنان دولةٌ فاشلة. حتى أنه يستغربُ بسخط عدم اتصال الرئيس اللبناني برئيس الوزراء الإسرائيلي. بدا برّاك يسعى إلى مواراة فشله كوسيطٍ عجز عن ترتيب “ذلك الاتصال” ليصبً جام غضبه على ما نعرفه من فشل دولتنا وارتباك سلوكها.
كان رونالد ريغان رئيسًا لدولة الولايات المتحدة “الناجحة جدًا” حين أمر بسحب قوات المارينز من لبنان عقب تفجيرٍ أصابَ مقرّها في العام 1983. جاءت تلك القوات لدعم “نجاح” الدولة اللبنانية وإنهاء مسلّمة فشلها. لكن واشنطن تخلّت عن الهدف وسلّمت البلد طواعية، من جديد، إلى وصاية سوريا برئاسة حافظ الأسد. كان ريغان يهاتف الأسد لاحقًا كلما خطفت جماعات تابعة لإيران ديبلوماسيًا أو مواطنا اميركيًا في لبنان، مُكرّسًا إمعان دمشق في إفشال بيروت.
ولئن توصف دولتنا بالفاشلة، فإنَّ للولايات المتحدة باعًا طويلًا في ذلك. كادت كلمات المبعوث الأميركي السابق آموس هوكستاين تقول كلامًا قاسيًا ضد مطالعات برّاك. فرُغمَ عدّة التهذيب والتحفّظ والديبلوماسية التي استخدمها في التعليق على فتاوى برّاك عن فشل دولتنا، فإنه عرض لنموذج من ذلك الباع. وجب أن لا تظهر الولايات المتحدة فقط في مواسم القصف بل أن تأتي بالدعم الحقيقي لرفد قوة لبنان، حسب نصيحته.
يعرف المبعوث الرئاسي في عهد الديموقراطي جو بايدن، أنَّ واشنطن في عهد باراك أوباما قدمت لبنان أضحية على مائدة اتفاق فيينا النووي الذي فرضته صفقة جانبية أبرمت في أروقة مسقط في عُمان. هكذا نصنع من لبنان مجددًا دولة فاشلة.
لبنان ليس بريئًا من أسباب فشل دولته. غير أنَّ المنظومة السياسية للبلد قامت على أساس أنها هامشٌ تخضع للمتون، وأنَّ ما كان فخرًا في أنَّ “قوة لبنان في ضعفه” هو معادلة لطالما جعلت البلد مُمَيَّزًا بسبب قدراته على تقديم خدمات ترضي عواصم القرار القريبة والبعيدة.
أما وأن البلد يعاند طبيعته هذه الأيام ويَعِدُ في خطاب قسم الرئيس وبيان الحكومة بأن يُصبحَ دولة “ناجحة”، فإنَّ أصحاب تلك الطموحات قد لا يجيدون الصنعة فيما لا تراكم لتلك الحرفة في التراث العام.
ولئن يتبرّع برّاك بوصم دولة لبنان بالفشل، فإنَّ في ثنايا العتب دفعٌ خبيث ليكون أكثر فشلًا في خدمة نجاح مهمة المبعوث وتألق شخصه.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).
