ليسَ كلُّ سلامٍ نهايةً للحرب، فبعضُ اتفاقات السلام تُخفي تحت صمتها معارك أخرى — مع الطبيعة، ومع البقاء ذاته. في غزة، يبدأ طريق السلام الحقيقي من إعادة الحياة إلى الأرض قبل السياسة.
عمران خالد*
أُشِيدَ باتفاقية السلام التي وُقِّعت في شرم الشيخ في الثالث عشر من تشرين الأول (أكتوبر) بين إسرائيل وحركة “حماس” باعتبارها لحظة فارقة في مسارِ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فبعد عامين من المواجهات الدامية، جاءت هذه الاتفاقية، التي تولّت الولايات المتحدة الوساطة فيها، وحظيت بدعمٍ علني من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لتضع أُسُسًا جديدة لمرحلةٍ مختلفة. فقد نصّت على انسحابٍ إسرائيلي تدريجي من غزة، وإطلاق سراح الرهائن والأسرى، وإعادة فتح المعابر الحدودية الرئيسة بما يتيح تدفق المساعدات الإنسانية وبدء جهود إعادة الإعمار.
المرحلة الأولى من الاتفاق دخلت حيّز التنفيذ بالفعل؛ إذ أُعيد جميع الرهائن الإسرائيليين الذين ما زالوا على قيد الحياة، كما جرى تسليم رفاة معظم من قضوا، بالإضافة إلى الإفراج عن حوالي 2000 معتقل فلسطيني، وبدأت المساعدات المحدودة الوصول إلى القطاع. ومع ذلك، لا تزال القيود المفروضة كثيرة، والتوترات قائمة، وكأنَّ نارَ الصراع لم تُطفأ تمامًا بعد.
وتُثيرُ هذه الاتفاقية بصيصَ أملٍ هشّ، أملٍ بأن تخفت أصوات السلاح ولو مؤقتًا، ليبدأ سكان غزة رحلة شاقة نحو إعادة بناء ما تهدّم. غير أنَّ هذا الأمل، على رهافته، يواجه تهديدًا أعمق من الحرب نفسها، تهديدًا لا يمكن لأيِّ اتفاق سلام أن يُبدّده وحده: إنه الانهيار البيئي المتزايد الذي يزحف بهدوء، مُهدِّدًا بإضعافِ أُسُسِ أيِّ سلامٍ دائم يُمكِنُ أن ينعمَ به القطاع.
إنَّ جروحَ غزة ليست سياسية ولا معمارية فحسب، بل هي أعمق من ذلك بكثير. فهذا الشريطُ الساحلي الصغير والمُكتَظّ بالسكان، المحصور بين البحر الأبيض المتوسط وصحراء النقب، ويقطنه أكثر من مليوني إنسان، يعيشُ اليوم حالة طوارئ بيئية متسارعة، زادت الحرب من شدّتها وأفرغتها من أيِّ قدرةٍ على الاحتمال. ارتفاعُ منسوب مياه البحر، وتلوّثُ المياه الجوفية، وخرابُ الحقول الزراعية لم تَعُد احتمالاتٍ مستقبلية بعيدة، بل تحوّلت إلى تهديداتٍ يومية ملموسة تفرُضُ حضورها القاسي على الحياة في القطاع.
يكفي أن نتأمّلَ في حجم الأثر الذي خلّفته الحرب على البيئة لنُدرِك عُمق الأزمة. فخلال الأشهر الخمسة عشر الأولى من الصراع، رجَّحت النقارير أنَّ العمليات العسكرية وحدها أطلقت ما يقارب 1.9 مليون طن متري من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون، وهي كمية تفوق الانبعاثات السنوية لعدد من بعض الدول مجتمعة، وتُوازي حرقَ أكثر من 800 ألف طن من الفحم. وفي الوقت نفسه، تعطّلت جميع محطات معالجة مياه الصرف الصحي الست في غزة عن العمل بالكامل، ما أدّى إلى تدفّق نحو 130 ألف متر مكعب من مياه الصرف غير المُعالَجة يوميًا إلى البحر الأبيض المتوسط، لتغدو مياهه ساحة مفتوحة للتلوث، وموطنًا لتهديد متزايد للحياة البحرية والنظم البيئية الساحلية.
أما الخسائر الزراعية فكانت كارثية بكلِّ المقاييس. فبحلول آب (أغسطس) 2025، تضرّرت أو دُمّرت 91.7% من الأراضي الزراعية في القطاع، وتُلِفَ 97% من المحاصيل الشجرية التي كانت تشكل مصدر رزق لآلاف العائلات. أعمال التجريف المتكررة، وتسرُّب الملوحة إلى التربة، وجريان المواد الكيميائية الناتجة عن القصف حوّلت مساحات واسعة إلى أرضٍ قاحلة لا تصلُحُ للزراعة.
بالنسبة إلى سكان غزة العاديين، لا تُعَدُّ هذه الأرقام مجرّدَ إحصاءاتٍ باردة، بل هي واقعٌ يُهدّدُ وجودهم ذاته. فالعائلات النازحة من خان يونس وبيت لاهيا تعيش الآن في مخيمات مُكتظّة في رفح، حيث تحوّلَ الحصولُ على الماء النظيف إلى كنزٍ نادر. تنتشر أمراضٌ مثل الكوليرا في شبكات المياه الملوَّثة، ويُصابُ الأطفالُ بالأمراض بسبب شرب مياه الآبار المالحة أو الملوَّثة. أما النفايات، فتتراكم تحت وطأة الحرّ والرطوبة، ناشرةً روائح خانقة ومخاطر صحّية جسيمة.
إنَّ ما يعيشه سكان غزة اليوم ليس مجرّدَ أزمة بيئية عابرة، بل مأساة وجودية تتشابك فيها الحرب والمناخ والحرمان، لتخلق واقعًا يهدد الحياة نفسها في واحدةٍ من أكثر بقاع الأرض هشاشة.
لا يزال ما يقرب من 1.9 مليون إنسان، أي نحو تسعين في المئة من سكان غزة، مُشرَّدين عن بيوتهم، وكثيرون منهم نزحوا أكثر من مرة واحدة خلال الصراع. يعيشُ هؤلاء في مناطق منخفضة مُهدَّدة بالفيضانات، ومُعرّضة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى لتقلبات الطقس المتطرِّف. إنها ليست مجرّدَ مأساة إنسانية، بل أزمة مُرَكّبة تتقاطَعُ فيها المعاناة البشرية مع الانهيار البيئي، فتُضاعفُ أثر الدمار وتُعمّقُ هشاشةَ الحياة اليومية في القطاع.
يُحذّرُ برنامج الأمم المتحدة للبيئة من مستقبلٍ أكثر قتامةً إن لم يُتَدارَك الوضع سريعًا. فبحلول العام 2050، قد يؤدّي ارتفاعُ مستوى سطح البحر إلى إغراق أو غرق أجزاء واسعة من المناطق الساحلية المنخفضة في غزة، وهو سيناريو واقعي يهدد باقتلاع عشرات الآلاف من أماكن سكناهم مجددًا. أما طبقة المياه الجوفية الساحلية، التي تُعَدُّ المصدرَ الوحيد للمياه العذبة في القطاع، فقد أُنهِكَت بفعل الضخّ المفرط وتسرُّب مياه البحر إليها، حتى باتت 95 إلى 97 في المئة من مياه غزة غير صالحة للشرب.
ومع اقترابِ فصل الشتاء، تتوالى التحذيرات من عواصف مقبلة تحملُ معها أمطارًا تتراوح بين 450 و500 مليمتر، ورياحًا قوية، وأمواجًا عاتية قد تُغرِقُ بُرَكَ الصرف الصحي المتضرّرة وتفيضُ على الأحياء السكنية، ناشرةً الأمراض في منطقةٍ بالكاد تقوى على الاحتمال. فكلُّ قطرة مطر هنا قد تتحوّلُ إلى تهديد، وكلُّ موجةٍ عاتية إلى كارثةٍ مُحتَملة.
لكن هذه الظروف لم تنشأ بالمصادفة. فسنواتٌ طويلة من القيود المفروضة على الواردات منعت ترميمَ محطات الصرف الصحي، وأعاقت إصلاحَ شبكات الكهرباء والبنية التحتية الزراعية التي كان يُمكن أن توفّرَ قدرًا من المرونة في مواجهة المناخ القاسي. ومع القصفِ الشديد والمتكرر، تحطمت ألواح الطاقة الشمسية، وتفجّرت أنابيب المياه، ودُمِّرت أنظمة الريّ التي كانت تُغذّي المزارع القليلة الباقية.
ولا تقتصرُ الكارثة على غزة وحدها. ففي الضفة الغربية، تتسرّبُ مياه الصرف الصحي غير المُعالَجة من المستوطنات الإسرائيلية إلى الحقول الفلسطينية، ملوِّثةً التربة ومياه الريّ، ومُضاعِفةً الأعباء البيئية التي تتقاطع مع التوتّرات السياسية. وهكذا يتشابك الدمار البيئي مع الانقسام السياسي، فيغدو الخطر مضاعفًا: أرضٌ تُنهكها الحرب والمناخ، وشعبٌ يواجه مأزق البقاء وسط أزمات لا تنفكّ تتناسل من رحم بعضها البعض.
تغيّرُ المناخ هو العامل الذي يُضخّم كل أزمة في غزة ويُحوّلها إلى كارثة مضاعفة. فحين يضرب الجفاف، لا يقتصرُ أثره على الأرض العطشى، بل يمتدّ ليصيب الأمن الغذائي في الصميم. وحين تهبّ العواصف، لا تكون مجرّدَ تقلّبات جوية عابرة، بل تتحوّلُ إلى كوارث إنسانية وبيئية متشابكة. يُحذّرُ البنك الدولي من أنَّ غزة، ما لم تحصل على استثماراتٍ جادة وطويلة الأمد في أنظمة المياه والزراعة والبنية التحتية القادرة على التكيّف مع المناخ، فإنها تتجه نحو مستقبلٍ من الأزمات المتكرّرة: شحٌّ في المياه، وتدهورٌ في الأراضي الزراعية، ونزوحٌ جماعي قد يُشعل موجاتٍ جديدة من عدم الاستقرار في المنطقة بأسرها.
لقد جاء اتفاق شرم الشيخ ليؤكد، بحق، على أولوية الأمن، وعلى المعالم السياسية والمساعدات الإنسانية التي ترافق مسار السلام. لكنه، في المقابل، تجاهل جانبًا بالغ الأهمية: التجديد البيئي. فكما حدث في تجارب أخرى من السودان إلى أوكرانيا، يتكرّرُ النمط ذاته؛ حيث يُنظَرُ إلى المناخ والبيئة باعتبارهما قضايا ثانوية، مؤجَّلة إلى ما بعد التوصُّل إلى التسويات الكبرى، أو كمشاريع خارجية منفصلة عن عملية السلام نفسها.
ينصُّ الاتفاق على نزع السلاح، ويتعهّدُ بتخصيص مليارات الدولارات لإعادة الإعمار، لكنه لا يضع خارطة طريق واضحة لإعمارٍ مُستدام يُراعي التوازن البيئي والقدرة على الصمود أمام التغيُّر المناخي. وهنا تكمن خطورته الحقيقية. فإزالة الأنقاض وحدها كفيلة بإطلاق عشرات الآلاف من الأطنان من غازات الاحتباس الحراري. وتشير التقديرات إلى أنَّ عملية إعادة تدوير أو التخلُّص من ما بين 40 و61 مليون طن من الأنقاض قد تُطلقُ ما يعادل 46 إلى 60 مليون طن إضافية من مكافئ ثاني أوكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي.
وإذا ما تمَّ تجاهُلُ مبدأ المرونة المناخية في إعادة البناء ــإن شُيِّدَت منازل جديدة على سواحل تتآكل، وإن استُعيدت الزراعة بدون اعتماد محاصيل مقاومة للملوحة، وإن أُعيدَ بناء شبكات المياه بدون إقامة حواجز وقائية ضد الفيضانات والتلوثــ فإن ما سيُعاد بناؤه لن يكونَ سوى نسخةٍ أكثر هشاشة من الدمار السابق. سلامٌ هشّ فوق أرضٍ مهددة، يُعيدُ إنتاجَ دورة الانهيار بدل كسرها.
إذا كان للسلام في غزة أن يكونَ سلامًا حقيقيًا ودائمًا، فلا بد أن يُثمِرَ عائدًا بيئيًا ملموسًا، لا أن يقتصرَ على المكاسب السياسية أو الإنسانية. فإعادة الإعمار يجب أن تُنعِشَ البيئة وتُعيدَ إليها قدرتها على الحياة، لا أن تُثقلها بمزيدٍ من التدهور. ولهذا، ينبغي على الدول المانحة —من الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج— أن تُوجّه تمويلها نحو مشروعات تبني مستقبلًا مستدامًا، لا مجرد جدرانٍ جديدة. فالمطلوب اليوم ليس فقط تشييد مبانٍ إسمنتية، بل الاستثمار في تحلية المياه بالطاقة الشمسية، وأنظمة تجميع مياه الأمطار، وإعادة تدوير المياه العادمة، وبناء دفاعات ساحلية مرنة تحمي الشواطئ والسكان على حد سواء.
لقد بدأت الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل بالفعل في توسيع نطاق مشروعات التحلية المعتمدة على الطاقة الشمسية، ويمكن لغزة أن تستفيدَ من هذه التجارب لتطوير حلولها الخاصة. كما إنَّ زراعة أشجار المانغروف (الآيكة الساحلية)، وتدعيم الكثبان الرملية، وبناء حواجز طبيعية وهندسية مرنة على طول الساحل يُمكن أن يُسهِمَ في الحد من التعرية، وفي الوقت نفسه يخلق فرص عمل جديدة تُعزّزُ الاقتصاد المحلي. ويمكن أن يتولّى صندوقُ صمود تُنسّقه الأمم المتحدة تمويل هذه الجهود، من الإسكان المستدام إلى الزراعة الذكية مناخيًا، مرورًا بأنظمة إدارة المياه المتجددة. هذه ليست رفاهية أو بنودًا تجميلية، بل هي سياسات تأمين للمستقبل، تضمن أن يكون السلام مُحصّنًا ضد أزمات الغد.
لكنَّ نجاحَ هذا المسار مرهونٌ بأن ينبع التصميم والإشراف من داخل غزة نفسها. فكثيرٌ من مشاريع الإعمار في مناطق النزاع فشلت لأنها تجاهلت المعرفة المحلية. يجب أن يكون المزارعون الغزاويون، ومهندسو المياه، والخبراء البيئيون في قلب عملية التعافي، لا على هامشها. فهم الأدرى بتربة أرضهم، وبطبقات المياه الجوفية، وبالمناخ المحلي، وبأساليب إعادة استخدام الموارد المحدودة بذكاء وفعالية. فالمعرفة التي راكمها هؤلاء عبر عقود من التكيّف مع ظروف قاسية هي رأس المال الحقيقي لأيِّ بناءٍ مستدام.
وما يُميّزُ هذا النهج التشاركي أنه لا يقتصر على البُعدِ البيئي فقط، بل يُبشّر أيضًا بعوائد سياسية ملموسة. فعندما تُعاد تأهيل الأنظمة الأساسية للحياة، يمكن لغزة أن تفتح قنواتَ حوارٍ جديدة مع إسرائيل في مجالات تكنولوجيا المياه، والمحاصيل المقاومة للجفاف، والإدارة المشتركة للسواحل — إن سمحت الظروف السياسية بذلك. ولن يكونَ هذا التعاون كفيلًا بمحو جذور الصراع، لكنه قد يؤسس روابط عملية قائمة على المصالح المشتركة، وهي اللبنات الأولى لأيِّ سلامٍ واقعيّ ومستقرّ.
عند النظر إلى الماضي، يتَّضِحُ أنَّ السلامَ الذي يدوم لا يقوم على الأمن وحده، بل على التجديد والإعمار الشامل. فبعد الحرب العالمية الثانية، لم تنهض أوروبا من رمادها عبر رسم الحدود أو تسريح الجيوش فحسب، بل من خلال مشروع إعادة بناء عميق استثمر في الاقتصاد، والبنية التحتية، والقدرة على الصمود البيئي. من هنا، تحتاج غزة إلى نموذجٍ موازٍ، تُصبح فيه النهضة البيئية محورًا للمصالحة، لا مجرّد مُلحقٍ بها.
فالسلامُ الحقيقي في غزة لن يتحقق فقط عند فتح المعابر أو إطلاق سراح الرهائن والمعتقلين، بل عندما يتوافرُ لكلِّ إنسان فيها ماء صالح للشرب، ومسكن آمن، وأرض خصبة، وهواء نقيّ. هذه هي المقوّمات التي تمنح السلام معنى وقوة واستمرارية. أما إذا غابت هذه الأُسُس، فإنَّ وعد الاتفاق سيتلاشى، وسينهار السلام كما ينهار البناء فوق أرضٍ رخوة.
لقد صمت العالم طويلًا أمام دوّامات العنف والمعاناة، أما الآن، فعليه أن يتجاوزَ الصمت إلى فعلٍ إيجابي يُعيد شفاء الأرض نفسها. فسلامُ غزة لا يُقاس بعدد البنود الموقّعة، بل بقدرتها على التنفس من جديد، وعلى أن تنبت في ترابها حياةٌ تصلح لأن تُبنى فوقها الأحلام.
- عمران خالد هو محلل جيوستراتيجي وكاتب رأي في الشؤون الدولية. نُشرت أعماله على نطاق واسع في مؤسسات إخبارية ومنشورات دولية مرموقة.
