مسقط… المحطّة الهادئة في رحلةِ تَرمِيمِ التوازٌنات اللبنانية

محمد سليم*

لم تكن زيارة الرئيس اللبناني جوزيف عون إلى سلطنة عُمان حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل محطّةٌ إضافية في جولةٍ عربية تهدفُ إلى إعادةِ وَصلِ ما انقطعَ بين لبنان ومحيطه الطبيعي. فبعد زياراته السابقة إلى السعودية وقطر والإمارات والكويت، تأتي محطة مسقط لتؤكّدَ أنَّ الرئيس الجديد يُرسِّخُ تدريجًا مُعادَلةً مختلفة في السياسة الخارجية تقومُ على التوازُن، والانفتاح، واستعادة الثقة المفقودة عربيًا ودوليًا.

تستمدُّ الزيارةُ أهمّيتها من عُنصرَين: توقيتها، ومكانها. فهي تَحصَلُ بينما يمرُّ الشرقُ الأوسط بمرحلةِ إعادةِ رَسمٍ عميقة لمُوازين القوى، ولبنان في قلبِ صراعٍ إقليمي لا يملكُ ترفَ الانحياز الكامل ولا القدرة على العزلة. أما اختيار عُمان، فهو بحدِّ ذاته إشارة سياسية دقيقة؛ فمسقط لطالما لعبت دور الوسيط الهادئ في المنطقة، وظلّت محطةً تُحافظ على قنوات التواصل حتى في أحلك الظروف. وهي دولةٌ تتعاملُ مع الملفّات الإقليمية بعقلٍ باردٍ وقُدرةٍ على جَمعِ الخصوم لا يملكها سوى قلّة في العالم العربي.

في هذا السياق، بدا لافتًا أنَّ البيانات والمواقف الصادرة عن الزيارة شدّدت على توسيع مساحة التعاون الاقتصادي والاستثماري بين البلدين، وعلى إدراجِ القطاع الخاص في أيِّ خططٍ مشتركة. هذا التوجّه لا ينسجمُ فقط مع حاجةِ لبنان إلى إعادةِ بناءِ اقتصاده المُنهَك، بل يَعكِسُ أيضًا قناعةً عربية بأنَّ دَعمَ لبنان لم يَعُد مُمكنًا على شكلِ مساعدات مباشرة، بل عبر إدماجه تدريجًا في شبكاتِ تعاوُنٍ مُستدامة. عُمان، التي تبني منذ سنوات نموذجًا اقتصاديًا هادئًا ومُستَقرًّا، ترى في لبنان فرصةً إذا استعادَ مؤسّساته وهدوءه السياسي، وتُدرِكُ في الوقت نفسه أنّ دعمَ الجيش والقضاء والإدارات الشرعية هو المدخلُ الوحيد لاستعادةِ هَيبَةِ الدولة.

وعلى المستوى السياسي، حرصت مسقط على تأكيدِ دعمها لسيادة لبنان ووحدة أراضيه، وهو موقفٌ ثابتٌ من السلطنة، لكنه يكتسبُ اليوم بُعدًا إضافيًا في ظلِّ التصعيد على الحدود الجنوبية والضغوط على لبنان للانخراط في تسوياتٍ تتجاوزُ قدرته. فلبنان الرسمي يحتاجُ إلى شبكةِ أمانٍ عربية تمنحه القدرة على التفاوُضِ بلا ابتزازٍ ولا عُزلة، وعُمان قادرةٌ على لعب هذا الدور نظرًا لحيادها الإيجابي وعلاقاتها المُتوازنة مع مختلف القوى الدولية والإقليمية.

اللافت أنَّ الرئيس جوزيف عون أظهرَ خلال جولته العربية، بما فيها زيارة عُمان، توجُّهًا واضحًا نحو إعادة تموضع لبنان: لا صدامَ مع أحد، ولا ارتهانَ لمحور، ولا خصومةً مع محورٍ آخر، بل محاولةٌ للعودة إلى موقع “الدولة المُمكِنة” بدل “الدولة الساحة”. هذا النهج لا يهدفُ فقط إلى تحسين صورة لبنان الخارجية، بل يُعيدُ الاعتبارَ إلى فكرة الدولة كمظلة جامعة، في مرحلةٍ بات فيها التموضع الحزبي والطائفي يُهدِّدان بتآكل ما تبقّى من مؤسساتها.

من جهة أخرى، تَعكِسُ زيارة عُمان إدراكًا لبنانيًا بأنَّ الأمنَ الاقتصادي والأمن السياسي مُترابطان. فالبلاد التي تُواجِهُ أخطرَ انهيارٍ مالي في تاريخها تحتاج إلى علاقاتٍ ثابتة لا تتقلبُ مع المزاج الإقليمي. والسلطنة، بخلافِ الدول التي تتحرّكُ وفقَ ديناميكيات النفوذ والصراع، تعتمدُ سياسةً هادئة تُشجّعُ على تبريدِ الملفّات بدلَ إشعالها. وقد تكونُ هذه المُقاربة بالضبط ما يحتاج إليه لبنان في لحظةِ تَعَقُّدِ المشهد الإقليمي وتصارُع مشاريع التسويات.

في المحصّلة، لا يُمكنُ التعويلُ على زيارةٍ واحدة لإحداث تحوُّلٍ جذري، لكن يمكن القول إن زيارة الرئيس جوزيف عون إلى مسقط تُكمّلُ خطًا بيانيًا تصاعديًا يُعيدُ تثبيتَ لبنان في موقعه الطبيعي داخل الحضن العربي، ويمنحه صوتًا مُتَّزنًا في عالمٍ يتغيَّر بسرعة. وإذا استطاع لبنان ترجمة هذا الانفتاح العربي إلى إصلاحٍ داخلي حقيقي، فقد تكون هذه الجولات بدايةَ مسارٍ لاستعادة الدولة وإنعاش الاقتصاد، بدل أن تبقى مجرّدَ لحظةٍ ديبلوماسية عابرة في زمن الأزمات.

Exit mobile version