البروفِسور بيار الخوري*
يَشهَدُ المشهدُ الإعلامي العالمي عودةً واسعة ولافتة لاستحضارِ أزمة 1929، وكأنَّ ذلك الانهيار البعيد صار فجأة المفتاحَ الضروري لفَهمِ اللحظة الاقتصادية المُتَقَلِّبة التي يعيشها العالم اليوم. صحفٌ ومجلاتٌ كبرى، مثل الـ”أوبزرفِر” ( The Observer) وال”إيكونوميست” وال”نيويورك تايمز” وال”فايننشال تايمز”، أعادت نشرَ مقالاتٍ مُطَوَّلة وتحقيقاتٍ مُعَمَّقة تُعيدُ قراءةَ الانهيار الكبير بوصفه النموذج الأكثر شَبَهًا بما يحدث الآن في ظلِّ فقاعة الذكاء الاصطناعي، والتضخُّم في تقييم الشركات، واتساع أسواق الائتمان الخاصة، وتزايُد النفوذ السياسي لرجال المال. وقد شكّل كتاب الصحافي الأميركي أندرو روس سوركِن الجديد، “ 1929: القصّة الداخلية لأكبرِ انهيارٍ في تاريخِ وول ستريت”، مادةً محورية في هذا الحراك، بعدما أعادَ الربطَ بين ما جرى قبل قرن وما يجري اليوم بطريقةٍ روائية تحليليّة جذبت المؤسّسات الإعلامية لتوسيع زاوية النظر إلى الأزمة.
في مقالات ال”أوبزرفِر” مثلًا، برزت المقارنة بين فورة الابتكارات التكنولوجية في عشرينيات القرن الماضي—السيارات والراديو والأجهزة الكهربائية—وبين الاندفاع الجنوني نحو الذكاء الاصطناعي اليوم، وهو اندفاع قال عنه سوركِن إنّه يُعيدُ إنتاجَ “وَهمِ الازدهار المُستَمر” نفسه الذي سبق الانهيار التاريخي. أما ال”إيكونوميست” فقد رَكَّزَت في تحليلها على التشابُه البُنيوي بين الفترتين: اندفاع الائتمان، تضخُّم قيمة الأصول، وتحوُّل أسواق الدين الخاص إلى قنبلة مُؤجَّلة تُشبِهُ ما سمّاه الاقتصاديون عام 1929 “دَين الهشاشة”. وذهبت ال”فايننشال تايمز” في تقاريرها الأخيرة إلى مُقارَنة دور المصارف المركزية اليوم بدور الاحتياطي الفيدرالي في العقد نفسه، حين كان يُتَّهَم بتجاوُز صلاحياته وبتأجيج الفقاعة رُغمَ تحذيرات الخبراء. أما ال”نيويورك تايمز”، (التي يعمل فيها سوركِن)، فأعادت سردَ قصص الأفراد الذين صنعوا فقاعة 1929، وقارنتهم بما تسميه “جيل أباطرة الذكاء الاصطناعي” الذين يملكون القدرة على التأثير في الأسواق بقراراتهم الفردية، تمامًا كما فعل قادة البنوك وأساطين شارع المال الأميركي “وول ستريت” قبل قرن.
هذه السلسلة من الإنتاجات الصحافية ليست مجرّدَ استعادةٍ تاريخية، بل محاولةٌ لتفسير اللحظة الراهنة عبر الماضي. فكلُّ هذه المؤسّسات رصدت بوضوح كيف تتكرّرُ الملامح نفسها: تفاؤلٌ مُفرِط، توقُّعات مُتضَخِّمة، تُدافِعُ على الاستثمار بدافع الخوف من التخلُّف عن الركب، تراكُمٌ مُفرِط للديون، واعتقادٌ راسخ بأنَّ التقنيات الجديدة ستُعيدُ تعريفَ الاقتصاد إلى الأبد. وهي الملامحُ نفسها التي سبق أن وصفتها الكتب الكلاسيكية عن الانهيار، ثم عادسوركِن ليحييها بعيونٍ معاصرة.
إنَّ هذا الاهتمامَ المُتجَدِّد لا يُمكِنُ فصلُهُ عن شعورٍ عالمي قلق بأنَّ الأسواقَ تعيشُ لحظةَ “تشابُهٍ خطير” مع ما سبق أزمة 1929. ومع توسُّعِ صحف ومجلّات كبرى في نشر هذه المقارنات، بدا واضحًا أنَّ استحضارَ الأزمة ليس نزعةً ثقافية أو ظاهرةً إعلامية، بل حاجة تفسيرية مُلحّة. فحين تتلاقى تقارير ال”إيكونوميست” مع تغطيات ال”فايننشال تايمز” ومراجعات ال”أوبزرفِر” وتحقيقات ال”نيويورك تايمز” حول الموضوع نفسه، فهذا يعني أنَّ العالمَ يُعيدُ النظرَ في تاريخ الفقاعات الكبرى لا ليقرأ الماضي، بل ليُحاوِلَ فَهمَ ما إذا كان يقف أمام “انكسارٍ” جديد. وفي هذه اللحظة، تبدو أزمة 1929 كأنها تعود إلى الواجهة ليس لأنها حدثٌ وَقَعَ وانتهى، بل لأنها نموذجٌ يُعيدُ ترتيبَ وَعيِنا كلَّما وصلت الأسواق إلى حدود الثقة المُفرِطة، وحدودِ الوهم.
وفي القراءة الاستشرافية لهذه العودة الواسعة نحو الأزمة القديمة، يظهرُ أنَّ الصحافة الدولية تُحاولُ تهيئةَ الجمهور وصنّاع القرار لاحتمال مرحلةِ تصحيحٍ عنيف، أو على الأقل لإعادة التفكير في حدود المخاطرة المسموح بها في عصر الذكاء الاصطناعي وتضخُّم الائتمان. فالإجماعُ الضمني بين هذه المؤسسات الإعلامية يوحي بأنّ العالم ربما يقفُ عند عتبةِ دورةٍ اقتصادية جديدة، تتداخل فيها التكنولوجيا مع ديناميّات السوق على نحوٍ قد يُعيدُ إنتاجَ الصدمة التاريخية نفسها بأشكالٍ جديدة. وإذا كانت أزماتُ الماضي لا تتكرَّرُ حرفيًا، فإنّها تعودُ دائمًا بصفتها تحذيرًا استباقيًا من أنَّ السوق، مهما بدت قوية، لا تستطيعُ النجاةَ إلى الأبد من ثقلِ الأوهام التي تحملها.
- البروفسور بيار الخوري هو باحثٌ أكاديمي لبناني وكاتب في الاقتصاد السياسي. وهو حاليًا عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: info@pierrekhoury.com
